إخواني الأفاضل، شهر رمضان أوشك على التّمام، وقرب إحسان ختامه، انصرفت لياليه وأيّامه، قرب رحيله، وأذِن تحويله، ولم يبق منه إلّا قليل، فلله الحمد على ما قضى وأبْرَم، وله الشّكر على ما أعطى وأنعم، تنطوي صحيفة رمضان وتنقضي سوقه العامرة بالخيرات والحسنات، وقد ربح فيه مَن ربح وخَسِر مَن خسر، فطوبى لمَن كانت التّقوى بضاعته، وكان بحبل الله معتصمًا. إنّ شهرنا عزم على النّقلة، ونوى الرّحلة، وهو ذاهب بأفعالنا، شاهد لنا أو علينا بما أودعناه، فيا ترى هل هو راحل حامد لصنيعنا أو ذام لتضييعنا! تشريعات الإسلام تتضمّن أسرارًا لا تتناهى، ومقاصد عالية لا تُضاهى، وإنّ مَن فَقِهَ مقاصد الصّوم كونه وسيلة عظمى لبناء صفة التّقوى في وجدان المسلم بأوسع معانيها وأدقّ صورها: {يَا أيُّها الّذِين آمَنوا كُتِبَ عليْكُم الصّيامُ كمَا كُتِبَ علَى الّذِين مِنْ قبْلِكُم لعلَّكُم تَتَّقون}. فهل يا ترى إنّنا اتّخذنا من رمضان مدرسة استلهمنا منها شدّة العزم وقوّة الإرادة على كلّ خير؟ تقويمًا للسّلوك وتأديبًا للنّفوس، وتعديلًا للغرائز وتهذيبًا للظّواهر والبواطن، وصفاء للأعمال، ونقاء للضّمائر، وتمسّكًا بالخيرات والفضائل، وتحليًا بالمحاسن والمكارم، حينئذ نكون قد خرجنا من صومنا بصفحة مشرقة بيضاء ناصعة، نافعة في حياتنا، مفعمة بفضائل الأعمال ومحاسن الأفعال، ومكارم الخِصال. إخواني الكرام، استقبال شهر رمضان وتوديعه فرص للتّأمُّل، ووقفات للنّظر، فعسى الأمّة أن تدرك وضعها، وتسعَى في الإصلاح، وتقوّي ما ضعف، وتعالج ما اختلّ، فأيّام رمضان فترات رائعة، لو صادفت اعتبارًا، ولاقت استغلالًا، مع صدق في النّوايا والمقاصد. ألَا ما أحوج الأمّة في أيّام محنها وشدائدها وأزمات ضعفها وذلّها إلى وقفات عندما تمرّ بها مناسبة كرمضان، لتستلهم العِبَر والعِظَات، لتجدّد العزم على المُجاهدة الحقّة للشّيطان، وتحقّق المسيرة الصّحيحة للسّيْر على الصّراط المستقيم، ليَعُمّ بها التوجّه على محاربة كلّ بغي وفساد بشتى صوره، واختلاف أشكاله. رمضان مدرسة لا يجوز الخروج منها إلّا بإصلاح للأوضاع، ومراجعة لمواطن الخَلل في جميع أمورنا دينيًا ودنيويًا، فجدير بنا ونحن محاطون بالفتن وتكاثرت علينا المحن، جدير بنا أن نَجعل من هذا الشّهر الكريم نقطة تحوّل من حياة الفرقة والاختلاف إلى الاجتماع والائتلاف، جدير بنا، ونحن أتباع محمّد صلّى الله عليه وسلّم، أن نتّخِذ من هذا الشّهر مرحلة تغيّر، مرحلة جادة إلى موافقة المنهج الحقّ في جميع شؤوننا على ضوء كتاب ربّنا وسُنّة نبيّنا. إنّ من أسرار رمضان أنّه يذكّرنا شدّة جود المصطفى بكلّ أنواع الخيرات، وبشتى أوجه القُربات، وأسمى الصّفات الزّاكيات، كان عليه الصّلاة والسّلام أجود النّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فهل يا تُرَى اقتبسنا في هذا الشّهر الكريم من سيرته في جميع لحظاتنا وشؤوننا؟ فسيرته عليه الصّلاة والسّلام هي الشّمس السّاطعة، والمشعل الوَضّاء والنّور المتألّق الّذي يُبدِّد ظلمات الانحرافات كلّها، والاضطرابات جميعها، فحاجتنا إلى معرفة السِّيرة العطرة أشَدّ ما تكون في هذا العصر الّذي تقاذفت فيه أمواج المِحَن وتشابكت فيه حلقات الفتن وغلبت فيه الأهواء. فها هي الأمّة تواجه ألوانًا من التّحدّي الماكر، والتّآمر الرّهيب، فلا بدّ أن يعيش حبّ الرّسول في قلوبنا، وأن نتّبِعُه ببصائرنا وآمالنا وتوجّهاتنا في كلّ لحظة من لحظاتنا: {لَقد كانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِر وَذَكَر اللهَ كثيرًا}. وأخيرًا، فإنّ من حُسن التّوديع لهذا الشّهر الكريم الإكثار من التّكبير، فربّنا يقول: {وَلِتُكْمِلوا الْعِدّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ علَى مَا هَدَاكُم وَلعلّكم تَشْكُرون}. والله وليّ التّوفيق. * إمام مسجد عمر بن الخطاب بن غازي - براقي