عاد الحديث عن تعديل الدستور في زمن من الركود، في زمن يتطابق مع وصف ابن خلدون للطور الرابع في حياة دولة ومواصفات هذا الطور عنده هي: طور القُنوعِ والمسالَمَةِ.. والدولة في هذه المرحلة تكون في حالة ركود كامل، فلا جديد يحدث، ولا تغيير يطرأ، كأن الدولة تنتظر بداية النهاية. في هذا المناخ، يأتي حديث إعلامي عن كون السلطة عزمت على تحويل مشروع الدستور المعدل إلى البرلمان. فلماذا نتوقع أن تلجأ السلطة إلى تعديل الدستور وماذا يمكنها أن تعدل فيه؟ حتى الآن لم تُبد السلطة، بكل مكوناتها ما ظهر منها وما خفي، أي استعداد لنقل البلاد من هيمنة السلطة إلى مرحلة الدولة ومنطق دولة المؤسسات والقانون. واضح أن السلطة لم تعمل على تغيير المناخ العام السائد، وهي عبر رسالة الرئيس في 19 مارس الأخير تبنت موقفا عدائيا بعيدا كل البعد عن مستلزمات بناء توافق وطني جديد، لا حول وثيقة دستورية أخرى، وأقل من ذلك حول تغيير من شأنه فتح الباب أمام مرحلة جديدة في تاريخ الجزائر. إن صح ما انتشر من أخبار فذلك يعني من البداية أن الأمر سلطوي فقط، خاصة أن هناك خبرا تحدث عن أن الرئيس استقبل الفريقين ڤايد صالح ومحمد مدين (توفيق) وأطلعهما على موضوع تعديل الدستور. ولكن نعلم أن السلطة كانت قد أجرت جولة مشاورات مع بعض القوى السياسية، ولكنها لم تطلع تلك القوى السياسية على نتائج هذه المشاورات، وهل تم التكفل بالانشغالات المعبر عنها من طرف من شارك فيها أم لا. ومع ذلك دعونا نتساءل منهجيا: هل يمكن توقع أن السلطة القائمة، والمستفيدين منها، يتخلون عن منطق السلطة القوية والدولة الضعيفة والشروع في قلب هذه القاعدة؟ بمعنى أن نتجه إلى منطق الدولة القوية بمؤسساتها والسلطة المقيدة بالقانون وبالسلطات المضادة؟ مستبعد. هل يمكن أن تقبل السلطة القائمة بالخروج النهائي من منطق “سلطة مطلقة ومجتمع مقيد”، وفتح الباب أمام تحرير المجتمع وتقييد السلطة بالقانون وبالحرية والرقابة؟ مستبعد. من ناحية أخرى، يمكن القول إما أن يكون تعديل الدستور أو تغييره مندرجا في منطق بناء توافق وطني جديد يفضي إلى تغيير سياسي عام يضع شروط إخراج البلاد من أزماتها، أزمة الشرعية وأزمة غياب المؤسسات وأزمة الرداءة والفساد وأزمة العجز والركود وغيرها، أو أن هذا التعديل سيكون مجرد فعل سلطوي يندرج ضمن منطق إدارة ظرفية تحاول ربح الوقت وتأجيل استحقاق التغيير. مهما يكن فإن منطق السلطة القائمة ظهر، مرة بعد مرة، أنه منطق عقيم ورديء في شتى المجالات، ولا يمكن توقع أن يكون فعلا سياسيا متخلصا من الرؤية السلطوية البائسة، ولا يمكن توقع أن يكون ديمقراطيا، ولا يمكن توقع أن يكون منشغلا بإنقاذ البلاد بقدر ما سيكون منشغلا بإنقاذ المصالح الكبيرة المستفيدة من السلطة والناهبة للأموال العامة. لقد عودتنا هذه السلطة أن لا تنتج إلا ما يعبر عنها وليس ما يعبر عن المجتمع وقواه، وخاصة مصالح الأغلبية فيه، بل تبدو السلطة اليوم في حال قصور وعجز وفي وهن ورداءة مقرفة، وهي صارت منذ فترة لا تنتج إلا مزيدا من الأزمات. لهذا سبق أن كتبت (“الخبر” 15/1/2015) قائلا “.. أيها الرئيس لا تعدل الدستور، فالمصالح التي تدعمك غير مؤهلة، فهي فاشلة جدا ورديئة جدا ومعوقة بمصالحها وأنانيتها، ولا تملك ثقافة سياسية قانونية ديمقراطية، ولا ترى ضرورة لجعل الجزائريين طرفا في معادلة الحكم والقرار، فهي تعمل، كما أظهرت دائما، على الحفاظ على مكاسب سياسية ومادية، حيث احتكرت السلطة بشكل مطعون فيه، واحتكرت القدر الأكبر من الثروة بشكل مطعون في شرعيته وحتى في قانونيته، فضلا عن إفسادها الحياة الاقتصادية والتجارية..”. تعديل الدستور إما أن يتم بآليات أخرى غير سلطوية وأن ينبع من توافق سياسي وطني، أو أنه سيكون مجرد فعل سلطوي لا يختلف عن تعديل الدستور في 2008. وفعلا في ماذا يمكن أن يختلف دستور “الرابعة” عن “الثالثة”؟ ربما دستورُ الرابعة سيكون أقل سلطوية من الثالثة وفقط، ولكنه لن ينهي المنطق السلطوي، ولن يجعل الدولة قوية والسلطة مقيدة، ولن يحرر المجتمع ويقيد السلطة. وهو ما يعني أن الجزائر والجزائريين سيظلون في انتظار زمن آخر غير زمن السلطوية والاحتكار والرداءة. [email protected]