ألقت الكارثة التي تسببت فيها حافلة بمدينة القليعة في ولاية تيبازة، أول أمس، بظلالها على المشهد اليومي لمحطات نقل المسافرين ومواقف النقل الجماعي، بعد المجزرة المرورية التي راح ضحيتها ثلاثة أطفال هم تلاميذ في عمر الزهور، بغتة ودون سابق إنذار بمرض عضال أو خطأ طبي أو حمى التهاب السحايا أو بتسمم غذائي فشل الأطباء في إيجاد العلاج له. الضحايا كانوا في طريقهم إلى المدرسة، وفجأة “هاجمتهم” حافلة مجنونة حاول سائقها تجاوز مركبة أمامه، محاولا استباق المنافسين الذين يصطادون الركاب بكل ما أوتوا من قوة وحيلة ومغامرات في كثير من الأحيان.. فكانت المحصّلة ليس مزيدا من النقود تدخل جيوب صاحب الحافلة، وإنما إزهاق أرواح ثلاثة من التلاميذ الذين لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا في طريق هذه الحافلة. مثل هذه المظاهر ليست جديدة، فكم من مرة صرخ السكان في وجه السلطات المعنية بقطاع النقل والمرور، لكن دون جدوى.. بل إننا نشاهد المزيد من المغامرين يجلسون خلف مقود السياقة ويمارسون القتل. ولعل حادث آفلو بالأغواط ليس ببعيد عن الأذهان، عندما قتلت حافلة قادمة من وهران في سبتمبر الماضي عشرين شخصا من قرية واحدة، تبين بعد التحقيق وخلال المحاكمة أن السائق كان تحت تأثير “الزطلة”.. فكان العقاب سجنا لمدة عشر سنوات. لقد صار الناس يركبون الحافلة وهم مجبرون على قراءة أدعية السفر والنطق بالشهادتين بعد توديع الأهل، بل ومنهم من يتلو القرآن بصوت مسموع في الحافلة مخافة الموت سحقا في الطرقات. لكن ومع هذا فقلة قليلة من المسافرين من ينتقي حافلته التي يريد أن يسافر على متنها، من خلال معايير معينة قد تقيه شر الحوادث المميتة. ويجمع الكل على أن المسافر لا حول له ولا قوة، فهو مجبر على السفر مهما كان الأمر. الأمان الغائب تشير إحصاءات المركز الوطني للأمن عبر الطرق، التابع لوزارة النقل، إلى أن السفر عبر الطرقات بواسطة الحافلات يبقى الوسيلة الأكثر أمانا في الجزائر، حيث تحصي الحظيرة الوطنية للحافلات أكثر من 70 ألف حافلة تنقل 50 مليون مسافر سنويا، وتجوب مختلف طرقات الوطن بمعدل 7 إلى 9 ساعات يوميا، وأن حوادث المرور التي تتسبب فيها الحافلات لا تتجاوز 2.5 إلى 4 بالمائة من مجموع الحوادث. غير أن السؤال الذي يبقى مطروحا بشدة هو عدد الوفيات التي تخلفها هذه الحافلات، والذي يبقى رقما مخيفا ومقلقا في آن واحد، إذ تؤكد الأرقام المستقاة من مصالح الأمن والحماية المدنية أن عدد الضحايا تجاوز، خلال السنة الماضية، 236 قتيل، والأمرّ أن نصف هذا العدد هم من الأطفال بواقع 133 طفل تقل أعمارهم عن 9 سنوات.. فأين هو الأمان الذي تتحدث عنه الوزارة؟ ضعف الرقابة التقنية الكثير من المواطنين يستطيعون الإدلاء بشهاداتهم حول حالة الحافلات التقنية، والأخطار التي تنطوي عليها، بسبب انعدام الرقابة التقنية وضعفها في بعض الأحيان، بل إننا كثيرا ما نسمع عن حافلات تدخل مراكز الرقابة التقنية وتخرج دون أن تفحص.. بل إن الحالة المهترئة للحافلات والأعطال التي تصيبها أثناء السير، وغياب النظافة وسوء أدب بعض العاملين فيها من السائقين و”القباضين”.. تدمي القلب ويندى لها الجبين خجلا. وأمام هذه الحالة، يقف أعوان السلطات المعنية خلف مكاتبهم دون حراك، بل ويتعاملون مع مآسي المواطنين بمنطق “تخطي راسي”، وملء المقاعد فقط.. فهل سمعتم عن ردع أو معاقبة مخالفين للقانون من أصحاب الحافلات والسائقين الذين يتفننون في إهانة المواطنين يوميا بمحطات النقل الجماعي وعلى الطرقات؟ الجواب بكل تأكيد لا.. لأن لا مديريات النقل المنتشرة عبر الولايات، والوصاية المركزية وباقي المتدخلين يؤدون مهامهم القانونية.. ويتركون المواطن يدفع فاتورة سوء اضطلاعهم بمسؤولياتهم ومواقعهم الإدارية وممارساتهم التي هي تواطؤ مفضوح مع المخالفين للقانون! ولو حاولنا عبثا التمعن في مآسي الطرقات التي وقعت منذ سنة تقريبا، لوجدنا أن ما تسببت فيه حافلات الموت صار كابوسا حقيقيا حطمت من خلاله أرقام قياسية من حيث عدد الموتى والمصابين، لأنها ببساطة تمثل الموت الجماعي الذي تؤول إليه أرواح الأبرياء في لحظة تهور. ونقلت “الخبر” هذه الانشغالات إلى اتحاد الناقلين.. فجاء جوابها أن السبب الرئيسي للحوادث المميتة التي نسجلها بأيدي سائقين يعود إلى نقص التكوين وعدم احترافية الناقلين، بدليل أن 80 بالمائة من الحوادث ناجمة عن أخطاء بشرية، منها 55 بالمائة يتسبب فيها سائقون لم تمر سنتان على منحهم رخص السياقة. ويشير نائب رئيس الاتحاد “ينص قانون 2001 على وجوب امتلاك سائق الحافلة أو سائق نقل جماعي لدبلوم، من طرف جهة رسمية، غير أن هذا الاختصاص لم يفتح لحد الآن”. ولعله من أمهات الثغرات التي يسكت عنها الجميع، من نقابة ووزارة وهيئات تابعة لها، هو السكوت على ظاهرة تأجير الحافلات من طرف أصحابها إلى غيرهم بمقابل مالي يومي، ويحدث أن يتعدد المستأجرون ما يتسبب في الكارثة بسبب الحرص على تحقيق الحد الأدنى المطلوب من المداخيل التي تذهب للمؤجر، وهنا يقوم السائق بتجاوز كل القوانين والدوس على رقاب المواطنين بسوء المعاملة والإمعان في إذلالهم من خلال الانتظار الطويل بالمحطات وبحشو الحافلة بالركاب دون مراعاة القانون. ومن المسكوت عنه، أن الكثير من أصحاب المركبات يعهدون مهمة السياقة والقباضة إلى أشخاص مسبوقين قضائيا وهو ما يطرح العديد من التساؤلات على الجهات الوصية، وأجهزة الرقابة، ما يعرض كرامة الركاب للانتهاك بتصرفات نستحي من ذكرها. دروس لمن لا يعتبر ومما يزيد من الشعور ب”الحڤرة والتجاهل”، مواقف السلطات العمومية التي كانت بعد كل مأساة تتوعد المخالفين وقتلة المواطنين على الطرقات، بالعقاب الشديد وبإجراءات جديدة لوضع حد للسائقين المتهورين. فقد وعدت وزارة النقل بعد حادث مقتل شخصين في موقف حافلات بحي الأبيار سنة 2013، بإعادة النظر في منظومة النقل الجماعي واعتماد تدابير لتقليص عدد الحوادث، مثل محدد السرعة وتشديد الرقابة التقنية على مركبات النقل، إضافة إلى التكوين وتشديد العقوبات والردع ضد المتهورين من السائقين وأصحاب الحافلات.. لكن شيئا من ذلك لم يحدث بل ترك الحبل على الغارب، واستمر المستهترون بحياة الركاب وغير الركاب في زهق الأرواح.