تلتقي ضمن فضاء العمل وتتبلور مختلف عناصر النظام الاجتماعي: الاقتصادية والسياسية والثقافية، لذا فإنه من غير المعقول البحث في مكانة ودور العمل في المجتمع الجزائري من دون الأخذ بحقيقتي: الطابع الريعي للاقتصاد والنزعة التسلطية للنظام السياسي الحاكم؛ إنه وعلى حسب نمط خلق الثروة (النظام الاقتصادي) وتوزيعها (النظام السياسي) تتأسس المجتمعات. منذ الاستقلال والجزائر تعيش التأثير المتعاظم لمنظومة اقتصادو-سياسية ريعية، تمكنت من إنتاج قيم ومعايير وسلوكيات تتماشى معها، ما يؤكد- مرة أخرى- استحالة الحديث عن العمل كقيمة في المجتمع وتمثلاته لدى أفراده بمعزل عن هذه المنظومة. فالطرح الذي يقارب موضوع العمل في المجتمع الجزائري من زاوية أن العامل الجزائري هو عامل كسول وغير منتج، إنما هي مقاربة جوهرانية تغفل عن الأخذ بالمسببات الموضوعية التي تقف وراء انعدام الانضباط ونقص الإنتاجية اللذين يميزان فضاء العمل في الجزائر. فوصف العامل الجزائري بالكسل كميزة ثقافية ثابتة فيه ما هو إلا حكم قيمي واختزالي مبني على تصنيف معياري، يرى في الإنسان الغربي تجسيدا للانضباط والإنتاجية لينخفض المؤشر كلما اتجهنا نحو جنوب الكرة الأرضية. إن العامل الجزائري لا يقل كسلا عن أي عامل آخر في أي مجتمع كان، هو ليس كسولا لمجرد أنه جزائري، بل لأن النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي نشأ ويعمل فيه لا يعتبر العمل قيمة مركزية، ومنه اعتقادنا بأن النظرة المعيارية للعمل تخضع لمطلب المقارنة الفجة لا الفهم الموضوعي. يقع العمل في المجتمع الجزائري، من حيث هو قيمة اجتماعية وممارسة اقتصادية، تحت أسر المتطلب السياسي، الأمر الذي جعل أشكاله ومضامينه مرتبطة بطبيعة الممارسات الاقتصادية والسياسية للنظام الحاكم ورهاناته الأساسية. لقد شكّل فضاء العمل ولازال أحد أدوات الفعل السياسي، فمناصب العمل، خاصة لدى القطاع العام، تدخل في سياق امتيازات تُمنح، الغرض منها توسيع القاعدة الزبونية للنظام وشراء السلم الاجتماعي بعيدا عن أي غاية إنتاجية خلّاقة للثروة. وأبلغ مثال على هذا مكانة الريادة التي يحتلها قطاع الوظيف العمومي في الجزائر، بوصفه أكبر مُشغّل لليد العاملة (قرابة 2 مليون موظف، 86 بالمائة منهم بعقد عمل دائم. ويرتفع العدد إلى 2,8 مليون موظف مع إضافة العاملين في إطار مختلف صيغ دعم التشغيل)، وكذا أكبر موظّف لها (أعلى نسبة نمو في خلق مناصب العمل في الفترة 2005-2012 كان في قطاع الوظيف العمومي: 47 بالمائة)، بالإضافة إلى الانفصال الموجود بين قيمة الأجر الذي يتقاضاه العامل من جهة ومردوديته وقدرته الإنتاجية من جهة أخرى، فهو ينظر إلى الأجر على أنه “حقّه” ونصيبه من الريع لا مقابلا للجهد الذي يقوم به لإنتاج سلع ما. بهذا تتأكد غلبة المنطق السياسي على المنطق الاقتصادي في العمل. أي مجتمع كي يضمن استمراره يحتاج إلى إعادة إنتاج نفسه ماديا، وهذه العملية تتحقق في حالة الجزائر بفضل إعادة توزيع مداخيل الريع، وليس بما يخلقه العمل الإنتاجي من قيمة مضافة. إننا بصدد الحديث عن نظام اجتماعي يحتل فيه الريع مكانة مركزية في جميع الحقول، خاصة السياسي والاقتصادي منها، فلطالما استعملت السلطة في الجزائر الريع كمورد سياسي لإدامة سيطرتها على المجتمع، بأن تم اختزال مهمة الدولة ووظيفتها في “إعادة توزيع” موارد الريع على شكل امتيازات للتأسيس لقاعدة اجتماعية ممتدة من الزبائن، وهي الأرضية التي أسست لشرعية السلطة الحاكمة لدى الشعب. هذا التفسير يتيح لنا فهم مضامين ومآلات سياسة التشغيل في الجزائر، فهي لا ترتبط بواقع الاقتصاد ومتطلبات سوق العمل بقدر ما هي أداة في خدمة أجندة النظام السياسي ورهاناته. حقيقة أن مصدر الثروة في الجزائر يقع خارج فضاء العمل: أعماق الأرض، ساهم في انتشار وتقوية الاعتقاد بعدم جدوى العمل اقتصاديا واجتماعيا، وجعل منه مجرد فضاء للتفاوض الاجتماعي حول توزيع الريع وحيازة حصص منه، وليس فضاء للإنتاج وخلق الثروة. إن الفرد في المجتمعات القائمة على العمل يُعرّف بدرجة ومضمون مساهمته في خلق الثروة وإعادة الإنتاج المادي للمجتمع، إذ للعمل مكانة مركزية ضمن منظومة القيم وشبكة العلاقات الاجتماعية. هي مجتمعات استحوذ فيها العمل على كمّ كبير من الزمن الاجتماعي إلى درجة صار يقابل فيها العمل ببقية النشاطات الاجتماعية المشكّلة للحياة اليومية للجماعات والأفراد، فهناك وقت مخصص حصرا للعمل وما تبقى منه فلباقي النشاطات: الأسرية والرياضية والتعليمية والدينية والسياسية والثقافية.. ضمن هذا السياق يؤدي العمل دور القاطرة بالنسبة لبقية مجالات الحياة الاجتماعية، مدفوعا بحزمة من القيم أنتجتها الليبرالية الاقتصادية والفكرية: الفعالية والعقلانية والربح والإنتاجية. إن خطاب العمل في المجتمعات الغربية تسلّل إلى كافة مسامات الحياة الاجتماعية، ليتجسد في مفردات تنتصر للعمل والجهد (البذل، التفاني، النجاح..) وفي أيديولوجية التفوق والإبداع، في حين إنه في المجتمع الجزائري يهيمن نوع آخر من الخطاب حول العمل، تتخلّله مفردات: الانتهازية و«القفازة” و«الفياقة” والحيلة و«المعريفة”، التي تتماشى ومركزية الريع كعلاقة اجتماعية مهيكلة للتشكيلة الاجتماعية الجزائرية عموديا وأفقيا. لقد تمكّن النظام الريعي من إفساد شبكات الواجبات والالتزامات (التضامن الاجتماعي) بين أفراد المجتمع، بأن أدخل عليها منظومة قيمية محكومة بغاية الافتراس والنهب (اقفز تعيش، طاڤ على من طاڤ..) فما كان لقيم الالتزام والوفاء والجدية والإتقان.. إلا أن تهجر فضاء العمل. إن التاريخ يبيّن أن فضاء العمل كان دائما مجالا خصبا لانبثاق قوى اجتماعية جديدة تصبو إلى إعادة صياغة علاقات السلطة والسيطرة في المجتمع. لكن، في الجزائر، نعيش ومنذ ما يقرب من نصف قرن حالة من التخدير والفعالية المسلوبة التي مست هذا الفضاء، إن على المستوى الاقتصادي: فهو غير منتج للثروة إلا بالقدر الهين؛ أو على المستوى الاجتماعي: إذ لا يتيح انبثاق قوى وحركات اجتماعية حاملة لمشروع سياسي واجتماعي واضح المعالم. الدور الكبير لفضاء العمل في تغير المجتمعات وتطورها يبرز أكثر في سياق الحداثة الأوروبية، ففي القرن 19 شكّل فضاء العمل في أوروبا المكان الأبرز للمواجهة الاجتماعية التي حددت مصير المجتمع الأوروبي، إنها المواجهة بين العمل ورأس المال، بين البروليتاريا والبرجوازية. لقد كان للعمل الصناعي في أوروبا القرنين 19 و20 أن هيكل علاقات السلطة والسيطرة في المجتمع بأن أعاد صياغتها كليا. أما في الجزائر ولأن فضاء العمل يئن تحت وطأة منطق الريع فإنه لا ينتج إلا حركات وديناميات اجتماعية واقعة داخل أطره وممارساته وغير قادرة على تجاوز الحالة الريعية، فاحتجاجاتها مدفوعة أساسا بمطالب التوزيع الأعدل لمداخيل الريع، وهي مشكّلة من فئات تعتبر نفسها مهمّشة من الريع وبالريع. إنه حراك اجتماعي بأفق سياسي ضيق وبأدوات فعل وخطاب واقعين داخل حدود النظام الريعي وليس خارجه. فضاء العمل في أوروبا القرون الثلاثة الأخيرة أنتج المجتمع الاقتصادي القائم على الفردانية، والتي كان لها دور المحرك لدينامية الحداثة اجتماعيا وسياسيا وفكريا، حاملة مطالب الحرية والكرامة والاستقلالية وحقوق الإنسان والمواطنة؛ في المقابل، فإن فضاء العمل في سياق النظام الريعي سرّع بروز فردانية منحرفة ومزيفة، قائمة على نزعة أنانية متوحشة وضد اجتماعية، شرعنت لسلوكيات النهب والافتراس، وأعلت من شأن قيم وممارسات: الانتهازية والوصولية و«الفياقة” و«القفازة”. لقد تم إفراغ العمل من مضامينه الأخلاقية-الدينية-الإنسانية وغاياته الإنتاجية-الاقتصادية، لتحتل مكانها مضامين وغايات تتماشى ومنطق النظام الريعي؛ إنه انتصار للريع على العمل، فالدولة الريعية ليست بحاجة إلى عمال منتجين بل إلى زبائن، هي تتوجس خيفة من العمل المنتج لما يفتحه من آفاق تغيير اجتماعي وسياسي. مع هيمنة النظام الريعي تصبح الدولة في غير حاجة إلى المجتمع لأنها ضمنت استقلالها عنه بالمورد الريعي، هي لا تحتاج إلى ما ينتجه المجتمع من ثروة من خلال تعبئة القوى العاملة حول الجهاز الإنتاجي. إن الريع يسمح للسلطة الحاكمة بالاستقلال عن المجتمع، وبذلك ممارسة علاقة سيطرة على أفراده، ومنع تشكّل فضاءات مستقلة يكون بإمكانها ولادة مجتمع اقتصادي (نواة لتشكل المجتمع المدني)، يستطيع إعادة إنتاج نفسه بالعمل، وحامل لمشروع دولة حديثة. إن غياب العمل المنتج للثروة والخلاق للقيمة المضافة يعني استحالة انبثاق الفرد الحر المستقل، الفرد المواطن. لذا وجب استبدال الريع بوصفه العلاقة الأكثر هيمنة وهيكلة للتشكيلة الاجتماعية في الجزائر بنوع آخر من العلاقة هي العمل، فمنطق الريع لا ينتج إلا الجمود في حين أن منطق العمل محرر للحركة والتغيير. خضوع العمل في المجتمع الجزائري لمطلب ولغاية الولوج إلى الريع ولاستراتيجيات الأفراد والجماعات الهادفة إلى التقرب من مصادره والتموقع هناك، إضافة إلى الأيديولوجية الشعبوية الذي تتعامل بها الدولة مع العمل وسياسة التشغيل، يجعل من غير الممكن تحوّل الفضاء الاجتماعي للعمل إلى حقل للفعل والقرار المستقلين، ويمنع تشكّله كنواة لحركية اجتماعية دافعة في اتجاه التغيير وطرح البديل. بعبارة أخرى، لقد أفضت الممارسات الاقتصادية الريعية للنظام الحاكم إلى تحييد المكوّن السياسي للعمل فصار شأنه شأن العديد من مراكز السلطة المحتملة واقعا تحت ضغط منطق النظام الريعي ومتطلباته. اتسام بيئة وعلاقات العمل في المجتمع الجزائري بدرجة عالية من العدوانية والصراعية راجع إلى طبيعة ونوعية المكاسب المتنافس عليها ضمن هذا السياق المجتمعي، فالرهان ليس الإنتاج وخلق الثروة بل توزيع الريع. لذا تبرز وتتنامى استراتيجيات فعل فردية وجماعية مدافعة وحامية للمكاسب ومتسابقة على المواقع التي تتيح حصة أكبر من الريع، عبر بناء التحالفات وإنشاء الزمر والعصب، الأمر الذي يضطر العمال إلى التواجد في حالة استعداد ويقظة، نفسية وذهنية، دائمتين، ما يولد إرهاقا وضغطا عصبيين وإحساسا مستمرا باللاأمن، كما يستنزف ويشلّ قدراتهم الإنتاجية والإبداعية. هي إستراتيجيات الغاية منها حيازة الامتيازات والاقتراب أكثر فأكثر من منبع الريع الأساسي وهو الأجهزة الإدارية للدولة، باتّباع قاعدة “القفازة”: “بذل أدنى حد من الجهد لضمان أعلى حد من الأرباح”. إن علاقة الفرد بالعمل في المجتمع الجزائري هي علاقة الاستثمار بالحد الأدنى، فهو يتفادى قدر الإمكان استدعاء أناه وموارده النفسية الفكرية والجسدية، كما أن استحضاره للدوافع العميقة ولروح المقاولة والمسؤولية لا يرقى إلى المستوى المأمول. وتفسير ذلك هو أن العمل ليس مكانا للإنتاج، الإبداع وخلق الثروة بل مجال يتيح ضمان حصة من الريع، إنه مكان للأخذ، والافتراس والنهب لا للعطاء، والبذل وتجاوز الذات. خاصة وأن هذا الواقع يتقاطع مع نظرة النظام الحاكم لمنصب العمل على أن له وظيفة سياسية هي شراء السلم الاجتماعي، وليست بأي حال من الأحوال وظيفة اقتصادية أي الإنتاج وخلق الثروة. [email protected]