يتفق كل من محمد خوجة ومصطفى صايج، وكلاهما أستاذ للعلاقات الدولية بجامعة الجزائر، على أن روسيا بتصعيد الموقف والتلويح بالخيار العسكري، ترسل إشارة قوية إلى الغرب، بأنها لا تتردد في تقويض الترتيبات الأمنية والسياسية التي تمت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأنها لا تقبل المساومة في مسألة الاحتفاظ بمراكز القوة التي باتت تملكها في أوكرانيا، عسكريا بقواعدها في شبه جزيرة القرم، أو سياسيا وثقافيا في الجزء الشرقي من أوكرانيا، أو اقتصاديا بحكم تبعية أوكرانيا ودول الاتحاد الأوروبي إلى النفط والغاز الروسي. في ظل قناعة فلاديمير بوتين بأن تفكيك الاتحاد السوفياتي خطأ كبير روسيا تبحث عن فرصة استعادة هيبتها ”الامبراطورية” يعتقد الدكتور محمد خوجة أن ما يحدث في أوكرانيا الآن يعتبر من الناحية الجيو -سياسية بمثابة لحظة تصادم، أو احتكاك قوي بين مشروع امبراطوري روسي، اتضحت معالمه مع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة، وبروز يقظة سياسية للوطنية الأوكرانية التي بدأت تدرك بوضوح وتتحسس القبضة الروسية القوية التي استحكمت حلقاتها على عناصر القوة في الدولة الأوكرانية، سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا، وترى أن الاندماج مع الاتحاد الأوروبي هو الملاذ الآمن والخلاص الوحيد من قوة الجذب الروسي التي تتجه إلى هدف لا يقبل الشك أو التردد، وهو ابتلاع أوكرانيا على مراحل، ضمن مسار متدرج يأخذ بعين الاعتبار مراحل الضعف والتراخي على المستوى الأوروبي والأمريكي. تمثل الأزمة الأوكرانية، حسب محمد خوجة، لحظة فارقة في تحول طبيعة النظام الدولي الذي تتضح معالمه تدريجيا، من أزمة إلى أخرى، وعقب كل حرب، منذ إقدام الولاياتالمتحدةالأمريكية على غزو العراق، وهو نظام متعدد الأقطاب يخلف نظام الأحادية الأمريكية. فروسيا، من خلال فرض أمر واقع بإرسال قواتها العسكرية إلى أوكرانيا والتلويح بتصعيد الموقف، إنما تؤكد حقيقة نهاية الهيمنة الأمريكية على الأقل في شقها السياسي العسكري. وأضاف ضيف ندوة ”الخبر” حول الوضع الحالي في أوكرانيا: ”أخيرا يمكن القول إن الأزمة الأوكرانية تؤشر على تزايد التشتت الجيو سياسي في منطقة أوراسيا، بفعل ظهور لاعبين جدد إقليميا ودوليا، مثل الصين والهند واليابان، هذه القوى تثير مشكلة توزيع جديد للقوة والتأثير العالمي، وأن الخطر الأكبر الذي ينطوي عليه مسرح التشتت الجيو سياسي في آسيا، هو تشكل تراتبية عالمية جديدة، مرشحة في نظر الكثير من المحللين لأن تنشر مزيدا من الفوضى والاضطراب، خاصة مع بداية تراجع مكانة الولاياتالمتحدة عالميا”. وفي سياق متصل، قال الدكتور خوجة إن المشروع الروسي في ضم أوكرانيا بالغ التعقيد، فقد تعتمد روسيا على استثمار المشكلات الاقتصادية الأوكرانية، أو افتعالها أو تعميقها، لجعل مسألة الضم أكثر قبولا داخليا وخارجيا، لكن المخاطرة باستعمال القوة قد تكون بالغة التكاليف. وأضاف: ”وستكون درجة رد الفعل الأوروبي والأمريكي عنصرا أساسيا في حساب المخاطرة، ولكن قد ينفد صبر روسيا مع تراجع تأثير الغرب إلى بروز وضع متفجر في أوكرانيا”. موسكو بحاجة لتجاوز عقدتها الجغرافية من يملك أوراسيا يملك سيادة العالم يندرج النزاع الأوكراني الروسي، حسب الدكتور مصطفى صايج، ضمن النزاعات الجيو سياسية بامتياز، حيث تنظر روسيالأوكرانيا على أساسا أنها تاريخيا جزء من روسيا القيصرية، التسمية القديمة لها هي روسيا الصغرى. وفي التاريخ السياسي الحديث، تم إلحاق شبه جزيرة القرم بأوكرانيا في فترة الرئيس السوفياتي خروتشوف ذي الأصول الأوكرانية سنة 1954 بمناسبة الذكرى المئوية الثالثة للارتباط الأوكراني الجغرافي بروسيا. وذكر مصطفى صايج، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، أن العقدة الجغرافية السياسية الروسية في بناء امبراطوريتها وتوسعها في المجال الحيوي الأوراسي، مرتبطة بتواجدها في المنافذ البحرية الدافئة، فهي جغرافيا حبيسة اليابسة، وكل استراتيجيتها قائمة على التمركز في ”سيباستوبول” في شبه جزيرة القرم، تشكل عامل بقاء وتمدد للامبراطورية الروسية للتوسع في البحر الأسود والانتقال لشرق المتوسط. وعليه، فإن استقلال أوكرانيا وانفصالها عن الاتحاد السوفياتي سابقا، وفق تحليل الدكتور صايج، كان مرتبطا بالتواجد العسكري البحري لروسيا في شبه جزيرة القرم، في البداية عقد كراء تنتهي آجاله سنة 2017، ثم ضغطت روسيا بالسلاح الطاقوي (الغاز) والقروض على الرئيس فيكتور ينوكوفيتش على تمديد عقد الكراء إلى غاية 2042. وقال صايج: ”كما تمثل أوكرانيا بالنسبة لروسيا منطقة حاجزة، حيث جهزت القرم بنظام للدفاع البحري (الصواريخ المضادة للأساطيل البحرية)، وبجيش روسي يصل تعداده إلى خمسة وعشرين ألف عسكري”، مضيفا: ”مع العلم أنه وفق المقاربة الجيو سياسية المعاصرة التي يطرحها الأمريكيون، خصوصا بريجنسكي، فإن من يملك أوراسيا يملك السيادة العالمية، وفي قلب أوراسيا ضرورة محاصرة روسيا في اليابسة ومنع أي تحالفات لإضعاف القوة العالمية الأمريكية، خصوصا التحالف المستقبلي الروسي الألماني، وهذا ما يتضح من خلال إصرار الاستراتيجية العسكرية الأمريكية على إقامة الدرع الصاروخي في بولونيا وجمهورية التشيك لمحاصرة روسيا وحبسها جغرافيا”. وعن سؤال حول تأثيرات الوضع من الناحية الجيو اقتصادية، فيعتقد الدكتور صايج أن شرارة النزاع داخل أوكرانيا انطلقت مع تأجيل وليس إلغاء الرئيس فيكتور يانوكوفيتش التوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لحسابات اقتصادية داخلية وطبعا نتيجة الضغط الروسي الذي يرى في أوكرانيا قلب المشروع الاقتصادي التجاري، وهو المشروع ”الاتحاد الأوراسي” الذي يضم روسيا، وروسيا البيضاء، وكازخستان، وغرغستان، وهو عبارة عن اتحاد جمركي تجاري لبناء سوق إقليمية منافسة للسوق الأوروبية. كما يرى صايج أن النزاع كذلك في أصله هو من يمتلك الأسواق الواسعة خصوصا أن أوكرانيا بكتلتها الديمغرافية (ستة وأربعون مليون نسمة) وقوة منجمية وثروات معدنية، تشكل ساحة للتنافس الاقتصادي التجاري. وبخصوص انعكاسات ذلك، قال ضيف ندوة ”الخبر”: ”وهذا ما جعل روسيا تغري الرئيس الأوكراني بالتوقيع على اتفاق قرض قيمته خمسة عشر مليار دولار والاستفادة بأسعار للغاز الروسي التحفيزية، التخفيض بقيمة الثلث، بينما الغرب كان يضغط بآليات صندوق النقد الدولي والقروض. وفي سياق متصل، قال صايج إن النزاع في بعده الهوياتي يحاول أن يحدد مستقبل أوكرانيا المتأرجحة بين الهوية الأوروبية والهوية الروسية، وهذا دائما قدر أوكرانيا التي تعني منطقة الأطراف أو الحدود، فهي تاريخيا منطقة تتنازعها الإمبراطوريات. كما أن الوضع الجغرافي جعل أوكرانيا متعددة الهويات والقوميات، فالهوية الأوروبية اتضحت في حركة ”الأورو- ميدان” المطالبة بالانضمام للاتحاد الأوروبي، بينما المنطقة الشرقية المرتبطة صناعيا وتجاريا بالتجارة والتبادل مع روسيا، فمصلحتها في البقاء تحت النفوذ الروسي. أمام وجود عدة سيناريوهات لحل الأزمة في أوكرانيا بوتين وجّه رسالة للغرب بعد تهديد مصالح ”غاز بروم” قال الدكتور مصطفى صايج إن الخيارات المطروحة لحل الأزمة الأوكرانية تتمثل في عدة سيناريوهات، منها السيناريو الجورجي الذي يتضح في مؤشراته الكبرى من خلال لعب روسيا ورقة المواطنين الروس في القرم، وهي نفس الاستراتيجية التي طبقتها في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وعليه يطرح اليوم سيناريو تجنيس الروس الأوكرانيين، وتشجيع هجرة الروس إلى المجال الحيوي المطل على البحر الأسود. ويعتقد مصطفى صايج أن التلويح باستخدام القوة العسكرية في أوكرانيا، يعكس مبدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي سوّقه في فترة الانتخابات الرئاسية عندما وجّه رسالة للغرب بعد تهديد مصالح ”غاز بروم” الروسية في ليبيا، وقال: ”أي اعتداء على مصالحنا الطاقوية العسكرية في العالم سنستخدم القوة العسكرية للدفاع عنها”. وقال صايج: ”بالتالي، فإن التدخل العسكري في القرم، هو واقعي وجاهز سواء بإعطاء مجلس الاتحاد الروسي الضوء الأخضر لبوتين، أو من خلال مطالبة الحكومة والسلطة التشريعية في شبه جزيرة القرم الدفاع الروسي بالحفاظ على أمنها. أما رد فعل القوى الغربية، فيتمثل في كيفية منع موسكو من الانتقال إلى الجناح الغربي الأوكراني ذي الهوية الأوربية الغربية”. وفي أقصى الحدود، فإن روسيا ستراهن، حسب صايج، على خيار التقسيم بالاستفتاء المزمع إجراؤه في القرم نهاية ماي القادم حول الحكم الذاتي الموسع أو الالتحاق بروسيا، وهي ورقة للضغط السياسي على الحكومة الانتقالية في كييف والاتحاد الأوروبي بضرورة تعطيل انضمام كييف للاتحاد الأوروبي. كما تحدث ضيف ندوة ”الخبر” عن سيناريو توازن المصالح الروسية - الغربية انطلاقا من مبدأ توازن المصالح لكل أطراف النزاع، حيث يمكن تصور سيناريو تفاوضي تعاوني بين روسيا - أوكرانيا بوساطة دولية. فمصلحة أوكرانيا والاتحاد الأوروبي تتمثل في أن يبقى الغاز الروسي يتدفق على الدول الأوروبية لأمنها الطاقوي خصوصا في هذه الفترة. وفي الوقت ذاته، فإن روسيا حاليا بحاجة للأراضي الأوكرانية لإمدادات الغاز الأوروبي (ستون إلى ثمانون بالمائة من الغاز المصدر لأوروبا يمرّ عبر أوكرانيا). وذكر صايج أنه وفق هذا السيناريو، فإن اللعب على تهديد المصالح الروسية (فرض عقوبات اقتصادية، عزلها اقتصاديا) كلها سلوكات لتليين الموقف الروسي لعدم التوسع العسكري داخل أوكرانيا. أنهى مراكز القوة الأوليغارشية المالية فلاديمير بوتين شخصية مثيرة للجدل وصف الدكتور محمد خوجة شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ب”الشخصية المثيرة للجدل”، فقد أحدث قطيعة مع أسس النظام السياسي الروسي الذي تشكل مع سابقه بوريس التسين. فبوتين يرى، حسب خوجة، أن انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، وقد قام بتركيز القرار في موسكو وقاد مخطط إصلاح الاقتصاد الروسي باقتدار، واعتمد سياسة خارجية أكثر وطنية من التسين، وأكثر بروزا لمظاهر القوة والتمايز مع الغرب. وقال خوجة: ”بعد أن أنهى بوتين مراكز القوة الأوليغارشية المالية، استعان بما يطلق عليه ”نخبة السيلوفيكي” في ”الكاجي بي” سابقا، ومعناها ”القابضون على السلطة”، فقام بتقليص نفوذ المناطق واعتماد التعيين بدل الانتخاب لحكام هذه المناطق الروسية، والحد من سلطة الإعلام المناهض للحكومة، وتجريف المعارضة، وكل ذلك تم بفضل القدرة على التأثير في الرأي العام الروسي، على أن الاستقرار والرخاء الاقتصادي أهم من المشاركة الديمقراطية على نموذج التسين”. لكن الوزن الاقتصادي لروسيا، حسب المتحدث، لايزال ضعيفا أمام الغرب، فالناتج الداخلي الخام لروسيا لا يتجاوز نسبة 25 للناتج الداخلي الخام لليابان و10 بالمائة من الناتج الداخلي الخام لأمريكا، ويأتي بذلك في المرتبة 12 عالميا، وأوضح: ”إن سياسة بوتين تقوم على مواصلة الضغط على أوكرانيا لإبقائها ودمجها بشكل مستمر في الفضاء الاقتصادي المشترك مع روسيا، مع تجريد أوكرانيا على مراحل من قدرتها على التحكم المباشر بقدراتها الصناعية، سواء باستيلاء الشركات الروسية أو بمواصلة تسرب العناصر الموالية لروسيا إلى أجهزة الأمن والقيادات العسكرية الأوكرانية بهدف تفكيكها من الداخل”. ويعتقد خوجة أن هناك شكوكا في ما يخص استمرار قدرة الرئيس بوتين على مواصلة مشروع بناء الامبراطورية الروسية، نظرا لتكلفته الاقتصادية، وتصاعد عدم الاستقرار والفوضى، والذي يتزايد بفعل روح المنافسة التي تطفو بروح قومية تقوض أسس الاستقرار الإقليمي، وقد بدت معالمه على الأقل في الإطار الاقتصادي والدبلوماسي، وقد يدخل انتقاله إلى استخدام القوة العسكرية في أوكرانيا ضمن حرب محدودة، بما تكلفه من تغير الحسابات الجيو سياسية، والتي قد تؤدي إلى مزيد من نفاد الصبر الروسي، والانزلاق نحو حروب تشبه حرب جورجيا، تدفع في نهاية الأمر إلى عودة أجواء الحرب الباردة مع الغرب في وقت مبكر لم تستعد له روسيا. روسيا مشحونة بحنين الماضي السوفياتي يعتقد الدكتور محمد خوجة أنه يوجد هناك تعارض مصالح واضح بين روسياوأمريكا في أوكرانيا، وبشكل مستمر، بل يمكن القول إن هناك لعبة صفرية بين الطرفين في هذه المنطقة الاستراتيجية، فكل ما تربحه روسيا تخسره الولاياتالمتحدةالأمريكية التي ترى في تمدد روسيا نحو الهيمنة الإقليمية والدولية، تهديدا مباشرا لحلفائها الأوروبيين، كما أن روسيا المشحونة بنوع من حنين الماضي السوفياتي لا تتردد حول قضايا أمنها القومي، بما قد يدفعها إلى التضحية ببعض مزايا التنسيق مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، حتى وإن بدت بعض مواقفها ملتبسة ببعض أحلامها وطموحاتها الامبراطورية. وعلى الرغم من أن أمريكا وحلفائها الأوروبيين لم يتعدوا، حسب الدكتور خوجة، عتبة الإدانة والتلويح بالعقوبات الاقتصادية على روسيا، فإن هناك قلقا وخشية أمريكية أوروبية من السعي الروسي إلى ملء الفضاء الذي يضم دول الاتحاد السوفياتي سابقا، ضمن حيز اقتصادي مشترك تحت سيطرة موسكو، ولذلك لا تتردد الولاياتالمتحدةالأمريكية في دعم أي تمرد داخل هذه الدول، لتقويض المشروع الامبراطوري الروسي، ويساعدها في ذلك، إضافة إلى الأداة العسكرية المتمثلة في مواصلة تمدد الحلف الأطلسي إلى تخوم روسيا، تشجيع القوى الناعمة في أوساط مجتمعات الدول المنبثقة عن انهيار الاتحاد السوفياتي.