من كتاب الميتافيزيقا لأرسطو إلى غاية بنية الثورات العلمية لتوماس كوهن، سلكت المعرفة مجموعة من المسارات اختلف الفلاسفة حول طبيعتها من حيث الاستمرارية والتطور أو التوالدية والانقطاع، فلقد دار جدل كبير حول حركة العلم، هل هناك تمفصلات وقطيعات أو (قطائع) وثورات في تاريخ العلم، أم أن المعرفة تتبع مسارا خطيا تطوريا مستمرا؟ وأنا أبحث في موضوع القطيعة الإبستمولوجية عند أوغست كونت، إذ بي أفاجأ بأن القطيعة عند فيلسوف الوضعية لم تكن في الإبستمولوجيا فقط ولكن في النظرية الوضعية ذاتها، وتحديدا في السنوات العشر الأخيرة من حياته تحديدا، وأن امرأة في حياة كونت هي السبب في وضعية كونت الثانية المعروفة بالوضعية الدينية أو “كونت 2” كما يحلو للنخبة الفرنسية أن تعبر، ومن ثم وجدت في نفسي فضولا كبيرا لمعرفة أي امرأة كان لها هذا الدور في تغيير الفلسفة التي قام عليها المنهج العلمي في العصر الحديث، أي امرأة تلك التي استطاعت أن تخترق تجريدية كونت القائمة على ما هو وضعي وموضوعي ومادي والمفارقة لكل ما هو روحي وذاتي وديني، من هي تلك المرأة التي ألهمت كونت وجعلته يأخذ العامل الديني بعين الاعتبار ويؤسس للوضعية الدينية متمثلة في دين البشرية أو الإنسانية؟ إن هذه المرأة هي كلوتيد دوفو من عائلة فرنسية أرستقراطية، تلقت تعليمها في بيت التربية وجوقة الشرف، وكان لقاء كلوتيلد بأوغست عند أخيها عالم الرياضيات، وعلى الرغم من أنها كانت عليلة ومصابة بمرض تبين فيما بعد أنه مرض السل، إلا أن حبه لها كان جارفا متجاوزا لأي تفسير، وقد دون لها ذلك في أولى رسائله، فأجابته بأنها ستكون صديقته إلى الأبد ولكن صديقته فقط، وأنه لن يحصل شيء بينهما، فرد عليها بأنه يقبل هذا الشرط ولا يطلب إلا ودها وصداقتها، ومن خلال هذه المراسلات أدرك كونت قوة العمق الإنساني لدى كلوتيلد، فلقد كانت شاعرة وأديبة وكاثوليكية ملتزمة، بينما كان كونت يعتقد بأن الكاثوليكية ما هي إلا مرحلة في طريق التطور نحو الوضعية، ولكن هذا الحدث العاطفي قد أثر في مجرى تفكير كونت الذي أصبح يضع العاطفة الإنسانية في غاية الأهمية لبناء المشترك الإنساني، كما قال لكلوتيلد إن كتابه القادم سوف يكون أوبرا ضخمة تعلن الأولوية العليا للحب الكوني على القوة وعلى العقل. لقد توفيت كلوتيلد عام 1846 ولم يسمح والدها لأوغست كونت برؤيتها إلا وهي على فراش الاحتضار، ومن يتجول في شوارع باريس بين ساحة الباستي والجمهورية قد ينتبه إلى وجود تمثال يتوسط حديقة صغيرة، إنه تمثال كلوتيلد دوفو التي جعلت كونت يعيد النظر في نظامه الفلسفي ويسعى لتطوير دين طبيعي بهدف صياغة نظام أخلاقي للحياة الاجتماعية. وأنا أقرأ هذه القصة في سياقها المعرفي، قفزت إلى ذهني مجموعة من التساؤلات أولها: لماذا غيبت الوضعية الثانية أو الوضعية الدينية عن مصادر الفلسفة والفكر في حياتنا الثقافية على الرغم من أهميتها الإبستيمولوجية ولم يحتفظ العالم سوى بالوضعية العلمية؟ وفي سياق آخر وفي إطار مفهوم الفتنة الذي يعتبر مركزيا في ثقافتنا العربية عند التعامل مع المرأة باعتبارها جسدا أينما تواجد في دوائر الفكر والثقافة، نجد أن كلوتيلد كانت محل فتنة من نوع آخر لكونت عندما وصلت إلى حد إحداث تحول جوهري في نظريته عن الوضعية العلمية، حيث كانت الفتنة إيمانية ومصدرا للتدين، بينما تمثل الفتنة ببعدها السلبي مصدرا للانحراف عن الدين في حياتنا. في هذه القصة أيضا، ساهمت كلوتيلد في دفع أوغست كونت إلى رصد إشراقات أخرى في الذات الإنسانية لا يمكن أن تشع من خلال معادلات الرياضيات، ذلك النظام المعرفي الذي يعتبر كل ما في الطبيعة مكتوبا بلغة رياضية. إن كلوتيلد دوفو كانت عليلة الجسد، ولكنها كانت سليمة القلب والروح التي منها تسرب ذلك النور الخفي الذي كان يسكنها، وامتلك وحده كونت القدرة على رؤيته ولمسه، أي معنى كبير ذلك الذي أدركه بعقله فيها ففاض على وجدانه وأوقعه في الفتنة، فتنة الفكرة والمعنى اللذين جعلا للوضعية قلبا ينبض بروح الله. أما آخر التساؤلات فإنها تكمن في البحث عن السبب الذي منعنا كمسلمين من اكتشاف “كونت2”، حيث تعرفنا على “كونت 1” كأب للوضعية العلمية، ولم نكتشف كونت المتدين، علما أن هناك كنائس كثيرة إحداها في فرنسا وأخرى في البرازيل تحمل اسم كنيسة الوضعية الدينية، لأن غشاوة ممتدة مصدرها آليات الدفاع الجاهزة دوما عندنا لرفض الأشياء من عناوينها تحجب عنا النظر والتأمل، استجابة للاستعداد الكامن فينا لرد الفعل بمجرد أن تقع أعيننا على واحد من تلك المصطلحات التي باتت تحبس عقولنا في دوائر الشرط والاستجابة، كما علينا أن نتساءل أيضا لماذا لم يسلط الغرب الضوء عليها باعتبارها إشارة واضحة على أهمية الدين للإنسان والحياة من طرف مؤسس الوضعية وعلم الاجتماع أوغست كونت؟