أدلى الكثير من الزملاء بدلوهم في موضوع إصلاحات مزعومة في القانون المنظم للعمل الإعلامي. ومساهمة في هذا النقاش أود تسجيل جملة ملاحظات: أولا: لا حرية إعلام ولا عمل إعلامي حقيقي من دون حياة سياسية. إن عدم وجود مؤسسات سياسية حقيقية وعدم وجود مؤسسات دولة بأتم معنى الكلمة وعدم وجود حياة برلمانية لا يمكن أن تعوضه أية حرية إبداء رأي. فالذي يحاسب السلطة ليس وسائل الإعلام والإعلاميين بل ممثلي الشعب. ثانيا: الخطاب السياسي منعدم. فالوزراء لا يتحدثون في السياسة لأن أغلبهم لا علاقة له بالسياسة ولأن السياسة منعدمة ومحتكرة من قبل الرئيس لوحده ويسمح بها أحيانا للوزير الأول أحمد أويحيى وأحيانا لمبعوثه الخاص عبد العزيز بلخادم. والنواب لا علاقة للأغلبية الساحقة منهم بالعمل السياسي وأقل من ذلك بنشر الأفكار وبدائل الحلول. فأي إعلام يمكن أن ينمو في هذا الفراغ وفي هذه الرداءة المقرفة في ممارسة العمل الحكومي والعمل البرلماني؟ لا ثقة في هذه السلطة لا بد من ضمانات دستورية قبل التفاوض ثالثا: ينبغي كسر العلاقة الثنائية القائمة حاليا. سلطة إعلام، إعلام سلطة، حرية تعبير عقوبة، عقوبة حرية تعبير. وذلك بسيط لا بد من تدخل طرف محايد والأفضل أن يكون مهنيا. لا بد أن تنسحب السلطة التنفيذية من شؤون الإعلام وتقتصر على القيام بالدور المنوط بها دستوريا. من ذلك السماح بقيام مؤسسات مختصة في قياس الرأي العام ومراكز دراسات ومؤسسات التحقق من الانتشار لوسائل الإعلام .. وهكذا دواليك. رابعا: لا يمكن وضع العربة قبل الحصان، ينبغي النضال أولا من أجل تحرير الساحة السياسية ومن أجل وضع ما أمكن من ضمانات ممارسة الحريات ومنها الحرية الإعلامية. ولهذا من الأفضل لرجال المهنة عدم التعجل في اعتماد قانون إعلام جديد، لأنه من الأفضل للمهنة ورجالها أن يتم ذلك في ظروف أخرى، لا تتدخل فيها السلطة. من الناحية العملية لا يمكن المجازفة مرة أخرى، وسبق أن فعلنا ذلك والنتيجة أمامنا، بالتفاوض مع السلطة على قانون جديد وهي في الواقع ما زالت تبعث لنا برسائل تدفع لليأس الكامل من استعدادها لأي تغيير حقيقي. خامسا: ما هو متوفر من وسائل إعلام، ما زالت محدودة تكنولوجيا، ليس لكون صحافييها ومسؤوليها لا يريدون ولا يعرفون، بل لأن المناخ السياسي والاقتصادي والسلطوي لا يسمح بغير هذا. العالم من حولنا، وحتى في الكثير من البلدان العربية، عرف تطورا تكنولوجيا رهيبا في حين ما زالت الجرائد عندنا، لأنه ليس هناك إعلام سمعي بصري أصلا، تتشابه كلها، ورق واحد وحجم واحد وتقريبا ماكيت واحدة. سادسا: إعلام الخبر والمعلومة والتحقيق هو الإعلام الحقيقي وليس إعلام الرأي. السلطة وبيروقراطياتها تحتكر المعلومات وليس هناك آلية معلومة لتداول هذه المعلومات ولا ترتيب قانوني يلزمها بالإفراج عنها. والأخطر أن الوزارات والمؤسسات الأساسية لا تتقن صناعة المعلومات والوزراء لا يتقنون حتى صياغة تصريح، بعضهم لا يتقن أي لغة ولا يتقن بالخصوص صياغة خطاب إعلامي ويقول كلاما غير مفهوم أو لا يحمل أحيانا مدلولات ولا يعتمد الوزراء على متخصصين ولا يرون أحيانا ضرورة لذلك. وهذه المسألة ينبغي أن تكون موضوع نضال السياسيين والأحزاب والمجتمع المدني وليس الإعلاميين فقط. سابعا: الإعلام والمال وقد طرح الموضوع من قبل بعض الزملاء من زاوية التخوف من سيطرة أصحاب المال على الإعلام. والخطير في الموضوع أنه يتم في زمن الاحتكار السياسي وفساد المجال الاقتصادي التجاري. مما سينقل الفساد إلى المجال الإعلامي وقد بدأ ذلك منذ فترة وهو قد يتعمم. ولكن يمكن القول أيضا أنه لا بد أن يقوم اقتصاد إعلام حقيقي ولا بد من فتح الاستثمار في القطاع برمته، صحافة مكتوبة وإعلام سمعي بصري وغير ذلك، وفق ضوابط يطمئن أصحاب المهنة لها. ثامنا: بناء عملية إعلامية متطورة في حاجة، ليس للقانون، ولكن للحرية وللثقة في هذا القطاع، فالإنتاج الإعلامي المتنوع الذي يغذي وسائل الإعلام بإنتاج نوعي مسألة هامة في كل البلدان إلا في الجزائر. ينبغي أن يقوم مناخ إنتاجي ومناخ من البحث الإعلامي ومن ألوان إعلامية أخرى، وجانب كبير من هذه العملية يقع على عاتق السلطة العمومية، لأنها ملزمة دستوريا بتوفير إعلام متنوع للمواطنين. تلك أهم المسائل المطروحة، ولكن السؤال المطروح هو: من يحدد الأهداف في قطاع الإعلام ومن يجعل الإعلام يترنح في هذا المستوى الرديء؟ إن الإجابة واضحة ولذلك لا بد من إصلاح عام جذري للدولة ومجموع أدواتها والخروج من المنطق السلطوي إلى منطق دولة المؤسسات. حراسة خانقة على سوق الإعلام أما من الناحية المهنية، أثني على ما ورد في مساهمة الزميل بشير حمادي، ولا أكرر ما ورد فيها، وأقول إن العملية الإعلامية في بلادنا ما زالت بدائية في جوانب كثيرة منها. فبعيدا عن مسألة الحريات وضماناتها ووجود حياة سياسية ومشاكل احتكار الساحة السياسية واحتكار عوامل استقلال المؤسسات الإعلامية، وخاصة الإشهار والطباعة، فهناك مسائل مهنية هامة جدا. من هذه المسائل المتصلة ببناء عملية إعلامية متكاملة وراقية، الوصول إلى مصادر الخبر. وفعلا فإنه من دون تمكن الإعلاميين من الوصول إلى مصادر الخبر وإلزام كل مؤسسات الدولة، عندما تكون هناك مؤسسات دولة، بذلك، سنظل نمارس إعلام النقد السياسي الاجتماعي وذلك واضح أنه لا يزعج السلطة إلا نادرا. إن عملية إعلامية تقتصر على الجرائد، ويشك رجال الإعلام أن غالبية مكوناتها الضحلة وعناوينها المتخلفة تتبع السلطة أو أصحاب نفوذ في السلطة، هذه العملية تحمل في طياتها رؤية احتكارية سلطوية تجعل المجال الإعلامي محدود في موارده ومحدود في دوره. الكل يعرف أن قانون الإعلام لعام 1990 فتح الباب بوضوح للمبادرة الإعلامية وفي جميع مجالات الممارسة الإعلامية. وتمنع السلطة حتى اليوم بذرائع أمنية أو غيرها قيام قنوات خاصة أو إذاعات خاصة أو حتى جرائد إلكترونية. إن حق المواطن في إعلام متنوع المنصوص عليه في الدستور، لا يمكن أن يتجسد في المناخ الحالي. ولهذا فإن تضييق السوق الإعلامي ومواردها يمكّن السلطة من التحكم فيها ويحرم وسائل الإعلام من منافعها. لقد ناضلنا سنين طويلة من أجل حرية امتلاك المطابع، ولكن ما زال الاحتكار شبه كامل، فما عدا عددا قليلا من الجرائد، فإن الغالبية الساحقة تلجأ لمطابع السلطة. أما موضوع الإشهار فهو مرتبط بإدارة مصادر تمويل الإعلام ككل. فالتمويل الأول للإعلام عندنا هو الإشهار. والإشهار تتحكم فيه السلطة وتمنحه بشكل انتقائي مغرض، وليس هناك أي قاعدة موضوعية لتوزيعه، لا اعتماد قاعدة السحب والمبيعات ولا أي قاعدة سوى تقديرات بعض أصحاب النفوذ السلطوي. لقد تحولت هذه المسألة بعبعا رهيبا مسلطا على الإعلاميين. لهذا لا بد من وضع ضوابط صارمة تقيد السلطة وأجهزتها. الركود الاقتصادي والاحتكار عاملان ضربا سوق الإعلام ولم يمكنا الإعلام من إحداث نقلة نوعية، والحصول على التنكولوجيا الحديثة، ولا الوصول إلى الكثير من الجزائريين. لكن في الواقع المسألة مرتبطة بالعملية الاقتصادية وبالحالة السياسية العامة. فالاحتكار هو طبيعة النظام سياسيا واقتصاديا وإعلاميا. ولهذا قلت إنه لا ينبغي وضع العربة قبل الحصان. مسألة اللغة، مسألة هامة جدا. لماذا؟ ليس من حيث وجود أو عدم وجود صحف باللغة الفرنسية، بل من حيث مدى كون وسائل الإعلام ممثلة للطلب الإعلامي الحقيقي. فإذا قلنا أن الأحزاب ضعيفة التمثيل لمختلف قوى المجتمع والمصالح القائمة فيه، فإن وسائل الإعلام أيضا لا تعكس بشكل أكيد حقيقة الطلب على الإعلام. ولهذا فهناك إدارة للموضوع وهي إدارة مغرضة أيضا. إن إلزام السلطة، أو الدولة ومؤسساتها عندما تقوم فعلا، بالتكفل مباشرة بترقية محيط العملية الإعلامية، لأنه من وظائف السلطة العمومية، مثل تطوير صناعة المعلومات في الوزرات والإدارات وفي المجال الاقتصادي وتجاوز مسألة السرية المفرطة. مسألة ذات طابع استراتيجي هام. ترقية صناعة الإعلام. وتبدأ هذه العملية من ترقية تكوين رجال إعلام المستقبل. وينبغي أن يحدث تطور في هذا المجال، بحيث ينبغي تمكين وسائل الإعلام من إقامة مؤسسات تكوين مشتركة لتحسين مستوى الداخلين الجدد وإتمام تكوين المتخرجين من المعاهد المتخصصة في الجامعة وفق ما تحتاجه المؤسسات الإعلامية. التخلي عن البيروقراطية ومنطقها المتمثلة في وزارة الإعلام، وإعطاء الفرصة للمهنيين إدارة شؤونهم بنفسهم في مجالس منتخبة. الخلاصة: لا يمكن أن نثق في السلطة وفي الخلاصة يمكن القول، كما سبق أن لاحظ الكثير من الزملاء، أن قانون 1990 كان الأرحم فلماذا تلاعبت به السلطة وأفرغته من محتواه عوض ترقيته؟ لهذا لا يمكن أن نثق في هذه السلطة وفي وعودها. لا بد من ضمانات دستورية قبل أي تفاوض على قانون جديد للإعلام. كما لا بد من القول، لا ينبغي للإعلاميين الغرق في الاعتبارات الفنية للقانون والصياغات القانونية، لأن المهم هو تغيير المنطق العام لممارسة العمل الإعلامي. لأنه من دون حريات كاملة سياسية واجتماعية ونقابية وأكاديمية، سيظل العمل الإعلامي جزيرة معزولة ومحروسة بسياج الطباعة والإشهار والاعتماد القانوني وخاصة بمنطق السلطة وعصبها.