قبل يوم واحد من وفاة المفكر العربي محمد عابد الجابري، اتصلت بي الصديقة ثناء عطوي من مؤسسة الفكر العربي في بيروت وسألتني عن هاتفه· قلت لها إنني لا أعرف، فمعرفتي الشخصية بالجابري تقتصر على اللقاء في الندوات والمؤتمرات في هذه العاصمة العربية أو تلك، ولكنني أستطيع تزويدها بهواتف بعض الأصدقاء الآخرين من الكتاب والمثقفين المغاربة الذين يستطيعون تزويدها برقمه، قالت إن لديها رقمه، لكن يبدو إنه تغير، فهي اتصلت به أكثر من مرة، لكنه لم يجب· في اليوم التالي تلقيت خبر وفاة الجابري، وقالت لي ثناء إنها بالفعل حاولت الاتصال بعد أن تأكدت من الرقم ولكنه لم يجب على الإطلاق، لا بد أنه كان في نزعه الأخير يلوح لهذا العالم مودعا· أتذكر آخر مرة شاركنا معا في ندوة عقدتها مؤسسة ''كتاب في جريدة'' بالتعاون مع اليونيسكو عام 2005 في باريس، كانت الندوة حول الإبداع والتكنولوجيا الحديثة والوسائط المتعددة، وقد شارك الرجل الكبير في النقاش بحيوية وحماس، رغم أنه كان مريضا ومتعبا في حينه· لقد رحل الجابري مخلفا ميراثا فكريا لافتا ومثيرا للجدل في الآن نفسه· انطلق في مؤلفاته الأولى من فكرة العصبية عند ابن خلدون لينتهي إلى دراسة آليات التفكير عند العرب، واتخذ عمله الفكري مسارا يقرأ البنية ليصل إلى دراسة الخطاب، أي البنية في تحققها واشتغالها في السياق السياسي والإجتماعي والثقافي· لم يركن الجابري إلى قراءة أحادية للفكر والثقافة العربيين، في الماضي والحاضر، بل زوّج التراث للحداثة، وأقام صلة وصل بين الفلسفة والفكر في التراث العربي المديد من جهة وبين النظرية المعرفية في الغرب من جهة أخرى، محاولا الوقوع على عناصر الخصوصية في الثقافة العربية· ويمكن النظر إلى كتابيه ''تكوين العقل العربي'' و''بنية العقل العربي''، وما أنجزه بعد هذين الكتابين من تطبيقات على حقول أخرى: العقل السياسي العربي، والعقل الأخلاقي العربي، ودراساته حول القرآن الكريم، بوصفها جميعا سلسلة متصلة من العمل المنهجي لدراسة الفكر والثقافة العربيين عبر العصور· وعلى الرغم من النقد الكثير الذي وجه إلى منهج الجابري في كتابه التأسيسي ''تكوين العقل العربي''، من كونه يتابع تيارا في التفكير الغربي المعاصر يؤمن بعرقية التفكير من خلال القول بوجود عقول للأمم لا عقل واحد للبشر، فإن الجابري لم يقل بوجود عقل عربي بالمعنى العرقي الذي نجده عند مستشرقين من طراز إيرنست رينان، على سبيل المثال لا الحصر، بل حاول أن يدرس آليات عمل العقل، أو بصورة أكثر تبسيطا طرق التفكير والمحاججة والمنطق· وقد استند إلى تعريف لالاند للعقل باعتباره جماع المنجز الفكري والثقافي لأمة من الأمم أو شعب من الشعوب (أو ما سماه العقل المكون)· لم يقل الجابري بوجود خصائص مركوزة، موروثة تتواصل عبر العرق العربي، إن كان هناك عرق عربي بالأساس، وإن العرب سوف يفكرون بهذه الطريقة أو تلك بصورة قدرية· والدليل على ذلك أنه تتبع الأثر اليوناني في الفلسفة والفكر العربيين، ودرس التوازيات بين المنطق الأرسطي والمدارس الكلامية والفلسفية العربية التي كانت واعية بعمل أرسطو والفلاسفة اليونان· لا أريد أن أدافع عن المفكر العربي الكبير الراحل محمد عابد الجابري، بل أردت أن أبين مقدار الدين الذي له في رقبة المثقفين العرب من الخليج إلى المحيط، ومن المشارق إلى المغارب· لقد ترك منجزا فكريا باهرا وحيا وتلاميذ كثر يمكن أن يضيفوا إلى منجزه·