لعل القارئ يستغرب ربطنا بين المغربي محمد عابد الجابري والجزائري علي الحمامي، ابن تيهرت الذي لقي حتفه في حادث طائرة في 1952، والذي شارك في مقاومة الريف إلى جانب عبد الكريم الخطابي في المغرب، لكن تعرضت كتاباته للتهميش في جزائر الاستقلال تحت ضغط تيارات إيديولوجية، وذلك بسبب نزعته المغاربية المتجلية في العديد من مقالاته، خاصة كتابه "أدريس" الذي كتبه في 1949، وأتى على شكل رواية يسرد من خلالها بواسطة الطفل إدريس الكثير من أفكاره، ومنها بالأخص تتبعه التكوين التاريخي لما يسميها ب«القومية المغاربية". أما الجابري فغزير الإنتاج الأكاديمي على عكس الحمامي، ويصنف نفسه ضمن التيار الإيديولوجي العروبي، وتتركز أعماله على إشكالية تحقيق ما يسميه ب«الأمة العربية” نهضتها معتمدا على “نقد العقل العربي”. وقد الجابري على ما يعتبره مشروعا لنقد العقل العربي لتجاوز آليات تفكير العرب السائدة منذ العصور الإسلامية الأولى، والتي لازالت قائمة إلى حد اليوم- في نظره- ما يتطلب قطيعة إبستمولوجية مع آليات هذا التفكير، واستبدالها بآليات جديدة تسمح للعرب بدخول الحداثة. ويضم المشروع أربعة أجزاء، وهي “تكوين العقل العربي” و«بنية العقل العربي” و«العقل السياسي العربي” و«العقل الأخلاقي العربي”. فخصص الجزأين الأول والثاني لنقد آليات إنتاج العقل العربي للمعرفة والأفكار والثقافة بهدف تجاوزها وإحداث قطيعة إبستمولوجية معها، ويُدخِل الجزء الثالث والرابع في إطار ما أسماه ب«العقل العملي للعربي”، أي كيف يتصرف سياسيا وأخلاقيا. يبحث في الجزأين الأولين في بنيات العقل العربي، فبعدما يصنف إنتاج العقل العربي الذي تأسس في عصر التدوين في ثلاثة حقول، وهي الحقل البياني كالفقه واللغة وعلم الكلام، والحقل العرفاني الذي يخص كل ما له علاقة بالتصوف والعلوم الباطنية المنتشرة لدى الشيعة، أما الحقل البرهاني فيتعلق بالعلوم، وبشكل أخص الفلسفة التي يعتبرها منتوجا يونانيا. وحلل الجابري هذه الحقول الثلاثة لاستخراج بنياتها الثابتة، وتوصل في الأخير إلى أن آليات تفكير العربي منذ عصر التدوين إلى حد اليوم هي ثلاث، وتتمثل في القياس أي قياس الغائب على الشاهد، خاصة في الفقه واللغة وعلم الكلام، أما البنية الثانية فهي الانفصال، أي عدم الربط بين الظواهر والقضايا، ويفسر ذلك بالطبيعة البدوية والصحراوية حيث يلاحَظ التباعد في المساكن وعدم تماسك الرمال، وانجر عن ذلك البنية الثالثة وهي التجويز، ومعناها عدم تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية بالسنن والأسباب، والقول إنها عادة وليست قوانين ثابتة، ويستند العرب في ذلك- حسبه- بالقول إنه لو قلنا بذلك فمعناه أننا ننكر النبوة التي تبنى على الخوارق والمعجزات، ويعتبر ذلك سببا في ضعف العلوم الطبيعية والكونية لدى العرب. ويقول إن هذه البنيات هي السائدة منذ عصر التدوين إلى حد اليوم، لكنه يستثني الأندلس وبلاد المغرب، حيث برزت محاولات للقطيعة الإبستمولوجية مع هذه البنيات في القرن 13م، وبلغت أوجها بظهور الشاطبي صاحب الموافقات في الفقه، وقوله بمقاصد الشريعة بدل القياس الذي وضعه الشافعي في المشرق، وقد سبقه ابن حزم مؤسس المذهب الظاهري الذي يعتمد في مجال الفقه على نص القرآن والسنة فقط، وكل ما لا يرد فيه نص قطعي فهو مباح، وهذا المذهب كان جديرا بإخراج المسلم من القوقعة التي وضعه فيها المشرقي أبو حامد الغزالي، ولو كتب لمذهب ابن حزم الانتشار لأعطى للمسلم حرية وتفتحا ومرونة أكبر، وحاول ابن خلدون وضع قطيعة مع بنية التجويز بتفسيره حركة التاريخ والمجتمع بقوانين وسنن ثابتة أطلق عليها طابع العمران، وبلغت هذه المحاولات أوجّها مع ابن رشد في علم الكلام والفلسفة وسعيه للتأسيس للعقلانية. وتوصل الجابري إلى نتيجة تقول بضرورة العمل من أجل إحداث قطيعة إبستمولوجية مع آليات تفكير العقل العربي وبنياته الثلاث، وذلك بمعاودة ربط هذا العقل من جديد بالمفكرين المغاربيين الذين شرعوا في هذه القطيعة ومواصلة أعمال ابن رشد وابن حزم والشاطبي وابن خلدون وابن باجة وابن طفيل. إن ما توصل إليه الجابري في بحثه بضرورة إعادة التواصل مع هؤلاء المفكرين المغاربيين، من أجل إحداث قطيعة إبستمولوجية ودخول الحداثة، قد سبق أن دعا إليه علي الحمامي دون أن يؤصله أكاديميا، فما فتأ يدعو إلى استلهام ابن رشد وابن خلدون وابن تومرت بهدف تأسيس ما يسميه ب«مذهبية قومية مغاربية”، واعتبر ابن خلدون مؤسس هذه القومية على الصعيد النظري، وابن تومرت مجسدها عمليا وسياسيا من خلال دولة الموحدين التي حققت حلم جده ماسنيسا الذي عمل من أجل دولة مغاربية واحدة، حسب الحمامي. لكن يختلف الحمامي عن الجابري في هذه الدعوة، فالأول همه ما يسميها ب«الأمة المغاربية”، ودعا صراحة مثل ابن تومرت في الماضي إلى قطيعة فكرية مع المشرق لأنه يصدر لنا لاعقلانيته عبر التاريخ- حسبه، ومنها الوهابية التي تنبه إلى كارثيتها علينا في 1949، فدعا إلى بناء حركة إصلاحية دينية عقلانية ومتفتحة. أما الجابري فيدعو ما يسميه ب«الأمة العربية” إلى استلهام هؤلاء المفكرين المغاربيين، لكن قوبلت دعوته بالتهجم عليه واتهامه بالعصبية المغاربية والعنصرية، رغم إصراره على إثبات ولائه للإيديولوجية العروبية، وقد سبق أن اتهم المشرق من قبله المغاربي ابن خلدون بالشعوبية. ولم يفسر لنا الجابري أسباب تعطل هذه القطيعة الابستمولوجية وانتقال عقلانية ابن رشد إلى أوروبا، لتأخذها بقوة، وتبني نهضتها على أساسها. لكن الجابري يعترف بأن أفكارا مشرقية لاعقلانية يسميها ب«العرفانية” قد غزت البلاد المغاربية وهمشت هذه الأفكار العقلانية، وعطلت حركية مجتمعاتنا المغاربية، لكن لم يفسر سبب انتشار هذه الأفكار المشرقية اللاعقلانية على حساب ابن رشد وابن خلدون والشاطبي وابن حزم، فهل يعود ذلك إلى تبجيل المغاربيين لكل ما هو مشرقي واحتقار ذاتهم وكل ما هو مغاربي؟ فإن كان كذلك، فهل يعود ذلك إلى الانبهار بالمشرق بحكم أنه مهبط الرسالة الإسلامية؟ إنها أسئلة تحتاج إلى إجابات لمعرفة أسباب تعطيل انتشار هذه العقلانية المغاربية التي كشف عن معالمها الجابري بشكل أكاديمي، وأشار إليها من قبل علي الحمامي، والتي كانت كفيلة بإخراجنا من الانحطاط والانسداد الذي أصاب حضارتنا الإسلامية، وهل لولا هذا الغزو الفكري المشرقي آنذاك، والذي يشبه الغزو الوهابي اليوم لكنّا اليوم في المستوى الحضاري نفسه الذي وصلت إليها أوروبا بعدما أخذت منا عقلانية ابن رشد؟ فلولا ذلك ألا يمكن أن نكون ضمن دول متوسطية مسلمة ومتقدمة تواصل إعطاء الصورة المشرقة للإسلام وحضارته؟ [email protected]