مهد الفن التشكيلي الغربي فيما أنتجه من تمظهرات فكرية وجمالية خلال القرن الثامن عشر خاصة للشرط الكولونيالي وساعده على التحقّق، ليس فقط في الجغرافيا الشرقية، ولكن في المخيال الشرقي كذلك كحقيقة جمالية يتعالى بها ومن خلالها المستعمر على الذات الشرقية بوصفها موضوعا قابلا للتعري أمام الفنان الغربي من أجل إعادة تشكيله وفق النظرة الاستعمارية التي دامت أكثر من قرن من الزمن لم يكن فيها سحر الشرق يتجاوز جماليات الجسد، كما صورته أدبيات كتاب (ألف ليلة وليلة) بوصفه الكتاب الوحيد المفتوح على النهم الغربي ورغبته الملحة في قضم التفاحة الشرقية المكتنزة. وعلى الرغم من صورة القدسية والتحريم التي يحيل إليهما مفهوم التعرية أمام الآخر في المجتمعات الشرقية، فإن الإرث التشكيلي الغربي يطرح في هذا المجال -ومن وجهة نظره- عديد القضايا المتعلقة بالمقاربة الفكرية والفلسفية للجسد الشرقي بوصفها مدخلا موضوعيا للولوج إلى عالم الشرق واستكشاف عوالمه المتخفية، وذلك من خلال التأسيس لترسيخ الشرط الكولونيالي في الممارسة الفكرية والجمالية الغربية المتشبعة بالإنجازات العلمية والمعرفية المستعدة للتضحية بالإرث الروحي الغربي من أجل عقلانية “الكوجيطو" الديكارتي الغائبة عن سحر الشرق بوصفه مدونة استعمارية ناشئة. 1 - التأسيس لشعرية الجسد الشرقي: أسست الرؤية الاستلابية، لما يسميه برند مانوئيل فايشر، ب (الشرق في مرآة الغرب) نسقا فكريا وجماليا ترددت من خلال تمظهراته الفكرية والجمالية الأصداءُ الداخلية التي يُكنُّها المثقفون والفنانون الغربيون للشرق وهم يحاولون اكتشاف عوالمه المُسيّجة بوصفها جنة محرمة عليهم وعلى غير الشرقي بصورة عامة. وربما كان هذا “التحريم" سببا رئيسيا في تشكيل المخيال العام الغربي لما تزخر به هذه الجنة في نظرهم من “محرمات" لم تكن في متناول تصورهم العقلاني ل “المحرّم"، وكان لا بد لهم ومن واجبهم، نزع هالة التقديس عنه والدخول إليه وتعريته من وجهة نظر استعلائية، والوصول في النهاية إلى نزع هالة التقديس عنه، وذلك من خلال ما تتيحه “العين المجردة" من سعة نظر تطال الصورة المبحوث عنها في المكان الشرقي بزاوية دائرية تضمن سلطة الاختراق لتحقيق “التعرية" وتتحول بموجبها العين من “عين مجردة" إلى “عين مُجسِّدة" للصورة المثالية التي سيتم تثبيتها في المخيال الغربي كحقيقة جوهرانية للشرق. يعتبر خورخي لويس بورخس، أن “الحدث الأبرز بالنسبة لتاريخ الأممالغربية هو اكتشافها للشرق". ولطالما بقيت هذه الرؤية الاستكشافية عاكسة للتوجه العام الذي حمله هؤلاء المثقفون أساسا إبهاريا لما وفروه من أدوات سخروها في خدمة مخطط تعرُّفهم على الآخر والدخول إلى جنته المحرمة من أجل تعرية صورتها المنطبعة في العين الغربية لا بوصفها جزءا من عالم تتكامل شموليته باكتمال صورته ذات الأبعاد الأربعة التي تحددها الجغرافيا، ولكن بوصفها تفاحة ديونيسية قابلة للقضم، ومن ثمة قابلة لإعادة التشكيل، نظرا لما تحمله من اكتنازات إغرائية تطفح بها العين الغربية الخارجة لتوّها من سبات حضاري دام قرابة العشرة قرون، كان لابد للتصور الغربي المستيقظ أن يحدد معالمها ويميزها بما تتيحه بوصلة الذات من تعيين للآخر في صورته الجغرافية ذات البعد المكاني وصورته الجسدية ذات البعد الإنساني من خلال “استقطاب التمييز وتعميقه- إذ يصبح الشرقي أكثر شرقية والغربي أكثر غربية- وفرض حدود التعامل الإنساني مع الثقافات والتراثات والمجتمعات المتخلفة". لقد شكل بحث العين الغربية عن الأدوات الفكرية والمادية التي تحقق إعادة صياغة الآخر وفق المنطق المتعطش للتوسع، آلية اتصالٍ و أساس انفصال، في الوقت نفسه، ساعد على صياغة مدونة الأفكار العامة لخريطة الطريق التي سيتأسس بموجبها “الاستشراق" بوصفه علما لمعرفة الآخر في صورته المثلى وصورته المتخفية ودراسته بغرض احتوائه فكريا وحضاريا وماديا. وقد ساعدت هذه الآلية ذات البعدين المتناقضين على البحث عن لوازم العمل الضرورية الكفيلة بتحقيق السبل الفنية والجمالية التي تمكن من تثبيت هذه الصورة المثلى في المتخيل الثقافي الغربي العام المتأهب للزحف عليها ماديا وتأكيد جدارة الاستيلاء على أيقوناتها الفكرية والحضارية المتخفية في “الجسد المستور" بوصفه قيمة حضارية تعكس التصور الشرقي للجنوح بالخيال إلى أقصى درجات التجريد والسمو عن الماديات التي طالما كانت المحرك الحقيقي للمقاربة الفكرية والفلسفية الغربية منذ أن تمكنت من التحرر من النظرة القروسطية المغلقة والخروج إلى العوالم التنويرية التي زخر بها القرن الثامن عشر. لقد كان الشرق بالنسبة للغربيين دائما مُبهرا وجذابا.. مضيئا وشفافا.. يُريهم، هم القادمين من عمق ظلمتهم المعرفية، ما معنى أن يستر الإنسان رؤيته للعالم وللكون لأنها أشد إضاءة في عالمه الداخلي وأشد انسجاما مع الامتداد الطبيعي للنفس وهي تأخذ طمأنينتها من امتداد أشعة الشمس المزروعة في الأفق كأنها النهار الدائم إلى الأبد. ليس ثمة ما يجعل الأنظمة والقوانين السارية على تشكيل رؤية الفنان للعالم سريان الدم في العروق مفعمة بهذا النوع من الاندراج ضمن شمولية الطرح التي توفرها الجغرافيا الشرقية غير ما تتيحه هذه الجغرافيا (الجسدية خاصة) من اقتراح ٍ جمالي لالتقاء التجسيد بالتجريد يحقق للكثير من الفنانين المولعين ببهارات الشرق شعرية مفعمة بالاقتراح، يحاولون من خلالها اختراق منظومة الأقفال الشرقية المزروعة بسرية تامة في جسد الشرق الثاوي على حرارة الأزمنة المتوقفة عن الدوران منذ السقوط المتهاوي للفعل الحضاري الشرقي في نمطيّات ما اصطلح على تسميته بعصر الانحطاط. إنها اللحظة الحاسمة -التي ستنطبع فيما بعد بطابع الكولونيالية- لالتقاء التجريد بالتجسيد على الرغم مما ينهما من اختلاف في فهم جوهرانية الانتساب للقطب النقيض في البوصلة الفكرية ذات الاتجاهين، والتي سيصبح بموجب تقسيماتها الكولونيالية الانتمائية الشمال غربا والجنوب شرقا. لقد “برزت محاولة التماثل بين حضارتي الشرق والغرب على أعتاب مرحلة جديدة من تطورهما التاريخي (على تخوم القرن الثامن عشر التاسع عشر). وكانت قد شهدت تقاربا وتبادلا ثقافيا ليس بطرف متناقض حضاريا وحسب، وإنما عملية تأثر وتأثير وفي حالة من الازدواجية والتثقف واضحة المعالم"، كما تقول زينات بيطار. غير أن هذا التماثل كثيرا ما اصطدم بواقع المعاملة الحقيقية للغربي مكتشفا للشرق وهو يحاول أن ينفّذ العامل الأساسي في تحرك العقلانية الغربية نحو الشرق الروحي بدافع احتوائه وترويض المساحات المستعصية على الخضوع وتفكيك الأنساق التخييلية المودعة في الأقفال الدينية والاجتماعية التي تحيط بقداسة الجسد الشرقي. 2 - الفعل التنفيذي للتعرية: لقد ترسخت صورة الفعل التنفيذي ل (التعرية) بوصفها أداة لإرضاخ الآخر في المخيال الغربي وبوصفها أيقونة تحيل إلى صورة السيد المسيح (عليه السلام) مصلوبا، وصورة أمه مريم العذراء أيقونة دالة على جوهرانية (الانتساب). ولأن الفعل التنفيذي يقتضي الممارسة الواقعية للفكر من أجل الوصول إلى الهدف، فإن صورة الترسيخ المتعمد كانت آلية نافذة في إعادة تشكيل الشرق في المخيال الغربي من خلال تعميد دائرة (الاستشراق الفني) بمعناه التشكيلي الرسومي وبمعناه الفكري التعبيري بما أحدثه الفنان الفرنسي (أوجين دو لاكروا) (1798/1863) وغيره من الفنانين التشكيليين الاستشراقيين من صدمة إحيائية للرغبة الغربية المكبوتة في قضم (التفاحة الشرقية)، لا بوصفها تفاحة ديونيسية تتخاصم حولها إلاهات الرغبة والمعرفة والقوة، كما تورده الأسطورة اليونانية فحسب، ولكن بوصفها (تفاحة نيوتينية) تحيل إلى جاذبية التعلق بالحقول المعرفية العذراء والمتوحشة باعتبارها “نصبا أثريا" على حد تعبير ميشال فوكو. ذلك أن الغرب “قام بفرض تلك التعديلات والتصحيحات على الواقع الخام للشرق بما يضمن تحويله من هيولى رخوة عائمة إلى معارف محددة ومقبولة تسمح للغرب وثقافته باستيعاب هذا الواقع وهضمه"، كما يقول صادق جلال العظم في (الاستشراق والاستشراق معكوسا. ولعل الارتباط الوثيق بين ترسيخ الحضور الشرقي في التصور الفني الرومانسي وتزامنه مع ترسيخ الحضور الاستعماري بوصفه فعلا كولونياليا يطمح إلى الاستحواذ على الشرق في صورته الجغرافية والإنسانية يؤكد بصورة أو بأخرى الأثر الفاعل للقطيعة الفكرية والجمالية التي أحدثها الفنان الفرنسي أوجين دو لاكروا في التأسيس ل “الاستشراق الرومانسي [الذي] من المفترض أن نبدأ به منذ صالون عام 1824 نظرا لظهور أولى لوحات دو لاكروا المستوحاة من الشرق والتي تضمنت الثورة على المدرسة الكلاسيكية وفتحت الباب واسعا (لمعركة رومانسية) خاضها مجمل الرومانسين الفرنسين في الأدب والفن طيلة العشرينيات" بحسب زينات بيطار. وقد كان مبدأ التعرية، لا بوصفه فعلا تفكيريا فحسب، ولكن بوصفه فعلا تنفيذيا كذلك، هو المبدأ الوحيد القار بالنسبة للفكر الغربي في صياغة أبجديات التعامل مع الإنسان الشرقي (ومخياله) باعتباره جسدا مستورا داخل المفاهيم المادية التي يجسدها المكان المغلق (الحمّام) و(القصر المغلق) و(الحريم)، من وجهة النظر الشرقية، من خلال الاعتماد على “الإشاعات والتخيلات التي مصدرها السكان المحليون، وهؤلاء السكان، بشكل عام، كثيرا ما يبالغون في وصفهم للظواهر أو المشاهد التي تعرض عليهم، أو يسمعون بها من الغير". ولم يكن هذا الفعل التنفيذي إلا “كشفا للمستور" الذي يبني عليه الشرق وجوده وكينونته الأخلاقية والدينية. ولعل هذا ما أدى إلى الوصول إلى مبدأ هتك العرض الشرقي (من الوجهة التشكيلية) الذي بنا عليه الإنسان الشرقي رفضه المطلق للمخيال الغربي، ومن ثمة، بنا عليها فعله التنفيذي المؤسس على الرؤية العنيفة في تصوراتها، وفي بناء علاقاتها مع الغرب. وذلك من خلال اعتماد الفنانين الغربيين على رسم “مشاهد الحرملك، وبخاصة سلوكيات النساء والعبيد من النساء، وجاريات الملك، وهن مستلقيات عاريات، أو بالثياب الشرقية، من السكان العاديين الذين لم يتسن لهم دخول الحرملك والاطلاع على أسراره". ولعله انطلاقا من هذه الفكرة المؤسسة لفعل التعرية بوصفه اعتداء، يتأسس الجزء العاشق من الذات الشرقية للجزء الآخر العاشق من الذات الغربية. وهو عشق لا مكان فيه للوسطية التي تحيل إلى إمكانيات التواصل من خلال الانفتاح على الآخر، وإنما تحيل إلى صورة العشق العنيف للنقيضين المتضادين الذي تتحقق رغباته ومكبوتاته في أقصى مظاهر انفجارها في صورة الصدام الدائم الذي ينسف كل محاولات إعادة تجسير أسس الحوار كلما عادت الفكرة الكولونيالية إلى محاولة الاستيلاء على الحاضر وإعادة قص طموحات التجارب الشرقية الطامحة إلى تحقيق الذات من خلال التأكيد على أحقية الحفاظ على الجسد الشرقي وأسبقية الدفاع عن حرمته الترابية والتخييلية. ويصبح الحوار العنيف المتشنج هو الاحتمال الوحيد القابل للتشخيص الذي تقترحه عادة الاستراتيجيات المتجددة للمفكرين الغربيين وهم يؤسسون للقواعد المستقبلية التي تمكن من الالتقاء بين قطبي البوصلة (الشرق والغرب) داخل ما يسميه صامويل هنتنجتون ب (صدام الحضارات). إنها نفسها البصيرة المعرفية التي ستتحول فيما بعد إلى آلة فكرية منهجية تسمى اصطلاحا (بصرية)، والتي أدت بالكاتب الأرجنتيني ذي الثقافة النخبوية الضاربة في عمق التاريخ الأوربي، خورخي لويس بورخس، إلى اعتبار عنوان كتاب (ألف ليلة وليلة)، لا عنوانا مُوفَّقًا لحكاية شرقية مطولة كما يحبها الغرب فحسب، وإنما عتبة إشراقية تمهّد لانفتاح الشرق النائم على النص بوصفه (جسدا / جوهرا) مُشبِعا للرغبة الدفينة التي تؤدي إلى انفجار مضمرات الحرمان المعرفي الذي عانى منه الإنسان الغربي في ظل تسلط الكنيسة المسيحية لما يقارب عشرة قرون مظلمة. يخلص بورخس، وهو يعيد قراءة الذات الشرقية من خلال كتاب (ألف ليلة و ليلة) ببصيرة تتجاوز الرؤية البصرية الملتصقة بالصورة، من حيث هي امتثال عارض -لأن بورخس كان ضريرا-، إلى أن عنوان (ألف ليلة وليلة) يدل على لا نهائية المغامرة المعرفية والإبداعية التي يعيشها الإنسان الشرقي وهو يتحاور في خدر المعرفة مع من يعتقد الغرب أن الرجل الشرقي الذكوري المتسلط قد جعل منها مجرد أنثى تحيل إلى تراكمية التناسل الليلي في اللاوعي الإبداعي والتشكيلي للغرب، كما صوره الفنان دولاكروا وغيره ممن أسسوا لمدرسة الاستشراق التشكيلي. ولعله أدرك بطريقة نهائية أن (الليلة) المضافة إلى (الألف ليلة) هي مفتاح سيرورة المعرفة الشرقية التي يجب أن تقضمها المساحات الشاغرة للتسلط الغربي في كشف ما يكتنز في داخله من رغبة جامحة وجوع وجودي إلى الانتهاء عند الجسد بوصفه مادة زائلة ولكنها قابلة للتجسيد المابعدي الجامد وصورته الأسطورية التي يحققها بيجماليون في عشقه الأسطوري لما نحتت يداه. ولعل هذا ما يفتح عنوان (ألف ليلة وليلة) على فضاء خارج عن شمولية المعدود الممكن الخاضع لحسابات القسمة المصلحية والطرح الاستعلائي والضرب الإلغائي، وخارج كذلك عن إمكانية ما يمكن أن تعده تيليسكوبات الرصد الاستباقي للظاهرة الشرقية من إلكترونات شاردة في ديمومة الفضاء الراسخ في المخيال الغربي، ليدخل -أي العنوان- في لا نهائية السيرورة الوجودية للجوهر الذي لا يحُول، والذي طالما أرّق فلاسفة الغرب ومتصوفيه باعتباره وقودا سرديا محرِّكا لآلية التخييل الغربية المعطلة. ولعله من هنا، لم يكن كتاب (ألف ليلة وليلة) غير ذلك الكنز الثمين بالنسبة للفنانين التشكيليين وهم يقرؤونه مترجما إلى الانجليزية أولا، ثم إلى اللغات الأخرى، فيحيلهم إلى إعادة تأثيث المخيال الغربي بآليات الكبت المعرفي المترسبة منذ قرون الانحطاط والقهر المسيحي بما يجود به المخيال الشرقي من أيقونات معرفية ستساهم بصفة جذرية في صناعة الصورة الشرقية للمرأة والحمّام والحريم من خلال إعادة إنتاج جدلية (شهريار / شهرزاد) في الموروث التشكيلي الغربي من دون الحاجة في كثير من الأحيان إلى السفر إلى الشرق. ولعل “هذا ما فعله الفنان، أوغست دومينيك أنغري، الذي لم يسافر أبدا إلى الشرق، غير أنه استخدم مشاهد الحرملك، من خلال استحضاره إحساس الثقافة والجمال الشرقيين، مشبعا برغبة انعزالية يطمح إليها العديد من الفنانين الغربيين". 3 - “نساء الجزائر في بيتهن": يؤكد الفنان أوجين دو لاكروا في تأسيسه للبعد الرومانسي للاستشراق الفني (التشكيلي) على أهمية التخييل في الجلسة الحميمية للمرأة العاصمية (نسبة للجزائر العاصمة) المحاطة بالتفاصيل الحياتية ذات المغزى، والتي طالما أوْحَت للفنانين الغربيين بانبجاس طاقاتهم الإبداعية، وذلك ومن خلال رسمه للوحته المشهورة (نساء الجزائر في بيتهن) (Femmes d'Alger dans leur appartement) سنة 1834، أي أربع سنوات فقط بعد دخول الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر. وهي مدة كافية بالنسبة لعين هذا الفنان الفاحصة من أجل ترسيخ أنموذج المرأة الشرقيةالجزائرية التي تظهر تحت حركات ريشته من زاوية ضوء لم يعهدها في حياته من قبل، وأَسْرِ زاوية الضوء العاكسة لأبهى ما يمكن أن تكون عليه المرأة الشرقية في مرآة النفس الغربية المتعطشة إلى تعرية الآخر بالنظر إلى الواقع المعاش الذي يعرفه الفنان الغربي في هذه الفترة عن الشرط الأنثوي للمرأة الغربية. لقد كانت لوحة أوجين دو لاكروا، تمهيدا استشراقيا غاية في الإبهار، لما ستصبح عليه المجتمع الجزائري مباشرة بعد استقرار الفعل الكولونيالي في باحة الأرض الجزائرية وتوطيد دعامة الرؤية الغربية في إعادة تشكيل المجتمعات ما قبل الكولونيالية من خلال ترسيخ ما توارثه هذا المجتمع من تراكمات التجربة العثمانية المنزوية إلى جغرافيتها الأورو- أسياوية بعد استنفاد حمولتها الحضارية الحالمة بتمديد مساحة الامبراطوية العثمانية إلى أقصى المغرب العربي. لقد كان أوجين دو لاكروا، باكتشافه للضوء المبهر المنبعث من الشمس الجزائرية، إيذانا بميلاد ما ستكون عليه منظومة إعادة التشكيل الغربية للجسد الشرقي في تعامله مع الإنسان الجزائري ومحو الأسس الثقافية التي طالما دافع عنها بقوة ودفع من أجلها النفس والنفيس. ولم تكن هذه اللوحة من وجهة نظر هذا الفنان غير تلك الصورة العالقة في المخيال الاستشراقي للمُعمِّر وهو يستقوي على (الأهالي) بقوة الشرط الاستعماري ويحاول تدجين الأنساق الشرقية غير الخاضعة لمنطق الاندراج داخل المقترح الغربي للحضارة. ولذلك كان الفعل الكولونيالي نافذا في محاولة التدجين من خلال تفكيك هذه الأنساق وإعادة ترتيب ما يصلح منها لرؤيته وفق آلية التطهير الثقافي والمعرفي وترسيخ صورة الثواء القابعة في الذات الشرقية منذ العهد العثماني كمعطى جوهري في الذات الشرقية بناء على ما سيقوله (لوتسكي) وهو يصف أحوال المغرب العربي في أعوام 1868/ 1870، أي بعد أقل من ثلاثين سنة من بداية العدّ التنازلي الذي حمله الفعل التنفيذي للرحى الكولونيالية. ولعل هذا ما لم تستطع تجسيده الرؤية الفنية الاستشراقية -بدافع التعالي أو بدافع التستر- وهي تحاول انتقاء الصورة المثلى للجسد الشرقي، كما حلم به الغرب وهو يقرأ كتاب (ألف ليلة و ليلة) ويبني مجموع التسييجات الوهمية للثنائية السحرية (شهرزاد / شهريار) التي صنع من خلال اقتراحاتها السردية مجده الفني في العصر الرومانسي. غير أنه كان يجب على التصور الغربي للجسد الشرقي أن ينتظر أكثر من قرن من الزمن قبل أن يتفطن إلى مكابدات الجسد الشرقي تحت الريشة الاستشراقية للفنانين الأوروبيين، وذلك من خلال إعادة رسم اللوحة نفسها من طرف الفنان بابلو بيكاسو (1881-1973) الذي سيجد في لوحة أوجين دولاكروا (نساء الجزائر في بيتهن) من ضمن كل أعماله الفرصة الحقيقية لتحقيق البعد التراجيدي الذي عاشه الإنسان الغربي في حروبه العالمية المحلية وتجريبه لما يمكن أن يكون للجسد من دلالة تعكس الطباع الغربية العنيفة المتخفية من خلال التعبير عن سقوط الملايين من البشر جراء الرؤية الشمولية للفكر الغربي وهو يحاول أن يعيد زراعة آلة الحرب في عقر داره ويحصد من خلال الاستقواء بها ما جنت يداه. إنها نفسها اللوحة التي حاول الفنان بابلو بيكاسو أن يعيد تشكيلها ثانية من خلال لوحته المشهورة (نساء الجزائر) (Femmes d'Alger) سنة 1954 من زاوية سريالية تعتمد أساسا على تعرية المتعري وكشف المكشوف من خلال اختراق الوعي المستور الذي ألمحت لوحة دولاكروا إلى كمونه في عبقرية توصيفه الرسومي لطريقة ظهور المرأة الشرقية للآخر، وذلك من خلال إضافة البعد السريالي الذي أسس من خلاله الفنان بابلو بيكاسو رؤيته الخاصة للعالم المُحترق تحت وطأة الحروب المدمرة التي أنتجتها الآلة الفكرية والحضارية الغربية وهي تحاول أن تجد لها في النظر إلى الآخر واختراق جسده المستور المبرر العقلاني الوحيد للبقاء في واجهة الفعل الحضاري حتى ولو كلفه ذلك قلب المفاهيم الفنية والجمالية من خلال إعادة التدليل على ما أكد عليه من انهيار للمفاهيم الفكرية والجمالية الغربية أثناء الحرب الأهلية الاسبانية في لوحته المشهورة (الجيرنيكا). لم يكن من باب الصدفة إذن، أن تؤرخ لوحة أوجين دولاكروا لبداية استعمار وأن تؤرخ لوحة بيكاسو المستوحاة منها لبداية ثورة. الأكيد أن الفنان بابلو بيكاسو المنهوك بمعايشته للحرب الإسبانية المتزامنة، في جزء منها، مع حربين عالميتين مدمرتين للكينونة الغربية، لم يكن ليرى غير ما تراه الرؤية الباريسية المتولدة عن جلسات السرياليين الحميمية، وعن بياناتهم المتجاوزة لآفاق ما كانت تنظر له الرؤية الهايدجيرية من صرامة فكرية من جهة، وما كانت تدعو إليه السارترية من التزام وجودي بقضايا الإنسان المعاصر من جهة أخرى، حتى ولو أدى ذلك إلى اتهامه بحمل حقائب المجاهدين / الفلاقة الجزائريين أثناء الثورة التحريرية. ربما كان التاريخ في حد ذاته، مجرد صدفة رقمية، أضاف لها التنسيق حمولة فكرية لازمة بأصحابها، غير أن رمزية التاريخين لا تخبر عن دلالتهما الحسية المتفجرة من الجسد الشرقي بوصفه أداة للاستهلاك البصري من وجهة العين الغربية المسترقة للنظر فحسب، ولكن بوصفها مُولِّدا متجددا للشحنة الشرقية القابلة للانفجار في وجه التصور الغربي المأسور داخل الآليات الإيديولوجية التي تضع الجسد الشرقي في دائرة التهويل المؤدي إلى ترسيخ الصورة من خلال تشكيلها بأدوات العصر وإعادة تحيين أيقوناتها الفكرية والجمالية وفق ما تقتضيه مقترحات المرحلة التاريخية من تمزق في البنية الفكرية والجغرافية للجسد الشرقي. ولعله من هنا كذلك، كان استغلال الغرب لهذا التصور من خلال ما شهدته -وما تنبيء عنه- بداية الألفية الثالثة من: - تفجير الجسد (الفلسطيني) في وجه المحتل الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، عن طريق ما اختُلف حول تحديد منطلقاته الإيديولوجية المُراوحة بين المنطق الانتحاري والمنطق الاستشهادي ودلالاتهما المتخفية في الأنساق المعرفية للخطاب والخطاب المضاد. - حرق الجسد في وجه الدكتاتور المحلي المالك للدولة المناولة للاستعمار من خلال تفجير الغضب الكامن في الذات الشرقية التي طالما اتصفت بالصبر على الأذى وتحمل المكابدات عن طريق أنموذج محمد البوعزيزي، فيما أحدثه فعل الحرق من غليان أدى إلى تحولات اجتماعية وسياسية في خارطة الشرق (العربي) لم تتضح معالمها ومآلاتها بعد. - تفجير الجسد في عمق التصور المعاصر للدولة الشمولية التي تنطلق من القوة لتسخير الإرادة بوصفها فعلا كولونياليا مسيطرا لا على حاضر الآخر (العدو) فحسب، وإنما على مستقبله كآخر قابل للتمرد، وذلك فيما أحدثه الحادي عشر من سبتمبر من تغييرات جيوسياسية وتحولات استراتيجية أيقظت عديد المسلمات النائمة في عمق الإنسان الشرقي عن التصور الغربي للجسد الشرقي بوصفه كيانا جغرافيا. ذلك أن “تصوير عدو مجهول في صورة شيطان وإلصاق صورة “الإرهابي" به كي يبقى الناس على غضبهم وحماسهم.. كلها أمور تمنح الصور الإعلامية قدرا هائلا من الجاذبية والإثارة، وبالتالي يسهل استغلال ذلك التأثير الإعلامي في زمن الأزمات والإحساس بعدم الأمان، أي على النحو الذي شهدناه في أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر “كما يقول إدوارد سعيد". وهي حالات يحملها الجسد الشرقي جرحا نازفا في وجه الرؤية الاستعمارية للاستشراق التي طالما شكلت المخيال البصري للإنسان الغربي في سعيه الدائم نحو قضم التفاحة الديونيسية للتخفيف من النهم المادي المسيطر على التصور الغربي للوجود المفضي في متنه الفلسفي إلى العدم حسب التعبير السارتري. ولعله السبب نفسه الذي جعل (إتيان دينيه) (1861-1929)، وهو ينتقل من حالة التعميم إلى حالة الاستثناء في المتن التشكيلي الغربي، يحوّل اسمه إلى (نصر الدين) بدخوله الإسلام ويكتب سيرة متكاملة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم من وجهة نظر العين المبهورة بما وراء الصورة كذلك، ليخبر عن إمكانية تجاوز الرؤية الغربية المنغلقة في طرحها الاستعلائي من خلال انتقاله من مرحلة الاستشراق إلى مرحلة الإشراق، وتكذيب استحالة تحقيقه سدّا منيعا في وجه كل محاولة لتطبيق نظرية التعرية في الاتجاه المعاكس. لقد تم التأسيس للتعرية بطرق ومناهج مختلفة لمنظومة استغلال الطاقة واستعباد الجسد واستغفال العقل من خلال ترحيل (Délocalisation) كل ما لم يعد ترحيله خطرا على الذات المركزية الغربية، وكل ما لم يعد لبقائه جدوى في صلب الذات المركزية الغربية من مرتجعات فكرية ومادية، وذلك من خلال تغليف هذه المرتجعات في الصورة المؤنسنة تلعب فيها الدعاية الممنهجة دورا مركزيا في إقناع الآخر بتفتح الذات الحضارية الغربية على الجرح الشرقي المتخلف. ويتم بذلك ومن خلاله، تشغيل آلية إبهار الذات الشرقية بأهمية الدور الذي يلعبه الغرب في إخراج الإنسان الشرقي من براثن التخلف والجهل والأصولية، حتى ليبدو لأبسط من يتعامل مع واقع المجتمع الشرقي المُنتج للتخلف -وهو جزء منه- أن هذه الصورة هي عين ما يمكن للشرقي أن يتبعه إتباعا ولا عيب، ويتأثر به تأثرا ولا عقدة. ذلك أن الخلاص في نظره لا يمكن أن يكون في هذه الحالة إلا بيد من بيده مفاتيح التطوير والتعمير والتنوير. وهي “تفاعيل" لا حيلة للشرقي في توليد مفاهيمها، ولا دور له في التأسيس لمضامينها، نظرا لانشغاله الحضاري بالنظر إلى نقطة انجازاته السابقة وابتعاده المنطقي عن دائرة الفعل الحضاري النافذ في آنية تحققه المادي المتولد من المنظورات العقلانية للفلسفة الغربية. ذلك أن القنوط العام الذي يستولي على تفكير المثقف الشرقي (العربي الإسلامي خاصة)، لا يبدو في تأكيده على أحقية البحث عن الجسور الوهمية في المدونة الاستشراقية وإعادة ترميم ما خلفه الدافع الكولونيالي للاستشراق من أثر بالغ في الجسد الشرقي المستور بوازع “التعرية" المتعمدة، فذلك أصبح أمرا واضحا للعيان بعد النتيجة الحتمية التي أدت إليها منطلقات الفعل الاستشراقي ذي النزعة الكولونيالية في خريطة الكيان الشرقي، وإنما في ضرورة تغليب الرؤية العقلانية في التعامل مع خطاب الآخر، لا بوصفه غربا باحثا عن زوايا النور المتخفية في سماء الشرق الزرقاء كما تظهر رد الفعل الشرقي المبهور بإنجازات الاستشراق ولكن في تجاوز المفهوم المصلحي للشرق الذي يجيد الغرب استعماله في كل مرحلة تحت غطاءات حوار الحضارات مرة والتثاقف مرة والعولمة مرة أخرى، من دون أن يكون للشرق القدرة الواعية على تفكيك توجهات النزعة الكولونيالية الغالبة والمهيمنة على المشاريع الغربية وهي تحدد المنطلقات والمآلات التي يجب أن يكون عليها الشرق من وجهة نظر غربية. وهي الرؤية التي من المفروض أن تدرك أن “مفهوم الشرق مفتعل ويخدم أغراضا سياسية أكثر منها علمية"، وأن الشرق كما تريد تكريسه النظرة الاستشراقية من خلال إعادة تشكيل الجسد الشرقي “ليس شرقا فقط، بل الأصح ليس شرقا على الإطلاق، وإنما هو مجاز للتابع الذي يشكله القاهر. ولهذا نجد آليات الاستشراق مستخدمة في تعالي البيض على السود وفي استغلال الرجال للنساء"، كما تقول فريال جبور غزول. ربما كان الجسد هو الدليل المادي الوحيد على تمرير فكرة الاستيلاء على أيقوناته الفلسفية من أجل تجهيز خرائطه غير المكتشفة بما سيتعرض له من “تدنيس" بالمفهوم الشرقي لا يطال بنياته المادية باعتباره (الموديل) القابل للبقاء طويلا أمام الفنان وهو يحاول إعادة تشكيل فضاءاته العذراء، ولكن يطال كذلك الذات الشرقية بوصفها جغرافيا قابلة في أية لحظة للتعرض لما تسميه الفلسفة الكولونيالية الغربيةالجديدة ب “الحق في التدخل" (Le Droit a l'ingérence) نظرا لما يعتري الجسد الشرقي من سكون، وما لحق به من تجمد جراء الثواء الحضاري المتوقف بعيدا عن عجلة التاريخ، كما تحركها النزعة الكولونيالية المعاصرة وفق المقتضيات المصلحية والضرورة التاريخية والإستراتيجية. “و لما كانت استراتيجية الغرب تقوم أساسا على فهم واستيعاب (المغزو) فإن ما سبق وقاله أحدهم عن الاهتمام بالشرق كوسيلة... (و ليس بذاته) يصبح مفهوما على صعيدين، الصعيد الاستشراقي -المعرفي والصعيد العسكري- الاستلائي"، كما يقول خيري منصور. لقد كان الجسد الشرقي في صورته المثلى (موديلا) ساحرا شكل تحديا بارزا بالنسبة للرؤية الاستشراقية الفنية التي سادت طيلة القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وقد تزامنت هذه الرؤية الاستشراقية مع بداية المد الكولونيالي الذي استعمل في محاولة تصفيته للذات الشرقية الأساليب الترويضية نفسها، تجاه الشعوب ذات (القابلية للاستعمار) من دون مراعاة خصوصية هذه الذات في ما هو أكثر حميمية بالنسبة لها، وهو الجسد. وربما كان هذا التزامن مطية لتبلور كثير من الأفكار الكولونيالية في ترسيخ الوجود الاستشراقي في المساحة المكانية والزمنية لفضاءات الانسان الشرقي. غير أن الفعل الكولونيالي، ومن خلال تحوله إلى سلطة تنفيذية قاهرة، لم يكن لينتج في الواقع الشرقي غير ما أنتجته لوحة (نساء الجزائر في بيوتهن) لأوجين دو لاكروا في الامتداد الباطني الذي تعبر عنه لوحة “نساء الجزائر" لبابلو بيكاسو بعد ما يزيد عن القرن من الزمن. وهي المدة التي قضاها الفعل الكولونيالي الفرنسي في ضيافة الشرق (الجوائر) المستعد للثورة.