بعد سيطرة قوات “فجر ليبيا” على العاصمة طرابلس بالكامل، وطرد مقاتلي مجلس شورى بنغازي لقوات الصاعقة من عاصمة الشرق الليبي، لم يعد الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، قائد عملية الكرامة، يسيطر فعليا سوى على مدينتي طبرق والبيضاء في شرق ليبيا مع بعض جيوب المقاومة في منطقة بنغازي، في حين تقهقر حلفاؤه من كتائب الزنتان في غرب ليبيا إلى قواعدهم الخلفية في جبل نفوسة بعد هزيمتهم في طرابلس، تاركين قبائل الرجبان وورشفانة وبني وليد في مواجهة مصيرهم أمام قوات فجر ليبيا الراغبة في الانتقام ممن تصفهم “بأزلام القذافي”. تعيش ليبيا حربا أهلية حقيقية، أو بالأحرى حربين قبليتين الأولى غربا في طرابلس وما حولها، والثانية شرقا في بنغازي والمدن الساحلية الواقعة شرقها، مع توقع انفجار جبهة ثالثة للحرب في خليج سرت الشهير بالمحروقات والموانئ النفطية، ولكن لكل جبهة من الجبهات الثلاث خصائص وفاعلين رئيسيين يختلفون من جبهة إلى أخرى، غير أن ما يجمع الفرقاء المتخاصمين في الجبهات الثلاث موقفهم من عملية الكرامة بقيادة الجنرال المتقاعد خليفة حفتر المدعوم من الإمارات العربية المتحدة ومصر، وحدد هدفه في محاربة المليشيات الإسلامية بجميع توجهاتها، سلفية كانت أو إخوانية أو غير ذلك، وعلى هذا الأساس وقع التمايز بين معسكرين كبيرين: حلفاء حفتر، وخصوم حفتر، رغم أن كل معسكر يجمع بين كتائب متناقضة في التوجهات والمصالح والمناطق، ولا يخضعون إلا إلى أوامر قادتهم المحلية، دون أن يكون لحفتر أو قائد الأركان أو وزير الدفاع أي سلطة فعلية على جميع الكتائب المتحالفة معه. فالجيش الليبي الذي تشكل بعد انهيار نظام القذافي، يتكون من: 1/ ضباط وجنود منشقون عن جيش القذافي: وعلى رأسهم كتيبة الصاعقة في بنغازي المكون من نحو ثلاثة آلاف مقاتل، والتي انضمت إلى الثورة منذ بدايتها بكامل رجالها وعتادها بقيادة الجنرال عبد الفتاح يونس قائد جيش التحرير الليبي الذي اغتاله الثوار في ظروف غامضة، كما قام المؤتمر الوطني بعزل 700 ضابط وجندي وإحالتهم على التقاعد، من بينهم الجنرال خليفة حفتر الذي قاد القوات البرية للثوار ضد القذافي، لكنه استطاع أن يقنع هؤلاء الضباط بالوقوف معه، والاتصال بضباط عاملين في الجيش شكلوا فيما بعد نواة عملية الكرامة. 2/ كتائب إسلامية: لعبت دورا أساسيا في الثورة الليبية، ثم انضمت إلى الجيش الليبي شكليا دون أن تحل نفسها، ويتقاضى رجالها مرتباتهم من وزارة الدفاع، باستثناء كتيبة أنصار الشريعة التي رفضت الانضمام للجيش، ومن أشهر هذه الكتائب: كتيبة شهداء 17 فبراير، كتيبة راف الله السحاتي، غرفة عمليات ثوار ليبيا والتي تضم تجمعا لقادة كتائب الثورة الليبية والمحسوبة على التيار الإسلامي. 3/ كتائب قبلية: خلال الثورة ليبية شكلت كل مدينة أو قبيلة كتيبة أو مجموعة كتائب، ثم ضمت الحكومة هذه الميليشيات القبلية إلى الجيش بهدف احتوائها بعد فشل محاولة نزع سلاحها خاصة وأن بعض القبائل كانت تمتلك من الأسلحة الثقيلة ما يفوق ما يملكه الجيش الليبي، وأقوى هذه القبائل مصراتة المعادية للجنرال حفتر والزنتان المتحالفة معه. 4/ الكتائب الفدرالية: كتائب تتبع لقبائل شرق ليبيا الانفصالية، ويقودهم المكتب السياسي لإقليم برقة، الذي شكل حكومة انفصالية لم تعترف بها أي دولة، ويتبع حرس الموانئ النفطية في خليج سرت لمكتب إقليم برقة الانفصالي بقيادة الجضران، وقد خلقوا أزمة سياسية واقتصادية كبيرة بعد أن منعوا تصدير النفط الليبي، بل وحاولوا تصديره لحسابهم الخاص، لولا تدخل القوات البحرية الأمريكية ما أجبر الجضران على تحرير الموانئ مقابل تعويضات مالية كبيرة تلقاها رجاله. ورغم أن قوات فجر ليبيا حسمت المعركة في طرابلس، واقتراب مجلس شورى بنغازي من حسم معركة بنغازي (لم يبق خارج سيطرتها سوى مطار بنينا ومعسكرات منطقة الرجمة) إلا أن المعارك في ليبيا ليست مرشحة للتوقف في القريب العاجل، فالكفة تميل ميدانيا لصالح قوات فجر ليبيا ومجلس شورى بنغازي، لكنها سياسيا لصالح حفتر وقوات الكرامة بعد اعتراف دول جوار ليبيا والاتحاد الأوروبي بشرعية مجلس النواب الذي أعلن ولاءه بشكل غير موارب للجنرال حفتر، بينما تدعم قطر وتركيا عملية فجر ليبيا، في حين تمسك الولاياتالمتحدةالأمريكية العصا من الوسط وتحاول فتح قنوات اتصال مع قوات فجر ليبيا المسيطرة على العاصمة وعلى المؤسسات الرسمية والحيوية في البلاد من بينها البنك المركزي. وتتجه المعارك نحو الاتساع في ثلاث جبهات رئيسية، اثنتان منها متفجرة، والثالثة تنظر الوقت المناسب للانفجار، وهذه الجبهات الثلاث هي: 1/ جبهة طرابلس (الغرب الليبي): أين استطاعت قوات فجر ليبيا هزيمة كتائب الزنتان والصواعق والقعقاع والمدني وكتائب القذافي المتحالفة معها مثل: الرجبان وورشفانة وبني وليد (الورفلة)، وسيطرت قوات فجر ليبيا التي تمثل كتائب قبيلة مصراتة رأس حربتها على مطار طرابلس وجميع معسكرات الزنتان في جنوب غربي طرابلس مثل النقلية والدعوة الإسلامية و7 أبريل ومقر قيادة الأركان ومقر وزارة الداخلية، وبعد انسحاب كتائب الزنتان إلى جبل نفوسة، تنوي قوات فجر ليبيا بعد تطهير العاصمة طرابلس من خصومها، الزحف نحو مدينة ورشفانه المحسوبة على نظام القذافي وتطهيرها من المقاتلين الذين دعموا الزنتان، ومن ثم الزحف نحو مدينة “الزنتان” في جبل نفوسة، ومحاصرتها بالاستعانة بالكتائب الأمازيغية في جبل نفوسة مثل ثوار نالوت واستعادة، لكن كتائب الزنتان أعلنت أنها تستعد لهجوم معاكس، خاصة وأن لديها عدة أوراق للعبها، حيث اتهمت قوات فجر ليبيا كتائب الزنتان بإطلاق سراح عسكريين روس قاتلوا إلى جانب القذافي، وكان الثمن تفعيل موسكو لصفقات سلاح قديمة مع ليبيا، ما يعني تزويد عملية كرامة ليبيا بأسلحة روسية لمحاربة الكتائب الإسلامية مثلما فعلت موسكو في العراق عندما زودت جيش المالكي بطائرات مستعملة لقتال داعش، كما أن كتائب الزنتان يملكون ورقة سيف الإسلام القذافي المطلوب للعدالة الدولية وقد ترغب جهات معينة لاستلامه أو تحريره مقابل صفقة ما. 2/ جبهة بنغازي (الشرق الليبي): واستطاع مجلس شورى ثوار بنغازي السيطرة على نحو 90 بالمئة من عاصمة الشرق الليبي، ويحاصرون الآن مطار بنينا الدولي وقاعدته الجوية ويقصفونه بصواريخ غراد ما جعله خارج الخدمة بعدما كان يستعمله حفتر في قصف خصومه جوا، كما يتمركز في منطقة الرجمة القريبة من المطار ما تبقى من القوات الخاصة بقيادة سالم النايلي المدعو عفاريت، وتوسعت المواجهات في الجبهة الشرقية لتشمل مطار الأبرق (18 كم شرق مدينة البيضاء) والخاضع لسيطرة قوات حفتر، بعدما استهدفه مجلس ثوار درنة المتحالف مع ثوار بنغازي، كما أن التطور الأخطر في مدينة البيضاء التي كانت مقرا للمجلس الوطني الانتقالي خلال الثورة ضد القذافي، يتمثل في إعلان ثوار البيضاء انضمامهم إلى المعسكر المناهض لحفتر وعملية الكرامة، ما يعني أن الانفلات الأمني قد يطال مدينة البيضاء التي عرفت الهدوء حتى في زمن الثورة، خاصة وأنها محاصرة من الغرب بمجلس شورى ثوار بنغازي ومن الشرق بثوار درنة، ومن الداخل بثوار البيضاء ما يعني أن حفتر قد يخسر معاقله في مدينة البيضاء خلال الأسابيع القادمة، التي تعتبر ثاني أهم معقل له بعد مدينة طبرق القريبة من الحدود المصرية، والتي من المستبعد أن يبقى الجيش المصري متفرجا في حالة محاولة “ثوار الشرق” السيطرة عليها، حيث سبق أن قصفت طائرات حربية “قيل” إنها تابعة لحفتر رتلا عسكريا لثوار درنة كان متجها نحو طبرق للانتقام من قصف طائرات حفتر لميناء درنة. 3/ جبهة خليج سرت: وتقع في وسط الساحل الليبي في خليج سرت الذي تنتشر به موانئ تصدير النفط مثل راس لانوف والسدرة والبريقة، وبه نحو 60 بالمئة من الاحتياطي النفطي لليبيا، ويتحكم في هذه المنطقة الاستراتيجية الحساسة المكتب السياسي لإقليم برقة، والذي تدعمه بعض قبائل الشرق الليبي التي تسعى لحكم فيدرالي ويتهمها خصومها في الغرب بمحاولة تقسيم ليبيا، ويتبع لحكومة إقليم برقة بقيادة ابراهيم الجضران حرس الموانئ النفطية الذين منعوا تصدير النفط من أربعة موانئ يسيطرون عليها في خليج سرت لعدة أشهر حتى كادت حكومة علي زيدان تعلن إفلاس خزينة الدولة، وانضمت قوات إقليم برقة لعملية الكرامة بقيادة حفتر، وشاركت في عمليات قتالية ضد مجلس ثوار بنغازي وتتركز قواتها في مطار بنينا ببنغازي وفي مطار الأبرق في البيضاء، ورغم أن منطقة خليج سرت هادئة نسبيا إلا أنه من غير المستبعد أن تشتعل هذه الجبهة في حالة تمكنت قوات فجر ليبيا من تثبيت الوضع في غرب ليبيا، ودخلت قوات “ثوار الشرق” مدينة طبرق، حينها فقط ستكون المواجهة حتمية بين “ثوار ليبيا” في سرت التي سيطر عليها ثوار ليبيا بالتعاون مع أنصار الشريعة والميليشيات التابعة للمكتب السياسي لإقليم برقة لانتزاع الموانئ النفطية وحقولها منهم. غير أن انتصار عمليات فجر ليبيا أو نجاح عملية كرامة ليبيا في بسط سيطرتها على كامل التراب الليبي لا يعني نهاية الحرب الأهلية والفوضى الأمنية في البلاد، لأن كل تكتل عسكري يضم تحالفات غريبة وهجينة مبنية على مبدأ “عدو العدو صديق”، وبمجرد انهزام العدو المشترك يصبح الصديق عدوا، وقد يتم التحالف مع العدو المهزوم ضد الصديق السابق وهذا ما حدث بين قبيلتي مصراتة والزنتان.