لماذا تكررت "الظاهرة الاستعمارية" في الجزائر؟ يلخّص كثير من المؤرخين، تاريخ الجزائر بالصراع المتجدد بين الاحتلال وثورات التحرر، فقد سقطت بلادنا في يد الاحتلال قديما وحديثا، كليا أو جزئيا: الرومان، الوندال، البيزنطيين، الإسبان، الفرنسيس.. كما خضعت لآل عثمان لمدة تجاوزت 3 قرون. ولم تتحصل على حريتها في كل مرة إلا بعد أن دفعت فاتورة باهظة من خيرة أبنائها. عند الحديث عن تاريخنا، يتم التركيز على كيف وقع الاحتلال وأهداف هذا الأخير، ويتم تحاشي الأسئلة التالية: فيما تتمثل الأسباب الداخلية في وقوعنا تحت سلطة الاحتلال ؟ هل تتشابه هذه الأسباب في مختلف المراحل ؟ وهل استفدنا من مختلف التجارب التي مررنا بها ؟ إستطلاع/ نوّارة لحرش أ.د. العربي عقون: مؤرخ/ أستاذ بجامعة قسنطينة لم نقرأ تاريخنا بالعمق المطلوب الموضوع الذي تتفضلون اليوم بطرحه موضوع هام وجدير بالدراسة والتمعن من قبل النخبة التي تمتلك القدرات والكفاءات لان تاريخنا كان دائما أعظم بكثير مما كتب فيه وعنه. وقليلة هي الأقلام التي كانت على قدر من الجدارة في تناوله لأن تحرير (Libérer et rédiger) التاريخ أو كما عبّر عنه الأستاذ موحند الشريف ساحلي: Décoloniser l'Histoire" هو عمل علمي وفكري ينبغي أن تتصدّى له كفاءات عليا من النخب الأكاديمية لكي لا يكون رجع صدى لرؤى ونزعات أيديولوجية قادمة من الشرق والغرب على حدّ سواء. لعل القصد من سؤالكم هو التاريخ "المدرسي" إن كان الأمر كذلك فإنّ التاريخ المدرسي موجّه بالأساس إلى تلاميذ المدارس، وهو في هذا المستوى لا ينفصل عن التربية ولا يمكن أن تكون فيه الأولوية لنقد الذات الوطنية في مسيرتها التاريخية، وبإيجاز فإن التاريخ "المدرسي" الذي هو نسق من الوقائع والأحداث يقوم نموذجه على المنهاج الرسمي المقرر من قبل الدولة وهو منهاج يعكس الرؤية التربوية الوطنية للأمة الجزائرية وفق ما تمليه القواعد البيداغوجية لتزويد الناشئة بروح الانتماء إلى الوطن وتنمية الشعور بذلك الانتماء وكذا الوعي بالذات الوطنية، وهذا هو المعمول به في كل المنظومات التربوية في مختلف الأمم، وليس مطلوبا في هذا المستوى (الابتدائي والمتوسط والثانوي) أكثر من تقديم النص التاريخي وفق هذه الرؤية وضمن هذه القواعد. خلال مراحل الكفاح كان مطلوبا من الحركة الوطنية أن توظف التاريخ "الوطني" لدعم وتقوية الضمير الوطني وقيم النضال والتضحية من خلال إنتاج نصّ تاريخي "نضالي" لكن دون المبالغة في العقلنة والنزعة العلمية (Scientisme) لان رفع المعنويات يتطلب حدا أدنى على الأقل من الأخلاقية (Moralité) ومنه – مثلا- سيكتب المرحوم مفدي زكرياء إلياذته بحيث يتحول التاريخ إلى مادّة ثرية لعديد الأعمال الإبداعية التي تدعم الكفاح الوطني وتشحذ الهمم وتذكي روح المقاومة. يكون نقْد الأمة في مسارها التاريخي على مستوى النخب وعلى مستوى الدراسات الجامعية وهو نقد بنّاء يشير إلى الأخطاء حتى لا تتكرر ولكنه لا يستعمل الثلب والتهجّم ويضع الأحداث والأشخاص في سياقاتها التاريخية ويبتعد عن كل ما من شانه أن يهزّ الضمير الوطني أو ينال من الاعتزاز بالذات، فمن هذه الزاوية يمكن أن يتسلل الخطاب المعادي للأمّة الذي يحسن الاستعمار توظيفه لزرع البلبلة وبث التفرقة خاصة عندما تكون الأمة في مراحل صعبة، وقد رأينا على سبيل المثال كيف أنّ البعض لم يرعَوِ عن هذا الأسلوب في شأن الأمير عبد القادر وكذا في شأن الملك ماسينيسا. وعلى العموم فإنّنا لم نقرأ بعد تاريخنا بالعمق المطلوب لاستخلاص العبر، وبعضنا لا يزال يتتلمذ على كتابات مؤرخي الاستعمار ويروج لآرائهم إلى درجة أنّ أحدهم أطلق على المملكة النوميدية عبارة "الكيان" النوميدي. وفي تاريخنا كما في تاريخ سائر الأمم لا يمكن للمعتدي الأجنبي أن يحقّق انتصارا إلاّ إذا كانت الجبهة الداخلية متداعية متصدّعة أو فيها أيدٍ أجنبية تلعب بمقدّرات البلد؛ لقد حارب أشفاط قرطاج (Suffètes de Carthage) بجيش عرمرم من النوميد ثمّ أبادوه (Flaubert, Salammbô) وصنع لهم ماسينيسا النصر في إسبانيا فجردوه من عرشه، وفتح طارق بن زياد الأندلس ولكنه مات شريدا معدما في ظروف غامضة، وجيء بالداعية الصنعاني وتمّ استقدام "عبيد الله" أحد أدعياء النسب الشريف الذي أُعلِن مهديا وخليفة ومُلِّك على شمال أفريقيا، ليأتي حفيده "المعزّ الفاطمي" من بعده فيجمع ثروة البلاد ويجند أبناء البلاد لفتح مصر ويعاقب البلاد التي صنعت منه ومن أبيه وجدّه خلفاء، تلك العقوبة التي لا يزال التاريخ يتحدث عنها ... ومرة أخرى وبعد قرون يتمّ تسليم البلد إلى مغامرين أجانب لأنّ الصراعات الداخلية أفقرته فلم يعد يجد من بين أبنائه قيادة "وطنية" تقوم بأمره، ودخلت البلاد في نفق مظلم امتدّ على ما يزيد عن ثلاثة قرون "مظلمة" انتهت بوقوعها في الأسر الاستعماري بعد رحيل آخر دايات الجزائر حاملا معه ما خف وزنه وغلا ثمنه تاركا البلد الذي لم يحسن قيادته لمصير أسود. وصفوة القول أنّه إذا كانت مراحل الكفاح قد استوجبت اعتماد نص تاريخي "نضالي" فإنّ هذا النص يظل مهمّا وضروريا ولا بدّ من دعمه - ونحن اليوم في دولة الاستقلال برؤية تاريخية أصيلة تصحح التاريخ وتنبّه إلى مخاطر عدم التأسّي والاعتبار بدروسه، وتؤكّد على وحدة الوطن والولاء له والاستعداد لتحمّل مسؤولية بنائه والذود عنه بإخلاص وأمانة وقدوتنا في ذلك جيل نوفمبر الذي يظل أنموذجا ومثالا حيا في استيعاب دروس التاريخ وصنع ملحمة التحرير. صلاح الدين تيمقلين: كاتب/ أستاذ التاريخ متقاعد العوامل المحفزة على الاستعمار داخلية رغم التضحيات الجسام لرجال ونساء صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، هل يجدر بنا اليوم أن نتكلم عن الاستعمار ونتائجه ؟ أم عن أسبابه وعوامله ؟ إن النتائج في الحقيقة مازالت مستمرة إلى يومنا هذا، نصادفها ونشاهدها بل ونلمسها في كثير من الأحيان وفي كل مكان، ومواجهتها ضرب من ضروب العبث، لكن عود على بدء أليست هذه النتائج في الحقيقة وليدة الأسباب والعوامل التي ساهمت في فرض الظاهرة الاستعمارية على الشعوب والأمم وبالتالي الأحرى بنا إن أردنا مواجهة الاستعمار ونتائجه المستمرة والمدمرة أن ندرك الأسباب والعوامل التي مهدت له الطريق فننبري لها ونعمد إلى تذليلها ثم محوها . لو ألقينا نظرة سريعة على خريطة سياسية للعالم العربي المتكون من 21 دولة مستقلة لأدركنا أن آخر دولة تحصلت على استقلالها كان قبل 43 سنة البحرين والإمارات وقطر وعُمان 1971 ، وأول دولة هي السعودية 1932 مر على استقلالها 83 سنة، ونحن في الجزائر نعيش الذكرى الأولى بعد الخمسين أي نصف قرن وعام . عندها يجدر بنا أن نطرح السؤال التالي: وماذا بعد ؟ هل نحن اليوم في عهد الاستقلال محصنون فعلا من شتاء استعماري جديد ؟ أم أن نسمات الربيع العربي قد تحولت إلى عواصف غربية ستزج بنا من جديد في ذلك النفق الحالك الذي سئمت منه الأجيال ؟ إن الظاهرة الاستعمارية في الحقيقة معقدة لا تتجلى إلا بتوفر جميع أسبابها وعواملها، وهي كثيرة ومتنوعة، فالتساقط مثلا لا يحدث بفعل توفر المسطح المائي أو الحرارة أو الرياح أو التضاريس، ولكنه يحدث عندما تجتمع كل هذه الشروط وبالتالي فالتكاتف يحدث التكاثف فالتساقط. كذلك الشأن بالنسبة للاستعمار لا نستطيع تحييد عامل دون آخر ولكن في المقابل نستطيع تمييز هذه العوامل وترتيبها بحسب تأثيراتها . يبقى العامل الداخلي المحلي هو أس الأساس في جلب الاستعمار من جديد، فالعراق جلب أمريكا للإطاحة بصدام حسين، وليبيا دفعت فرنسا لجلب الناتو للإطاحة بالقذافي، ودول الخليج جلبت أمريكا لمواجهة خصومها في الداخل المعارضة وفي الخارج إيران ، والنظام السوري استقوى بموسكو والمعارضة مكنت للقاعدة، ومصر تئن وتونس ليست بأفضل حال منها، واليمن عاد القهقرى، ولبنان مسرح للتنفيس عن ضغائن الإخوة ... وعليه فإن الأسباب والعوامل المحفزة للاستعمار لم تتغير كثيرا ومازالت قابعة في نفس المكان مغيرة الزمان فقط، هذه الأسباب المتمثلة أساسا في التناحر والشقاق والتفكك والصراع بين أبناء الوطن الواحد، لا من أجل التطور والرقي بل من أجل السلطة، ألم يتحالف أمراء الطوائف مع المسيحيين الكاثوليك ضد إخوانهم الموريسكيين وكانت النتيجة ضياع الأندلس، ألم يتحالف أمراء الأيوبيين والمماليك مع الصليبيين الغزاة وكانت النتيجة ضياع اورشليم، ألم يوقع الداي حسين وثيقة الاستسلام ويسلم البلاد ويلوذ بالفرار إلى أوربا ويموت حتف أنفه في الإسكندرية ..! " لأنه كان مجرد حاكم مثل الحكام الذين نشاهدهم هذه الأيام في الوطن العربي والإسلامي، إذ لا يثبتون أمام أية عاصفة كانت داخلية أو خارجية، ما داموا يعيشون فارغين من القيم الدينية والوطنية والبطولية ..." يقول المؤرخ سعد الله . إن الأمة كالعذراء لا تصيبها الدنية إلا إذا ارتضت بها وطلبتها وسعت حثيثة لتحقيقها، والمجتمع كالبدن لا تؤثر فيه الأوباء إلا إذا كان ضعيفا هزيلا مستعدا لاستقبالها واحتضانها، صحيح فالأوضاع الثقافية والاجتماعية التي كانت عليها الجزائر في عمومها طيبة، لكن يجب عدم الشطط في المبالغة، فالمدارس التي كان عددها في الجزائر العاصمة وحدها يفوق عدد المدارس المنتشرة في ربوع فرنسا بكاملها لا يعني شيء إذا ما قورنت بذلك التطور والرقي الذي كانت تعيشه أوربا عموما وفرنسا على الخصوص، هذه الأخيرة التي كانت تعيش نهضة فكرية وثقافية امتدت إلى مختلف القطاعات الاقتصادية من زراعة وصناعة وتجارة، كان انعكاسها من الناحية البراغماتية واضحا الغاية تبرر الوسيلة لأن التطور مطية للتوسع في كل زمان وعبر كل الحضارات حتى الحضارة الإسلامية . وعليه فإن ظاهرة الاستعمار تتحقق بفضل عاملين، عامل ذاتي في المستعمَر نفسه المتمثل في التفكك والتناحر والصراع الداخلي بسبب التخلف والنظرة الضيقة للمستقبل، وعامل ذاتي في المستعمِر متمثلا في نزوعه إلى الغزو والتوسع بسبب حاجة تطوره إلى الموارد واليد العاملة والسوق الاستهلاكية. و "... ليس حادث المروحة هو الذي نُنْفِقُ من أجله مائة مليون فرنك ونضحي فيه بأربعين ألف رجل !" قال السياسي الفرنسي مارتنيك . والعامل الذاتي هذا لا يقصد به القابلية للاستعمار لأن هذه الأمم التي مارست الاستعمار مورس عليها هي كذلك، ففرنسا على سبيل المثال لا الحصر تعرضت لغزوات قبائل الفيكينغ والنورمانديين من الشمال، ولقبائل الهون والجرمان من الشرق، ولقبائل القوط من الجنوب، بالإضافة إلى السيطرة الرومانية، والتواجد الإسلامي إلى حدود مدينة بواتييه بلاط الشهداء، ثم السيطرة الألمانية قبل الحرب العالمية الأولى وأثناءها والحرب العالمية الثانية. وعليه فإن الأمة العربية اليوم برمتها في مهب الريح، فالاستقلال اليوم لا يعني الأكل والشرب والشعور بالرفاهية والطمأنينة الأمنية والسلمية في ظل التبعية المطلقة. والاستعمار اليوم لا يعني صخب العساكر وضجيج المدرعات وأزيز الطائرات ودمدمة القذائف والقنابل في ظل تواجد دائم للقواعد العسكرية وسيطرة تامة على الأجواء والمياه الإقليمية. محمد الصالح ونيسي: كاتب/ مقدم برنامج "من أعماق التاريخ" بإذاعة خنشلة عدم الإيمان بسلطة مركزية كلفنا الكثير، وقد عشنا فراغا ثقافيا وسياسيا لعدة قرون إن التقاليد الثقافية والاجتماعية التي سيّرت المجتمع الأمازيغي لا تزال هي هي، بالرغم من النكبات واللدغات التي أصابت هذا المجتمع، فهو لا يزال يسير على نفس النهج. نهج التشكي وتقمص دور الضحية. وهنا ينطبق عليه المثل الأمازيغي القائل "ويمي او- د- يرق الحني ذق فوس يقار ايسي السحور"، أي "اللي ما طلعت له الحنة في يده يقول بيا السحور"، وقد حضرتني مناقشة في إحدى اللقاءات التاريخية دارت بيني وبين الجمهور؛ حيث سألني أحدهم قائلا: "يجب أن ننزع عن أنفسنا صفة الهزيمة الأبدية أو الانهزامية الأبدية. أجدادنا كانوا أبطالا، ولنا في التاريخ عدة انتصارات". فأجبته: "يجب أن لا نكذب على أنفسنا. الشعوب المتقدمة حاليا تسقط مسيرتها التاريخية على فريق رياضي عصري تماما: انتصار، هزيمة، تعادل. فإن كانت الانتصارات أكثر من الهزائم، فمعنى ذلك أن الفريق سيصعد إلى مرتبة أعلى والعكس، ويتقبل الهزيمة والنصر بروح رياضية دون غرور". أما نحن حاليا فلا نعرف تاريخنا بل والكثير منا لا يعرف من هو؟ نحن نعالج قضايانا المصيرية بالتشنج والعاطفة والتطرف، لأن معظم النخبة المثقفة لم تتحرر بعد من المركزية الثقافية المشرقية المهيمنة على الأفكار. المجتمع الأمازيغي الحالي يعيش تناقضات ثقافية وحضارية خطيرة. إذ التبست عليه الأمور وتضببت بشكل لا يوحي بالخروج من النفق. لقد تلقى ضربات موجعة عبر تاريخه الطويل مما جعله يفقد توازنه الهوياتي ويمارس على نفسه ما يسمى في علم النفس ب "جلد الذات" كنوع من التشفي. تاريخيا التبست عليه المصطلحات بين الفتح والغزو والاحتلال، فعندما يقوم أحد قادة الرومان أو الجنرال بيجو بإبادة الأمازيغ، فهذه جرائم ضد الإنسانية، وعندما يقوم الخليفة الفاطمي المطعون في نسبه بإبادة الآلاف من قبيلة كتامة التي استقدمته، فذلك فتح مبين ونصر عظيم، وقس على ذلك مئات الأمثلة. هذه هي التناقضات والتصورات الصبيانية للتاريخ التي أدت بنا إلى ما نحن فيه من ترد ثقافي وسياسي. فكتابة التاريخ بصفة موضوعية وعصرية هي الخطوة الأولى في طريق بناء ثقافة أصيلة. وجرت العادة عندنا القول بأن أسباب الأزمة الحالية تعود إلى الاستعمار الفرنسي الذي دام 132 سنة. والحقيقة أن الأزمة بدأت قبل ذلك بكثير لأننا لم نجرؤ يوما على وضع إصبعنا على الأسباب التي أدت إلى الاستعمار. فالطبيعة تكره الفراغ. لقد عشنا فراغا ثقافيا وسياسيا لعدة قرون قبل دخول الاستعمار الفرنسي سنة 1830. وحين خطط الفرنسيون لاحتلال الجزائر بدءا من سنة 1827 كانت الأجواء كلها مهيأة ومشجعة على الاحتلال. شعب أمي جاهل. غارق في القبلية حتى النخاع. لا يؤمن بسلطة مركزية. ليست هناك مؤسسات ثقافية أو سياسية بالمعنى العصري. وكل ما يقوله بعض المتبجحين من أن الفرنسيين حين احتلوا الجزائر وجدوا شعبا مثقفا فيه نسبة قليلة من الأمية. هذا هو ما يسمى تقمص دور الضحية. إن الشعب المثقف لا يستعمَر(بفتح الميم) أبدا. أجدادنا ولوعون بالبحث عن جذورهم خارج بلادهم لدرجة أن معظم قبائلنا تفتخر على بعضها بجذورها في الجزيرة العربية، أرجلها في المغرب وعقلها في المشرق. صالح عابد: طالب ماجستير تاريخ، جامعة قالمة/ أستاذ في التعليم المتوسط غياب المؤسسات العلمية والعلماء ساهم في احتلال الجزائر إن كانت لدينا في الحقيقة إرادة في دراسة تاريخ الجزائر بكل أبعاده ومراحله، فلابد من الخوض في أهم عناصره ألا وهو الاحتلال وأول عناصر الاحتلالح الأسباب الداخلية التي كانت المفتاح الذي دخل به المستعمر لبلادنا بدون حسيب ولا رقيب إن لم نقل بتواطؤ داخلي منذ القديم وإلى غاية العصر الحديث، وهذا ما سنحاول تتبعه تاريخيا من خلال هذا العرض: ونبدأ بالاحتلال الروماني الذي خلف الفينيقيين في شمال إفريقيا عامة والجزائر خاصة، فمن الأسباب الداخلية كانت الاستنجاد بالأجنبي، وأحسن مثال على ذلك ماسينيسا الذي أراد أن يكوّن دولة قوية بشمال إفريقيا، حيث تحالف مع الرومان للتغلب على خصومه سواء في الداخل أو الخارج، فكانت هذه الخطوة غير محسوبة العواقب سببا في تزايد نفوذ الرومان، إذ كانت طموحات ماسينيسا متجهة إلى روما اعتقادا منه أنها سوف تمنحه الأراضي القرطاجية التي كانت متاخمة لدولة نوميديا، فاستغلت روما هذه السذاجة إن صح القول من طرف ماسينيسا، فأدخلته في معركة إضعاف قرطاجة وعملت على إضعافه عن طريق محاربة قرطاج لدولة نوميديا وفي نهاية المطاف استطاعت أن تبتلع قرطاجة سنة 146 ق م، ثم تخلصت من ماسينيسا ونفوذه الواسع سنة 148 ق م، وهكذا ضاعت طموحات ماسينيسا مقابل الخطة المضادة التي انتهجتها روما. وبعد تمكن الرومان من الجزائر قامت بإشعال نار الفتنة بين رؤساء القبائل البربرية ومناصرة الموالين لها، وهذا من أجل أن لا تجتمع كلمة الجزائريين. ومن الأسباب كذلك التي كانت بابا دخل منه الاحتلال هو النظام القبلي السائد في تلك المرحلة، فهذا النظام كان يعتمد على ولاء القبيلة لشيخها ومجلس أعيانها، فكانت كل قبيلة ترى نفسها هي القادرة على حماية البلاد ولها القدرة على تسيير البلاد، فضاعت جهود تلك القبائل واستغلها العدو لصالحه سواء كما قلنا بزرع الفتنة والضغينة أو مساندة قبيلة على حساب أخرى لتحقيق أهدافه الخفية دون بذل أي جهد حربي كبير، كما نذكر كذلك الخيانة الداخلية وأحسن مثال على ذلك ما حدث ليوغرطة؛ حيث استعملت روما أسلوب المخادعة والخيانة للتخلص منه، لما استخدموا صهره للقبض عليه. أما فيما يخص الاحتلال الوندالي، فكانت الأسباب الداخلية متعلقة أكثر بالرومان الذين أخذوا على عاتقهم مقاومة هذا الاحتلال إلا أن بونيفاس قرر أخيرا الفرار إلى روما، لكن ما يعاب على سكان الجزائر في تلك المرحلة شعورهم بالارتياح أثناء حكم الوندال، فقد انضموا إلى الجيش ورضوا بوضعهم، فكان اعتقادهم بأن الوندال خلصوهم من الرومان المتعجرفين، فرضوا بالأمر الواقع، ويظهر هذا نقطة أساسية؛ وهي مدى استعداد وقبول السكان الأصليين لوضعهم الراهن دون إبداء رد فعل، وكأنهم تأقلموا مع الوضع المتمثل في قبول أبسط وضع معيشي يمنحه لهم المحتل دون المطالبة بما هو حق لهم . أما خلال الاحتلال البيزنطي، فقد استعمل هذا الأخير سياسة الدهاء السياسي والمجاملة والتقرب من سكان الجزائر وذلك بقصد إعطاء انطباع للأهالي بأن البيزنطيين جاءوا ليخلصوهم من الوندال، فانساق الأهالي وراء تلك الخديعة وسرعان ما اكتشفوا ذلك، لكن كان الوقت قد فات فضاعت جهود السكان وانقسمت كلمتهم ولم تتحد لمحاربة العدو، ورغم ظهور عدة مقاومات قادها مثلا "يابداس" زعيم جبل الأوراس الذي فتح قسنطينة كما نجح في فتح تيمقاد وتخريبها، فتفرق المقاومات بين مختلف مناطق البلاد حرم الجزائر من وحدة كانت بالإمكان أن تزحزح الاستعمار البيزنطي. أما فيما يخص الأسباب الداخلية التي سمحت للإسبان بالاستيلاء على كثير من المدن الساحلية الجزائرية، فتعود بالأساس إلى الدولة الزيانية التي كانت تسيطر على جزء كبير من الجزائر في تلك المرحلة، فالزيانيون قد دخلوا في صراعات وحروب متواصلة تارة مع المريينين وتارة مع الحفصيين، كما أن القادة الزيانيين كانوا يتصارعون فيما بينهم على السلطة ويكيدون لبعضهم البعض، إضافة إلى أن القادة المحليين أصبحوا يتحالفون مع الإسبان ضد الدولة الزيانية وهذا يعطينا دليلا واضحا بأن الأسباب الداخلية التي جعلت بلادنا عرضة للاحتلال تتشابه في كثير من مراحلها ولا أحد يستطيع إنكار ذلك من خلال تتبع المراحل التاريخية. المهم أن هذه الصراعات والتحالفات مع العدو فتحت الباب واسعا على مصراعيه أمام الاحتلال الاسباني لاحتلال المرسى الكبير، وهنا يصادفنا سبب داخلي جديد لم يكن معروفا سابقا ويتمثل في فئة اليهود التي سوف يكون لها دور كبير في المراحل المقبلة من تاريخ الجزائر، فقد كان احتلال المرسى الكبير بسبب يهودي يسمى "سطورا " الذي كان هو قابض المكوس العامة لمدينة وهران وساعده في فتح باب المدينة للإسبان الخائنان "عيس العريبي" و"ابن قائص"، وهنا يظهر مدى استعداد فئات المجتمع الجزائري من سكان أصليين أو من ذوي الذمة في بيع ضمائرهم وبلادهم مقابل دريهمات معدودات. نمر إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي، فالأسباب الداخلية كانت ولا زالت نفسها وتمثلت في غياب سلطة جزائرية تمثل القوة المهيمنة على البلاد، فكان العثمانيون في إطار التعاون مع فرنسا قد منحوها امتياز صيد المرجان، وتحولت تلك المراكز إلى أوكار للدسائس ورسم الخطط لاحتلال البلاد وكل ذلك في غياب سلطة البلاد التي كان أكثر همها ملء الخزينة والتنافس على السلطة، فاستغل الفرنسيون تلك الظروف واعدّوا العدة من أجل الانقضاض على الجزائر، دون أن ننسى دور اليهود خاصة "بكري" و"بوشناق" اللذين كان لهما دور كبير في إذكاء نار العداوة بين الجزائروفرنسا، وذلك بسبب الديون المتراكمة عليهما جراء توريد القمح الجزائري إلى فرنسا، فاستغل هذان التاجران نفوذهما في البلاط العثماني والبلاط الفرنسي في توسيع الهوة بين الجزائروفرنسا رغم أننا نقول بأن الشعب الجزائري في هذه المرحلة غيّب تماما عن الساحة وأصبح مهمشا، وهذا في ظل انعدام المؤسسات العلمية والعلماء الذين كانوا حسب رأيي سببا مباشرا في الاحتلال من خلال إخلالهم بالتزاماتهم المتمثلة في تنوير العقول والوقوف في وجه السلطة الحاكمة من جهة وأمام ما يحاك للبلاد من الخارج من جهة أخرى. أ.د. رابح لونيسي: مؤرخ/ أستاذ بجامعة وهران ما يسجل علينا هو التكاتف فيما بيننا في وجه الغازي، لكن بمجرد طرده نعود إلى الصراع تعرضت الأمة الجزائرية عبر تاريخها الطويل إلى عدة غزوات بداية من الرومان ونهاية بالفرنسيين مرورا بالوندال والبزنطيين والإسبان والأتراك، وعادة ما يفسر ذلك بالموقع الإستراتيجي للجزائر وغناها بالثروات، لكن ما يسجل على أمتنا مواجهتها الغزاة بمقاومات شديدة حتى وصفنا ب"الإنسان المحارب"، لكن ما يلاحظ هو تماسك الأمة الجزائرية في وجه الغزو الخارجي، ولا يرتاح لها بال حتى تطرده، وحتى بعد إعتناق أجدادنا الأمازيغ الإسلام تقريبا 100%، فإنهم رفضوا التبعية إلى الدولة الأموية في دمشق، وأقاموا الدولة الرستمية التي تعد أول دولة مستقلة في تاريخ الإسلام، وهو ما يدل على مدى حرص أمتنا على إستقلالها، لكن ما يسجل علينا هو التكاتف فيما بيننا في وجه الغازي، لكن بمجرد طرده نعود إلى الصراع فيما بيننا، فتعود القبلية والجهوية والصراع العنيف حول السلطة، فنعجز عن بناء قوتنا بسبب ذلك، فنقع مرة أخرى تحت السيطرة الأجنبية، وللأسف كررنا نفس الظاهرة التاريخية بعد 1962، وهو ما يتطلب اليوم البحث الجاد في حل هذه المشاكل خاصة مشكلة السلطة، والذي لا يمكن أن يتم إلا بنظام ديمقراطي يتم فيه التداول السلمي على السلطة بدل العنف والإٌقصاء، مما يحفظ الإستقرار ويدفع للعمل والبناء. لكن لماذا لم نبحث في الأسباب الداخلية والذاتية المؤدية لتضييع إستقلالنا كل مرة، فنعتقد أن البحوث التاريخية عادة ما تهمل السكان الأصليين في دراساتهم، لأنها تعتمد على مصادر المستعمر، وهذه المصادر تتحدث عن المستعمر وتهمل المجتمع الأهلي، بل تنفيه تماما كأنه غير موجود، فمثلا هل من المعقول أن نركز في بحوثنا على الآثار الرومانية وغيرها ونهمل الآثار الأمازيغية المطمورة تحت الأرض خاصة المدن الأمازيغية التي بنى فوقها الرومان فطمسوها، وكأن الإيطاليون يحتاجون كتابتنا عنهم. كما أن هناك نوعا من التمجيد المفرط لذاتنا وتحميل الآخرين كل مآسينا، وهو مرض نفسي جماعي خطير نعاني منه، وكأن الجميع يتآمر علينا، ولم نقتنع بأن العلاقات الدولية مبنية على المصالح والتآمر، وهو أمر طبيعي، ويجب أن نسأل أنفسنا ماذا فعلنا للحفاظ على إستقلالنا وعدم ترك ثغرات للعدو يدخل منها، وحتى عند تدريسنا التاريخ في المدرسة فإننا نركز على العامل الخارجي لتفسير تخلفنا ومآسينا وتعرضنا للإحتلال، ولم نقل يوما للتلميذ بأن لنا جزء من المسؤولية في ذلك، وهو ما زرع في الطفل روح عدم تحمل المسؤولية والإعتقاد أن كل شيء في يد القوى الكبرى، أي بتعبير آخر كأنه قضاء وقدر، ولهذا يتحول عاجز على تغيير وضعه لأنه يرى مصيره في يد آخرين أقوى منه بكثير. فكلنا يعلم ما وقع لمفكرنا الكبير مالك بن نبي عندما طرح فكرته "القابلية للإستعمار"، أي بأن الإستعمار كان نتيجة لوضع إنسان ما بعد الموحدين المتخلف، والذي ظهر بعد إنحطاط الحضارة الإسلامية، لكن رغم توضيحات بن نبي الذي أٍراد القيام بنقد الذات للتخلص من الإستعمار بتغيير النفس، إلا أن ذلك لم يشفع له وأتهم في وطنيته لأنه حمل المسؤولية لذاتنا بدل الإستعمار. ونعتقد بأنه لا يكفي فقط إعادة طرح هذه الأسئلة والتعمق في البحث فيها كي نستفيد من تاريخنا وعدم تكرار نفس الأخطاء وفهم معوقات أمتنا بكل موضوعية للتخلص منها وفك الإرتباط بها لأنها عادة ما تكون ثابتة فينا، وتعيش فينا لمدة طويلة جدا، لكن هناك إشكالية أخرى يجب أن تكون لنا الشجاعة في طرحها بكل موضوعية، وهي ليس فقط أسباب وقوعنا تحت الإحتلال الفرنسي عام 1830، بل لماذا أستمر مدة طويلة، والذي يعد مسبة لشعبنا، وليس إفتخارا كما يريد أن يقنعنا الكثير، ويجب عدم الإكتفاء في تفسير ذلك بالبحث في سياسات الإستعمار فقط ، بل أيضا البحث بعمق في طبيعة ونفسية مجتمعنا التي من المؤكد قد وظفتها السلطة الإستعمارية للبقاء هذه المدة الطويلة.