قال أندري ماروغي بيكاسو: “بيكاسو هو أروع مهدم ومبدع للأشكال في زمننا هذا وفي جميع الأزمنة”. وكان هذا الفنان قد انخرط في الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1945 بعد انهيار النازية في أوروبا، الشيء الذي جعل منه رجلا تقدميا (سياسيا) وفنانا طلائعيا (إبداعا) ويمكننا متابعة هذا العمل الهدام الإبداعي من زاويتين اثنتين: الأولى منهما تتعلق بما يقع تحت الأنظار والأخرى تتعلق بالخيال إذا هام في الانخطاف، فيغوص المبدع آنذاك في عالم سحري واقعي، أي تحرير الطبيعة الحية الخاصة بالأشكال ينكرها حينا ويثبتها أحيانا. ولعل أعمال بيكاسو كلها تكاد تكون متوقفة على إعادة تاريخ الرسم عامة وإحيائه من جديد، خاصة أن الناحية الانتقادية التي اتسم بها بيكاسو لا تظهر فقط في المرحلة الأخيرة من حياته الطويلة، إذ تناول فيها عدة مواضيع كانت قد عولجت من قبل، مضيفا، مغيرا، محررا بطريقة عجيبة، فنخص بالذكر منها “فيلازكس” و”دولاكروا”، بل ويبدو ذلك الاتجاه جليا منذ بداية تاريخ فنه، وكأنه أراد أن يصحح (سياسيا) لوحات الآخرين، فيعالج من جديد ما سبقه من المنتجين التشكيليين. فيتضح بعدها ذلك الميل (الهاجس؟) إلى اتخاذ مواقف انتقادية تجاه الحياة وتجاه رؤيته السابقة للحياة منذ البداية، لأنه أصبح شيوعيا عندما بلغ الثامنة والعشرين من عمره، أي إنسانا وفنانا ذا رؤية خاصة، فشغف بتغيير العالم ومعالم العالم وأشكاله وشغف كذلك بتثوير العالم سياسيا، خاصة أنه كان يشارك في كل المظاهرات السياسية ضد الاستعمار والامبريالية ويدافع عن السلم فرسم “اليمامة” المشهورة التي مازالت تلعب دور الشعار والرمز عند اليساريين في العالم بأسره. وما أن انطلقت الحرب التحريرية في الجزائر حتى عكف بيكاسو على رسم سلسلة “نساء مدينة الجزائر في غرفهن” وذلك ما بين 13 ديسمبر و14 فيفري، أي شهرا ونصف شهر بعد اندلاع الثورة الجزائرية، خاصة أن هذه اللوحة كبيرة الحجم كانت قراءة للوحة “أوجين دولاكروا” التي كانت تحمل نفس العنوان. وهكذا عبّر بيكاسو عن تضامنه مع الشعب الجزائري بسرعة خارقة وانتقد هكذا رؤية “أوجين دولاكروا” الذي كان ضابطا في المخابرات العسكرية الفرنسية واستعماريا هستيريا، فصحح بيكاسو التاريخ. فمن لوحة “دولاكروا” المطبوعة بطابع استشراقي وشبقي (القرن التاسع عشر) رسم بيكاسو شيئا آخر، شيئا ثوريا. وقد صرح هذا العبقري / الثوري بما يلي: “إن كل الوثائق الرسومية في كل الأزمنة والأمكنة مشوهة بطريقة فظيعة وكاذبة، لذا أردت تصحيحها تضامنا مع الشعب الجزائري الذي يقاوم الاستعمار الفرنسي البشع بكل صرامة وبكل شجاعة”. فعكف بيكاسو، إذن، على نتاج “دولاكروا” يصحح فيه رؤيته الاستعمارية لنساء مدنية الجزائر ويضع خمس عشرة منوعة مختلفة حول هذا الموضوع نفسه، متمما ذلك في ظرف شهرين فقطǃ وكأنه وجد نفسه، هو الشيوعي الذي يكره الاستعمار، في سباق مع الزمن وكأن الثورة الجزائرية كانت تضغط عليه منذ أيامها الأولى ليحقق إنجازا ما. خمس عشرة لوحة في ظرف شهر ونصف شهرǃ خمس عشرة لوحة من الطراز الرائع الحامل لعبقرية هذا المبدع وكأنه آت من مكان وزمان لا نعرف له مفهوما، لأنه كان يريد شيئا واحدا: التعبير عن تضامنه مع الجزائر وعن تقديره وإجلاله للجزائر وللثورة الجزائرية في أيامها الأولى (يتبع).