الأستاذ بلام محمد الصادق ”عندما يغيب السؤال الفلسفي يحدث الفراغ” فضل محمد الصادق بلام أستاذ الفلسفة بجامعة باتنة، وضع المسلمات جانبا على حد عبارة ”جيل دولوز”، للحديث عن ”الفلسفة والتفكير ومستقبل الثقافة”. ومن المسلمات التي تسائلها الفلسفة حسب بلام هو ”أن الفكر بخير ومتوافر من خلال الهياكل التعليمية والمراكز الثقافية، وكأن تواجد الفكر أضحى مرتبطا بتواجدها. فأخذ الفكر عندئذ صفة التلقين والتحنيط لمعارف تبعث على الرضا المقيت، والعيش الزائف، والوجود الخانق”. وبهذا اقترن المشهد الثقافي حسب الأستاذ بلام بالصخب والضجيج، وأصبحت الثقافة تعرف من خلال اللغط والمهرجانات ورفع الأصوات، ما أنتج وعياً مغلوطا أو مقلوبا عمل على إذكاء خطاب النرجسية الثقافية بتمجيد الذات المزهوة بذاتها. وقال ”وفق هذا التصور تمدد التصحر الذي يهدد الواحة في خصبها وعطائها، كما ذهبت إلى ذلك الفيلسوفة الألمانية حنا أرندت، وحينها يفقد الإنسان الإحساس بالفعل وتباعا الإحساس بالوجود. فلا يتعدى الحياة البهيمية، ويتحول إلى مجرد كائن له وجود عرضي تغلب لديه كفة العدم كفة الخلق والإبداع. وطالما أن الأمر كذلك فسنكف عن الانتماء إلى الإنسانية، وينمحي أمامنا المستقبل من الوجود”. وبخصوص مكانة الفلسفة والتفكير في المجتمع اليوم، تساءل الأستاذ بلام قائلا ”إذن كيف يمكن أن نفكر بعقلية الأسياد (الأحرار) مادام رهان الحرية هو ما نتوسم فيه أفقاً لمستقبلنا الثقافي؟ وأجاب قائلا ”لا نجانب الصواب إذا قلنا إن الفلسفة هي أمل الإنسان في أن تكون له كلمة في التاريخ، ذلك أن المدرسة والجامعة وكل ما يتصل بتفعيل الثقافة بعيدا عن حضور الفلسفة، تُخرج إنسانا لا قابلية له للتفكير والتساؤل والنقد، وكائناً مفرغا من المعنى يدعي امتلاك العلوم والتقنيات، وهو لا يكاد يملك أمر نفسه ولا يثق في إمكانياته الذاتية، حينها وبلغة هيغل، يهيمن الواقع الثقافي الشبيه المزيف الذي يحمل الفلسفة على أن تفكر في الواقع الفعلي والحقيقي، فينبجس ربيع الثقافة في طرف الشك ومقاومة خنق الحريات. وعندما يغيب الفكر الفلسفي، بما هو فكر متصل بالحياة ينصت إلى مشاكل الناس، من الجسد الثقافي، يحدث التصدع والفراغ. واستهداف العقل الفلسفي هو تمكين للانحطاط والتخلف، لأن الفلسفة وحدها من يقاوم الوهم والتبعية، فلسفة حية جديدة تبدع ما به نتجاوز السائد، ونكون في حالة تأهب دائم لاستقبال الجديد المقبل على الولادة”. لأجل هذا كله، يقترح بلام أنه ”على عالم الثقافة أن يُقرأ بلغة المهارة والقدرة على الفعل أولاً، قبل أن نتصوره كنظام اجتماعي شامل وجامع لأنساق جاهزة من الأفكار والقيم. ولكي تتواجد هذه الثقافة الإبداعية لابد من وجود فلسفة حقيقية تقاوم كل أشكال الزيف التي تجثم على فضائنا الثقافي فتخلصه من أعطابه وأعراضه المرضية”. وعاد للسؤال ثانية ”لكن كيف يمكن للفلسفة أن تنتشل مستقبل الثقافة من كهف الإعلانات والإشهارات الاستهلاكية؟ أليس أعظم خطر يهدد الفلسفة هو أن لا تفكر ضد نفسها وضد أدعيائها ومنتحليها؟”، وأجاب ”الفلسفة بسجيتها التساؤلية والنقدية ترفض أن تكون عربة مليئة بالدوغمائيات المحنطة، وأن تتحول إلى إيديولوجيات مهيمنة. فهي فكر للاختلاف يبعث ثقافة الفرح لا ثقافة اليأس التي تحجب المستقبل وتغتال الأفق. الدكتور بشير ربوح ”نحن بحاجة للتراكم قبل الشروع في أي نقد” يرى الدكتور بشير ربوح أستاذ الفلسفة بجامعة باتنة أن الوثبة التي حدثت في الآونة الأخيرة في مجال الكتابة الفلسفية تعتبر حدثاً دالاً على أفول ظواهر متعددة ومركبة ومتصالبة فيما بينها، مثل الاستبداد، التعالي، النرجسية، الإفراط في العزلة الاجتماعية، والانخراط في مسعى مرضي يهتم حصرا بتسفيه أي عمل مبدع قد يكون حاملاً لأفق جميل وطريف. وأوضح ربوح بخصوص هذه الممارسات ”على الضد من ذلك، يعلي هذا المسعى من شأن أعماله ويضعها خارج النقد والتساؤل، وكأنها منجز لا سلف له. ومنه نستطيع أن نسم هذه النزعة بالميسم العدمي أو بالمنحى الصفري الذي يعتقد صاحبه أن التاريخ يبدأُ معه، فهو المبدع والقائد والمجدد وفريد زمانه، هذه الظواهر نعتقد أنها ما زالت مترسبة في فضائنا الثقافي، ولها مخلفات على مسطح الفُهوم اللاتاريخية أو الرؤى المنزعجة من العبور إلى الضفة الأخرى، ضفة الإبداع والتفرد”. هذا المنعرج الدال الذي حدث في الثقافة الفلسفية الجزائرية، يكون بالضرورة، حسب ضيف ”ندوة الخبر”، دالاً على عسر المنعرج وصعوبة القطع مع الماضي العكر، وفي ذات المنحى دالاً كذلك على حضور رغبة ملحة تتمثل أساساً في تدشين مرحلة جديدة من الكتابة الفلسفية، سواء بصورة فردية أو بصورة جماعية، وطفق القلم الفلسفي الجزائري يعبر عن ذاته المقتدرة عربيا وعالميا، وقال ”غير أن المسيرة الذي انطلقت واندفعت صوب أفقها القادم ما زالت في حاجة ماسة إلى دعم معرفي ومنهجي، والدفع بالمسار يعني عندنا جهة التفكر في مسألة الإحالة على نصوص جزائرية، فكل إحالة هي بمعنى من المعاني إخراج النص الفلسفي الجزائري من ذاتية منغلقة على نفسها إلى فضاء نُؤثثه مع الأخر سوياً”. ووفق هذا التصور يتحرك النص حسب ذات المتحدث أفقياً ويتأسس عموديا، فيلتقي النص بالقراء في كتب أخرى، وعليه، يكتسب النص بعضاً من التاريخية التي انشغل بها عندما فكر في تأليف كتبه، مانحا منجزه اعترافا هيغلياً بالتواجد المعرفي والوجودي والقيمي. وأضاف ”إذ يمكن أن نستأنس بما قام به الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في بحوثه الأركيولوجية عن مسألة الجنون في الفكر الغربي، حيث أحال إلى مفكرين وأطباء فرنسيين أعادهم بهذه الطريقة من جديد إلى الحياة الثقافية”. وبخصوص التراكم الذي يحوز على وشائج قوية بالإحالة كمبتغى تاريخي، وبالنقد كمطلب حضاري من أجل تأسيس خطاب فلسفي جزائري، أوضح بشير ربوح ”نحن لسنا في حاجة إلى النقد في هذه المرحلة التاريخية، بالرغم من أهميته المعرفية في تنشيط الفعل الإبداعي الفلسفي، لأن الذي نبتغيه من التأليف الفلسفي الآن وهنا، هو أن نحدث تراكما معرفياً على مسطح الإشكالات الفلسفية التي تطال أغلبها الأخلاقيات، السرديات، الهويات، العلمانية، المدارس الفلسفية كمدرسة فرانكفورت، والحديث كذلك عن شخصيات فارقة في الفكر الفلسفي الإنساني”. وأطلق ربوح على هذه المرحلة تسمية ”المرحلة التأسيسية لما يسمى فيما بعد النقد”، وقال ”بعيدا عن سوء الفهم الذي يمكن أن ينشأ من هذا الطرح، خاصة مسألة إرجاء النقد إلى ما بعد التراكم، نستطيع أن نتحدث عن ضرورة تأثيث البيت الفلسفي الجزائري بنصوص متنوعة وبأقلام متعارضة فكريا، وبعدها نستدعي النقد بمختلف صوره التي يتجلى فيها مثل: التفكيك، التأويل، الشرح، التحليل، التقويض، النبش الأركيولوجي، البحث الجينيالوجي وغيره، لكي يمارس مهمته النبيلة في بعث الحياة في نصوصها، واستخراج مكامن قوتها وضعفها، وضبط حدود إشكالاتها، وفق رؤية تتنزل فيها ثلاثية لازمة ومشروعة هي: الإحالة والتراكم والنقد، بغية تأثيث الفضاء الفلسفي الجزائري، إيماناً منا بمقدرتنا على تعبيد دربنا الخاص”. الدكتور منير بهادي ”علينا تشجيع الإبداع والسلوك العقلاني في المجال العمومي” يعتقد الدكتور منير بهادي، أستاذ الفلسفة بجامعة وهران، أن سؤال المستقبل سؤال فلسفي بامتياز ومعبر عن مستوى الخطاب الثقافي في الجزائر، من حيث إنه يحمل هواجس وأسئلة مختلفة ليست ذات طابع نخوي فحسب، بل تتضمن كذلك هواجس وانشغالات الفئات الاجتماعية والمؤسسات المختلفة، إنه السؤال الدائم للإنسان. وقال بهادي ”كان سؤال الفلسفة في تسعينيات القرن الماضي في الجزائر: أي مستقبل للفلسفة في الجزائر؟ وكانت الكتابة الفلسفية تنطلق من هواجس دفاعية عن شرعية الخطاب الفلسفي، تماما كما كانت النخب تدافع عن مدَنية وديمقراطية وجمهورية الدولة الجزائرية. لأن الإطار النظري للدولة المعاصرة إطار فلسفي، كما أن النموذج الغربي المحتذى في السياسة والاقتصاد طوعا أو كرها إبداع فلسفي، يؤكده فشل الممارسات والسلوكيات السياسية غير العقلانية في الدول الهشة والمتأزمة”. أما اليوم، فتميز الطرح الفلسفي حسب الأستاذ بهادي ”بالتوجه نحو التصورات والمفاهيم الإنسية والمعاصرة رغم وجود اختلاف نوعي في القول. فأما الخطاب الشارح فهو تلك الكتابات الناقلة لنصوص الفلاسفة أو المُحِيلة لها دون أدنى حضور لشخصية الكاتب، وفيها يعبر المشتغل بالفلسفة عن هواجسه وانشغالاته، من خلال نصوص لفلاسفة تم انتقاؤهم حسب الموضوع الذي هو بصدد عرضه أو الكلام عنه. يتصف هذا الخطاب بالطابع التلقيني، وهو شكل من أشكال الأصولية في الخطاب الفلسفي”. أما الخطاب الإبداعي الموجود في الجزائر حسب ضيف ”ندوة الخبر”، ”فيتميز بنوعية الموضوع الذي يشتغل عليه، وجديد التأويل الذي يصل إليه، عبر مسارات ودروب من النظر المنهجي المتعدد والنحت المفاهيمي الذي يستنطق الظواهر والأحداث والنصوص، مستعينا استعانة حوارية بالمفاهيم والأدوات المنهجية، ومستندا استنادا تأويليا للنصوص والمفاهيم الفلسفية، مراعيا سياقها التاريخي ومجالها الثقافي والحضاري. وعادة يستضيف إلى الفلسفة ويوطن بها موضوعات من الثقافة الجزائرية وأشكالها الفنية والأدبية والدينية، وما أنتج في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية من دراسات وأبحاث”. ورغم أن هذا الخطاب مازال في بداياته حسب الدكتور بهادي، ”إلا أنه تولد وتأسس وتباشير استمراريته ونجاحه تكاد تكون مؤكدة بشهادة العارفين بشؤون الثقافة والإبداع في الداخل والخارج. ولأن هذه مرتبطة بتلك، فإن الديمقراطية والمجتمع المدني والسياسي والفضاء العمومي عندنا في حاجة إلى تأسيس فكري وفلسفي، حتى تتولد القناعة الفردية والجماعية بأن هذه المفاهيم وغيرها من المفاهيم المؤسسة للدولة المعاصرة هي السبيل لاستمرارية بناء الدولة القوية والمجتمع الحر، من خلال تمدين الفضاء العمومي بفتح كل المجالات على الثقافي، والنظر إلى أن المشاكل الاجتماعية النفسية المتعلقة بالعنف والمخدرات واللامبالاة والكسل الاجتماعي، وكل أشكال تدمير المجتمع مرتبطة بغياب الثقافي وحصر جوانبه الحاضرة في ما هو فلكلوري في مجتمعنا، ودون الدخول في لعبة الأولويات، لأن الثروة الحقيقية التي لا تنضب ولا تخيب ولا تضيع هي الإنسان”. ويعتقد الدكتور بهادي أن تكوين الإنسان الجزائري الفعال في المجالات الحياتية المختلفة يتطلب العمل على تشجيع ثقافة الإنتاج والإبداع والسلوك العقلاني في المجال العمومي والشأن العام. وقال ”لا يمكن تحقيق ذلك إلا بوجود مجتمع سياسي متين ومتوازن يقوم على قوة المجتمع المدني وتوازنه، مجتمع حركي ونشيط ومبادر في الحياة الاجتماعية ومبدع لقيم الأنسنة وجودة الحياة دون عوائق محبطة لعزائم وإرادات الجماعات والأفراد. الأستاذ لكحل فيصل ”لا تستوي الحياة الثقافية إلا بعودة المثقف النقدي” يرى لكحل فيصل، أستاذ الفلسفة بجامعة ابن خلدون في تيارت، أن الكلام عن الفضاء الثقافي في الجزائر يقودنا مباشرة إلى تفكير العلائق بين المثقف/المفكر، والفضاء الثقافي الذي يشكل موضوع اهتمامه، وكذا المسافة التي بينهما، أي بين الذات المثقفة وموضع/فضاء ثقافتها، وقال ”ما نخلص إليه مبدئيا من وجهة نظرنا النقدية الفلسفية، هو أنه لا الذات المثقفة ولا الفضاء الثقافي الذي أنتجته في الجزائر قد استطاعا أن يحققا كينونت ”نا” التاريخية بما هي المؤجل الذي نستشرفه في أفق الثقافي”، وأرجع الأستاذ لكحل أسباب هذا التردي إلى كون ”الذات المثقفة/الجزائرية قد أعفت نفسها من مهمة صناعة التاريخ، لأنها أحالت نفسها إلى لحظة تاريخية تكاد أو تقترب من إعدام هويتها وكينونتها، وهي بالضبط اللحظة التاريخية الماضوية التي أضحت تتحكم في زمام المستقبل الثقافي الذي لم يحن زمانيا بعد، ونقصد بالضبط الحدث الثوري/الاستقلال السياسي، وذاك لأن ما ندعوه مثقفا جزائريا لم يفكر البتة في ما يعنيه التفكير خارج التاريخ الفعلي الزمني المنتهي”.ويعتقد ضيف ندوة ”الخبر” أن ثقافة المستقبل بما هو المستشرف الذي نكونه لا يمكن تفكيرها إلا من خلال فتح أفق/فضاء لا زماني للثقافة، وقال ”إن فضاء الثقافة يأتينا من المستقبل، لأن موضوع/فضاء الثقافة الجزائرية مهدد نفسيا واجتماعيا وسياسيا وحضاريا بعامة إذا لم يؤسس كيانه الثقافي بما هو صناعة للحدث الثقافي/المستقبل، أي الذي لم يحدث والمختلف في آن عن الحادث/ماضي، وكذا الذي يحدث/الحاضر”. وأضاف ”وهنا أوافق من خلال طرحي الأستاذين بهادي منير والبشير ربوح في قولهم بأولوية الفكر الحر والحس النقدي السليم في مجال العلائق بين الفلسفي والثقافي، لأنني أرى بأن حرية الفكر المأمولة في الجزائر هي ذاتها يمكن أن تصنع فضاء ثقافيا جزائريا لا يتحرج من ذاته ولا يشعر بالدونية ولا بالوهن النفسي والاجتماعي المصطنع /أو/ المفروض قصرا وتعسفا”. إن أولويات الثقافة الجزائرية، حسب الأستاذ لحكل، ”قد انحلت في مطالب ظرفية زمانية، هذا لأن هناك أخطاء في توجيه الثقافة وفي تحديد أهدافها وأدوارها الحضارية، وقد كان هذا الأمر نتيجة عجز المثقف عن تمثل العوالم الحقيقية التي يمكن أن تطالها فعالية الثقافة. وفي ظل تجاذب هذه الأوضاع، عجز المثقف الجزائري عن تمثل الأدوار المناطة بمهمته الثقافية في المجال الاجتماعي والسياسي، بل حتى في مجال الكتابة والإبداع الفكري، وحين تفقد الثقافة أسمى مهامها فإنها لا محالة تنحل في الكلام الزائد والثرثرة ويتم اتخاذها أداة للتسلية والترفيه، إذ قد أسست وزارات من أجل هذا الشأن وجعلت هدفها الفن والرقص والموسيقى. في حين أن الفن والرقص والموسيقى أسلوب حياة وذوق وليست هدفا البتة”.وخلص ضيف ”الخبر” إلى ”ضرورة إعادة الاعتبار للمثقف الحقيقي الحر والمسؤول، لأن هناك الكثير من أنصاف المثقفين والمفكرين الذين يكرسون أفكارهم وتصوراتهم من أجل الظفر بالسلطة والمناصب السياسية، غير آبهين بالدور الحقيقي الذي يجب أن تؤديه الثقافة في توجيه أمور المجتمع والسياسة والاقتصاد والتاريخ”.