لا يمكن للباحث الموضوعي النفي بأن الأمير عبد القادر مقاوم كبير للاستعمار الفرنسي طيلة 17 سنة، ويشبه في ذلك يوغرطة المقاوم للاستعمار الروماني المدة نفسها، ويتشابهان في أمور عدة، وكلاهما ألقي عليهما القبض، ولعل البعض يستغرب استخدامي "إلقاء القبض" على الأمير بدل "الاستسلام" المتداولة. فهو فعلا حوصر من كل الجهات من المغرب والجيش الاستعماري ومن قبائل المخزن في الغرب الجزائري، فترويج الخطاب الاستعماري لفكرة الاستسلام جعل جزائريين كثر يخوّنونه بسبب نفسية شعبنا الرافضة للظاهرة الاستسلامية، والتي تعتبرها إهانة، فقد حافظت الذاكرة الشعبية منذ القدم على مقولة يوغرطة “ننكسر ولا ننحني”، أي نستشهد ولا نستسلم، والتي عبر عليها فيلم “الأفيون والعصا” المقتبسة من رواية لمولود معمري ب«علي مت واقف”، فمن الخطأ الترويج لفكرة استسلام الأمير في مدارسنا، لأنه سيغرس في أبنائنا روح الخنوع والانهزامية، فالمفروض أن نغرس فيهم فكرة أن الجزائريين لا يستسلمون لأنهم أوفياء للتقليد الذي كرسه جدهم يوغرطة الذي رفض أمر الانحناء للإمبراطور الروماني بعد أسره تطبيقا للتقاليد الرومانية، وفضّل الموت جوعا وعطشا في السجن، وقال كلمته الخالدة “ننكسر ولا ننحني” التي تردد اليوم. لكن الإشكال المطروح هو حول مقولة أن الأمير “مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة”، فهذه المقولة ظهرت بعد 1962، وانتشرت بقوة بعد نقل رفات الأمير من دمشق، والتي صاحبها تغطية إعلامية واسعة، ولم يكن يقال بها أثناء العهد الاستعماري، لأن إذا قيلت آنذاك فمعناه نناقض أسس الإيديولوجية الوطنية المبنية على عراقة الأمة والدولة الجزائرية القائمة منذ القدم، وقبل ولادة فرنسا. أفلم يعد مبارك الميلي وتوفيق المدني ومحمد علي دبوز ومحند الشريف الساحلي وغيرهم إلى دولة نوميديا وإلى المقاومات الجزائرية للاستعمار الروماني لإثبات عراقة الدولة والأمة الجزائرية؟ ألم يعتبر الساحلي هذه المقاومات تعبيرا عن “الوطنية الشمال إفريقية”- أي المغاربية- في محاضرة في 1938، والتي تبعها بكتاب “رسالة يوغرطة” ينصح االتيارات الوطنية للوحدة وللاستلهام منه في1946؟ فوضعوا بذلك عمقا تاريخيا للدولة والأمة الجزائرية، فكلما كان العمق كبيرا وغرسناه في ذهن الشعب، كلما آمن هذا الشعب بدولته وأمته، أما بالنسبة للعصر الحديث فقد عاد البعض إلى الدولة في العهد العثماني باعتبارها دولة جزائرية قائمة، وخالفهم آخرون معتبرين الأتراك استعمارا، وهو نفس موقف الأمير عبد القادر منهم، لكن يستحيل أن يقولوا إن الأمير مؤسس هذه الدولة لأنه إذا قيلت فمعناه إعطاء شرعية لمقولات الإيديولوجية الاستعمارية التي تنفي وجود أمة وكيان دولة جزائرية عبر التاريخ. كما لا يمكن لهم الاستناد آنذاك على الأمير لأنه كان مستبعدا من أدبيات التيارات الوطنية بأشكال متفاوتة، ما جعل الساحلي مناضل التيار الاستقلالي يؤاخذ زملاءه قائلا: “إن الأكاذيب والأساطير التي نشرتها فرنسا حول الأمير عبد القادر وجدت للأسف في أغلب الأحيان آذانا صاغية في صفوف الوطنيين الجزائريين بسبب ضعف الروح النقدية لديهم”، ويعود ذلك إلى التشويهات الاستعمارية التي حولته “صديقا لفرنسا”، خاصة بعد الرواج الذي لقيه كتاب بول آزان عنه في 1921، وأعطاه عنوانا فرعيا مشبوها “من التعصب الإسلامي إلى الوطنية الفرنسية”، فالخطاب الاستعماري حول الأمير يرى بأنه أعطى شرعية للاستعمار باستسلامه، وأنه أستسلم لأنه عرف فائدة هذا الاستعمار للجزائريين، وأغدقت عليه فرنسا بالهدايا والنياشين للقضاء على صورته المقاومة في ذهنية الجزائريين، فانتشار فكرة “استسلامه” بقوة جعلت الكثير ينعتونه ب«الخيانة”، فمكانته تشبه تقريبا مكانة مصالي الذي كان زعيما ثم نعته الكثير فيما بعد ب«الخيانة”. كان الأمير محل خلاف بين الجزائريين، على عكس رموز أخرى لقيت الإعجاب لأنها فضلت الاستشهاد على الاستسلام، ولهذا استبعدته نسبيا أدبيات التيارات الوطنية، فمثلا في الشرق الجزائري خوّنه البعض وحمّلوه مسؤولية فشل مقاومة أحمد باي بسبب عقده معاهدة تافنة 1937، ونعتقد أن موقفه من أحمد باي يعود إلى اعتباره استمرارية للنظام العثماني القديم، الذي قاومه أبوه من قبل باعتباره استعمارا حتى ولو كان مسلما، ففضّل الأمير انهيار هذه المقاومة لينهي معها النظام العثماني القديم، كما خوّنه البعض أيضا في منطقة القبائل بسبب فكرة “استسلامه”، ولاعتقادهم بأنه أرسل أربع رسائل يدين فيها انتفاضة المقراني والحداد وكل منضم إليها من سكان الغرب، ومنهم ابنه، وبرأه الساحلي من ذلك في 1964، محاولا الإثبات أنها رسائل ملفقة للأمير واضعا إياها ضمن تلاعبات المخابرات الاستعمارية. وأعاد محند إيدير آيت عمران الأمير إلى الساحة عند وضعه نشيدا لحزب الشعب الجزائري في 1944 بالأمازيغية عنوانه “قم يا ابن مازيغ” يدعو فيه للثورة، ويمجد تاريخ ورموز جزائريين، فذكر الأمير عبدالقادر بجانب ماسنيسا ويوغرطة وسيفاكس وآخرين، لكن منع هذا النشيد بعد 1962 تحت ضغوط تيارات إيديولوجية معادية للعمق التاريخي للأمة الجزائرية. وبرز الأمير بعد احتفالات فرنسا بالذكرى المئوية لما تعتبره استسلامه، فألقى كاتب ياسين محاضرة مبرزا وطنيته، وكتب الساحلي “الأمير فارس العقيدة” مركزا على أخلاقه وإنسانيته، ليتحول إلى أشد المدافعين عنه والرد على كل التشويهات الملصقة به، وربط الساحلي بين البطلين الأمير عبد القادر ويوغرطة، ما يدل على مدى إحساس هؤلاء بدور العمق التاريخي للأمم والدول، وأمر آيت أحمد القائد الوطني للمنظمة الخاصة في 1948 بتدمير النصب التذكاري الذي وضعته فرنسا للأمير في كاشرو- سيدي قادة اليوم- بمعسكر، لأنه فهم اللعبة الاستعمارية وخطورة التلاعب برموز الجزائر، فاحتفالات فرنسا الاستعمارية بما تسميه “استسلام الأمير” كانت لها نتائج عكسية لما استهدفته، وهي تشبه تقريبا النتائج العكسية لاحتفالاتها بمئوية الاحتلال، فمنذاك عاد الأمير إلى الساحة بعد ما استبعد بسبب العوامل المذكورة آنفا، أما مقولة أنه “مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة” فقد وضعت بعد 1962، لأنها لو قيلت من قبل لأيدت الإيديولوجية الاستعمارية، لكن أليس من المستحسن لإعطاء عمق تاريخي للدولة والأمة الجزائرية إضافة مقولة تشير إلى دولة نوميديا مثلا؟ إن الحفاظ على متانة الدولة والأمة الجزائرية يتطلب الاهتمام بعمقهما التاريخي وغرسه في أذهان أبنائنا، لكن هناك تيارات إيديولوجية تعمل ضد هذا العمق لأنها لا تؤمن أصلا بهذه الأمة، وهم الذين تهجموا على مولود قاسم عندما وضع صورة يوغرطة على أول عدد لمجلة الأصالة، وعرقلوا رغبته في إطلاق اسم هذا البطل المنبهر بوطنيته على ابنه البكر، ويتناسى هؤلاء أن يوغرطة ابن هذه الأمة وأرضها التي استشهد من أجلها، شأنه في ذلك شأن الأمير عبد القادر، فالأمة الجزائرية عريقة وعمرها آلاف السنين على عكس ما رددته الإيديولوجية الاستعمارية، ويكرره البعض اليوم لأهداف مشبوهة. [email protected]