ليس صدفة أن تحتل الجزائر، اليوم، مرتبة متقدمة في سلم حوادث المرور، حيث تعد من بين البلدان المعروفة على المستوى العالمي من حيث نسبة حوادث الطرقات التي تحصد يوميا العديد من الضحايا وتتسبب في إصابة العديد من المواطنين بعاهات مستدامة، فلا يمر يوم إلا وتطالعنا الأخبار عن وقوع المزيد من الآلام والمآسي لأسباب تبقى أبرزها السرعة المفرطة وعدم احترام قانون المرور، ونقص الوعي لدى السائقين، وهي عوامل أصبحت في حكم اليقين في المجتمع إلى حد باتت الكوارث التي يخلفها تهور أصحاب العربات بمختلف أشكالها وأعمارها، أمرا عاديا يمر مرور الكرام، لأنها ببساطة أصبحت جزءا لا يتجزأ من المشهد الاجتماعي الذي يعيشه المواطن في كل لحظة، في كل فصل وفي كل مدينة، وعبر كل الطرقات البلدية منها والولائية والوطنية· وإذا كان اصطدام سيارة بأخرى أو خروجها عن الطريق لا تخلف في كل الأحوال ضحايا كثيرين مقارنة ببعض الحوادث الأخرى التي تسبب فيها عربات أخرى على منوال الحافلات والشاحنات، فإن الخلاصة التي حفظها كل واحد هي أن الموت هو العامل المشترك بين كل أنواع حوادث المرور، وهو بيت القصيد· ولو حاولنا عبثا التمعن في مآسي الطرقات التي وقعت منذ سنة تقريبا لوجدنا أن ما تسببت فيه حافلات نقل المسافرين حطمت الرقم القياسي من خلال عدد موتاها ومصابيها، لأنها ببساطة تمثل الموت الجماعي الذي تؤول إليه أرواح الأبرياء في لحظة طيش وتهور ومجون· السرعة التي تقتل الأبرياء على حين غفلة ونحن نحاول معرفة العوامل الخفية التي ساهمت لحد الآن في تفشي ظاهرة حوادث حافلات النقل في جل مدننا وجدنا أن هناك أسبابا أخرى لم نكن نتصورها أو نتخيلها، لأنها كشفت عن جرائم لا تغتفر، ولا يمكن السكوت عنها، بل وتتطلب إجراءات ردعية فورية على منوال ما ذهب إليه بعض السائقين الذين سردوا علينا حكايات واقعية وحقائق مفزعة عما اصطلح على تسميته بالموت الجماعي الذي يداهم الأبرياء على حين غفلة· عندما طلبنا من السائق عبد الباقي الذي يعمل على محور أو خط العاصمة - عنابة عن تقييمه للوضع كونه معنيا بما تشهده طرقاتنا من حوادث مرور مروعة ودامية، لم يتردد وهو يتأسف عما آلت إليه سياقة الحافلات في بلادنا، وهو يتحدث إلينا أخبرنا عبد الباقي بأنه لم يتسبب يوما في أي حادث مرور، لكنه على يقين تام بأن الصور التي ينقلها التلفزيون وتكتب عنها الصحافة هي واقعية وليست من نسج من الخيال، ولخصها لنا كالتالي: ''لن نجد أقوال أي شخص حول هذه الظاهرة من شهادات السائقين الذين اختاروا هذه المهنة وينتقلون يوميا عبر طرقات الجزائر ويشاهدون أبشع حوادث المرور التي لا يتخيلها العقل، وفي اعتقادي بأن العامل الأبرز على الإطلاق يبقى الإفراط في السرعة ونقص الضمير والوعي لدى بعض السائقين، بالإضافة إلى الحالة النفسية التي يتواجدون عليها والوضعية الميكانيكية للعربات التي يقودونها دون أن ننسى -طبعا- الأخطاء المعروفة الأخرى مثل التجاوز في المنعرجات وعدم التركيز، ودخول بعض السائقين في مشاحنات تبدأ بالتنافس الترفيهي وتنتهي بالمآسي والأحزان· هكذا، حاول السائق عبد الباقي اختزال الجدل القائم، اليوم، حول الخلفيات الحقيقية التي تؤدي دائما إلى مثل هذه الجرائم التي توقظ الضمير الجماعي حينا وتحيله إلى سبات عميق عندما تمر الحادثة، وتنمحي من مخيلة من سمعها أو قرأ عنها أو شاهدها بأم عينيه أو حضر وقائعها على المباشر· ··· ولوزير النقل مسؤولية فيما يقع لم يذهب سائق آخر يتولى نقل المسافرين على خط العاصمة جيجل بعيدا في تشخيصه للظاهرة عندما وجه أصابع الاتهام لوزير النقل عمار تو، حيث يرى بأنه ساهم بقسط كبير في تفاقم حوادث مرور الحافلات· وللأمانة لم نفهم صاحبها، وهو يحمّل وزير القطاع ما يقترفه سائقون متهورون بفعل سلوكات طائشة غير مسؤولة، وبالتالي لم نرد التعقيب عما تفوّه به بنبرة امتزج فيها الغضب والقنوط والتحصر على ما آلت إليه مهنة سائقي الحافلات المميتة، لأن بقية حديثه سهّل عليه فهم ما يريد الذهاب إليه: ''تكمن مسؤولية الوزير في كونه سمح بتواجد الكثير من الخطوط والحافلات في اتجاهات مختلفة، الأمر الذي خلق ازدحاما مروريا عبر الطرقات المؤدية إلى الولايات، وهو ما أدى إلى تقليص الفارق الزمني في انطلاق حافلة وأخرى، حيث كان في الماضي يصل إلى ساعة كاملة قبل أن يصبح اليوم ربع ساعة، وقد أحدثت هذه الوضعية بروز ظاهرة التسابق بين السائقين المتوجهين نحو الوجهة نفسها أو المدينة''· بهذه النظرة الشخصية لهذا السائق الذي يتجاوز عمره سن الستين، أراد أن يجد سببا مقنعا لتنامي حوادث حافلات النقل الجماعي التي تحوّلت، اليوم، إلى حافلات الموت الجماعي· وفي جانب آخر من المشهد الذي صوّره لنا هذا السائق الذي عبّر عن آرائه وطلب منا نشرها، كما جاءت على لسانه، تطرق إلى نقطة أخرى، وهي أن هناك بعض الخطوط لا تتطلب سوى أربع حافلات، لكنها اليوم تجاوز عددها العشر حافلات، وهو ما يولد ضغطا لدى السائقين كونهم يسارعون الزمن كل يوم من أجل الظفر بالمسافرين في المحطات التي تتواجد على مستوى خطهم، ما يؤدي إلى الدخول في سباقات جنونية كثيرا ما تنتهي بمآسٍ كبيرة· سائقون يتناولون المخدرات وآخرون الكحوليات حكايات سائقي الحافلات لا تتضمن مسلمات وبديهيات معروفة في عالم السياقة، بل احتوت كذلك على بعض المستجدات والمعلومات التي لم نكن على علم بها، لأنها ببساطة لا يتخيلها أي عقل أو فكر، فالقضية الجديدة التي أضفناها إلى ثقافتنا المرورية المحدودة هي أن هناك من السائقين من يقودون حافلاتهم وهم في حالة سكر أو تحت تأثير المخدرات والحبوب المهلوسة، هكذا حدثنا بعض السائقين وهو يحاول معنا فك شفرة كثرة حوادث حافلات نقل المسافرين: ''هناك سائقون يتعاطون الخمر والمخدرات خلال طول المسافة التي تستغرقها رحلتهم من مدينة إلى أخرى، وفي اعتقادي فإن دور الدولة هنا غير موجود تماما، فأنا لم أفهم بعد لماذا لا يتم مراقبة حالة سائقي الحافلات الذين يتولون نقل مواطنين أبرياء''· بهذه العبارات حدثنا عمي محمد، وهو سائق يعمل عبر خط العاصمة - وهران الذي أضاف بأن هناك من السائقين من يحمل الخمر معه في ''جيريكان'' ويوهم المسافرين بأنه يشرب الماء أثناء الطريق· ولم يودعنا عمي محمد دون التطرق إلى نقطة أثقلت كاهله مع بقية السائقين، وهي إشكالية قطع الغيار المعروضة في السوق: ''معظم قطع الغيار مغشوشة وليست أصلية، وأنا أعتبر ذلك عاملا آخر مهما يضاف إلى بقية العوامل التي ساهمت في كثرة حوادث مرور الحافلات· ما قدماه من شهادات واعترافات أفصح عنها سائقون وجدناهم ساعة تجولنا بمحطة الخروبة، والأكيد أن هناك الكثير من الحكايات الواقعية وشبه الخيالية التي لم تسمح لنا الظروف بالوقوف عندها، لأن ما خلصنا إليه ونحن نغادر المحطة هو أن لكل سائق قناعاته ورؤيته للظاهرة وهو أمر قد يكلفنا كتابة صفحات يومية عن فضاء بات يجلب المآسي أكثر من الالتزام بخدمة المواطن الذي يكون في كل الحالات مضطرا للسفر، وهو يعلم بأنه قد يلقى حتفه في أي لحظة بسبب شخص واحد هو السائق!