الفلسفة في الجزائر لها كيان مؤسساتي ولا وجود لها في الواقع الاجتماعي أو السّياسي تحتفل الجزائر، في السّادس والعشرين (26) من شهر أفريل من كل عام، باليوم الوطني للفلسفة، الذي يعتبر مناسبة سنوية. فكيف يرى بعض الأساتذة والمشتغلين في حقل الفلسفة، واقع الفلسفة في الجزائر؟، أيضا كيف يرون حضورها ونسقها في مشهد الواقع والعلوم والأدب والسياسة والثقافة. وما دورها في كل هذا، وكيف هي علاقتها بكل هذه المعطيات؟. أيضا كيف حال مخابرها، مقارنة بحالها في بلدان عربية أخرى؟. ولماذا المراكز المختصة في الفلسفة شبه منعدمة؟. وهل غياب هذه المراكز يعيق تطورها وازدهارها ومواكبتها للحركات والتيارات الفلسفية العالمية؟. أين تكمن إشكالاتها، مآزقها ومعيقاتها أكثر، وكيف هو مستوى الاشتغال الفلسفي في الجزائر؟. هذه أسئلة حول واقع الفلسفة في الجزائر بمناسبة يومها الوطني الذي يحل بعد يومين. وبالمقابل هنا مقاربات وإجابات بعض المشاركين في ملف عدد اليوم، من كُتاب وأساتذة وأكاديميين ومشتغلين في حقل الفلسفة تدريسا وبحثا وتأليفا. إستطلاع/ نوّارة لحرش * عبد القادر بوعرفة/ أستاذ بجامعة وهران -قسم الفلسفة- مدير مخبر الأبعاد القيمية للتحولات بالجزائر السلطة لا تشجع الفلسفة والشارع لا يعترف بالفيلسوف يعتبر الحديث عن واقع الفلسفة في الجزائر من الأمور التي لا يمكن الجزم فيها جزما قاطعا، فكلمة واقع لها جملة من الدّلالات قد نختلف في تأويلها، فالفلسفة في الجزائر لها كيان مؤسساتي فقط، فهي بنت المؤسسة فقط، أي ليس لها أي وجود في الواقع الاجتماعي أو السّياسي أو الاقتصادي، بمعنى أدق للكلمة أن الفلسفة لا تُمارس في الجزائر كفكر وكفعل، بل هي تمارس فقط كوظيفة تؤطرها الدولة. لا يعترف الشارع الجزائري بالفيلسوف، لأن المشتغل بالفلسفة هو ذاته لم يستطع أن ينتزع لذاته مكانا مثلما هو الحال في الأدب، وخاصة الكتابة الروائية. نعترف بأن الفلسفة لا تجد لنفسها مكانا في المجتمعات العربية والإسلامية، لأن المخيال الجمعي يربطها دوما بفكرة الخروج عن الملة، ولعل سلوك المشتغل بالفلسفة اليّوم يزيد في اتساع تلك الهوة، فنحن نقر أن الفلسفة ستظل دوما نخبوية، ونخبويتها تجعلها لا تواكب الواقع كما يأمله الإنسان العادي. إن أكبر عائق أمام الفلسفة في الجزائر هو المفارقة بين الفعل والعقل، ونقصد أن الفلاسفة الكبار استطاعوا أن يؤثروا في الرأي العام نظرا لعدم تناقض الفعل مع الفكرة، بيد أننا في الجزائر نلاحظ أن ما يطرحه المشتغل بالفلسفة يخالف سلوكه تماما. لقد كان ابن رشد يُجسد النظر الفلسفي في سلوكه، كما كان ديكارت وكانط. ليست الفلسفة تلك النزعة الإباحية والحداثوية الضّيقة التي يرسمها بعض المنتسبين للفلسفة، بل إن الفلسفة هي انتماء وولاء، انتماء للقيم الإنسانية، وولاء للذات العارفة التي تصبو إلى الحكمة. إن مستقبل الكتابة الفلسفية في الجزائر يمكن أن نربط نجاحه بالعوامل التالية: - 1- العمل الجماعي: إذ لا ينمو الحِراك الفلسفي إلا ضمن فضاء فلسفي جماعي. فالفلسفة على مر التاريخ ترعرعت في أحضان الأنتلجنسيا، فمحاورات أفلاطون تعكس عمل جماعي أكثر منه عمل فردي، والفلسفة الجوالية الأرسطية ذاتها كانت ضمن نطاق عمل الجماعة. إن ما ينقص المنتسب إلى الفلسفة في الجزائر هو غياب العمل الجماعي، فكل مشتغل إلا ويعمل لنفسه بنفسه، بينما نلاحظ في دول الجوار مدى تلاحم المشتغلين بالفلسفة. -2- تفعيل مختبرات البحث: يوجد بالجزائر حاليا أكثر من 30 مختبر خاص بالفلسفة، ويمكن من خلال الإمكانات المادية المتوفرة إنجاز أعمال فلسفية كبرى. -3- السلطة وإستراتيجية النخبة: تسعى الدّول المتقدمة إلى إنتاج النّخب نظرا لأن الصّراع اليوم هو صراع فكري قبل أن يكون صراعا ماديا أو تكنولوجيا. استطاع المأمون أن يجعل عصر الدولة العباسية عصرا ذهبيا لأنه فكر في إنشاء نخبة مفكرة تمثلت في المعتزلة، بالرغم مما يُكتب عنها اليوم إلا أنها بالفعل صنعت ظاهرة تاريخية، وجعلت السلطة تنخرط في عملية التّثاقف والترجمة. لا يمكن للفلسفة أن تنهض خارج مجال السلطة، ولا يمكن للسلطة أن تشجع الفلسفة وهي تُمارس ضمن فضاء الشعبوية. * بشير خليفي/ أستاذ وباحث جامعي البعد الاجتماعي رهان الفلسفة الأبرز ليس من الممكن تجاوز الفلسفة كموقف أو خطاب فكري إزاء قضايا التاريخ والراهن، إننا بحاجة إلى منظومة مفاهيمية ونقدية أثناء تعاملنا مع مشكلات الحياة، هنا يجب أن نتوقف قليلا للتأكيد على ما سماه ميشال فوكو الإبستيمي حينما تحدث عن جملة الظروف المساندة لنشأة الخطاب المعرفي وترقيته، من منطلق أن الحضور الفلسفي يحتاج على الدوام إلى شروط مساندة لعل أبسطها الوعي والحرية، مما يجعل مساره ضمن مساق دالة جيبية صعودا وهبوطا في ظل ازدهار للحراك والإنجاز أو تحت طائلة أزمات لعل أبرزها أزمة النهايات. في هذا السياق يمكن القول ضمن فضائنا التداولي أن الحالة الفلسفية تعيش انتعاشا دون أن يعني يقظة تامة، وللبرهنة على ذلك تكفي إطلالة بسيطة على إبداعات متفلسفة اليوم وعدد الأطاريح والكتب المؤلفة ضمن مساقات الفلسفة المتعددة، زيادة على النشاطات الحاصلة في مختبرات البحث وأقسام الفلسفة عبر ربوع جامعات الوطن. بيد أن ذلك لم يمنع من وجود نقائص، ولعل أبرز معالمها أن الخطابات الفلسفية للإنتلجنسيا الجزائرية لا تكاد تُقرأ ولا يُحتفى بها بقدر الاحتفاء بأهداف كرة القدم، وهي مسألة مبكية مضحكة تلخص أزمة الثقافة في مجتمعنا، بما يدفعنا لطرح هذا التساؤل الملحاح: أنّى لنا أن ننتظر انجازا فلسفيا راشدا يجد صداه في ظل سياق تستبد به ثقافة استهلاكية مؤسسة على امبريالية نفسية؟. في الواقع لا يمكن إنكار الجهود الفلسفية المبذولة بغرض تأثيث مشهد فلسفي وإغنائه بنشاطات فكرية ومؤلفات، هذا النمط من الحراك توّجَهُ المهتمون بيوم وطني يتم الاحتفاء به في 26 من أبريل كل سنة، كما أوجد أيضا الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية التي تأسست في 25 جوان 2012 بمشروع يتمحور أساسا على نشر وتجذير الفكر الفلسفي النقدي في الحياة الثقافية الجزائرية. ويبقى الرهان الأكبر قدرة المتفلسفة على الإقناع بجدوى خطاباتهم، وذلك بفتح الخطاب الفلسفي وتحينيه بما يتمشى والوقائع المتجددة، مع الحفاظ على خصوصياته العامة، إذ لا يعقل أن يبقى التفلسف مقترنا بالاستدلالات النظرية الحالمة بلغة كارل ياسبرس والتي لا نجد فيها أثرا للممارسة، بما يفرض إخراج الفلسفة من قُمقمها الإبستمولوجي والأنطولوجي والإكسيولوجي الذي طالما ثوت فيه إلى محايثة واقع الناس، بأن تنخرط في مجالات الحياة، فيحضر الخطاب الفلسفي بمنطق التخاصص والمعالجة البينية المشتركة بين الذوات ليُبرِز خصوصيته وفرادته التحليلية أثناء معالجة المعضلات. إن لكل معرفة فلسفتها الخاصة، فالمعرفة الأصيلة بالأدب على سبيل المثال تشترط دراية فلسفية، فالرواية بوصفها عملا أدبيا هي نتاج معرفي يُمتَح من التراث الفكري والحياتي المجتبى من لدن الكاتب نفسه، كما لا يمكن لأي رواية أن تخلو من موقف فكري، بل أن بعض الفلاسفة يرون أن الرواية كحالة سرد وبسط للمعرفة قادرة على استيعاب عديد الفلسفات ومختلف صنوف المعرفة، عبر الشخوص المهيكلة للمدونة الروائية، حيث أن لكل شخصية فلسفتها وقناعتها التي يقوم الروائي المحترف عبر واسطة الحجاج وسمت التخييل والتخليق والتعريض والمجاز إلى الإقناع، إقناع القارئ بعفوية شخوصه ومن ثمة بجدوى كتابته. كما ينسحب الأمر على مختلف صنوف المعرفة، لتكون الدعوة قائمة لتجاوز حالات التثبيط المؤدية للإفلاس الفلسفي لصالح فلسفات جديدة تتجاوز منطق النهايات بإيغالها الوظيفي في تاريخ المعرفة وحاضرها بغية استشراف المستقبل، ولن يكون ذلك دون "ميتا فلسفة" أو فلسفة واصفة يكون هدفها الأساس معالجة أعراض المرض والأزمة ومن ثمة البحث في تجاوز المعرفة المحنطة لصالح صور جديدة للفلسفة والفيلسوف، وذلك بخلخلة الأنماط الجاهزة، هتك الحُجُب والاستفادة من الأخطاء التاريخية للانطلاق في حياة جديدة. * عبد القادر بودومة/ باحث وأستاذ الفلسفة في جامعة تلمسان لا يعقل ألا يكون للفيلسوف مكانته داخل ما يطرحه الراهن واليومي الجزائري كيف يمكننا أن نكون فلاسفة خارج المؤسسة التعليمية؟، من هنا يبدأ بدء التفلسف. وما يوم الفلسفة إلا يوم للمتفلسفة، أي لكل محب للتفلسف. إن اليوم الفلسفي هو بدء للابتداء. قد يضعنا من جديد عند بدء معاودة تفكير ذواتنا، تاريخنا، هويتنا وتراثنا على العموم. إذ من غير المعقول ألا ينعطف الفيلسوف وينثني على ذاته مرة واحدة في حياته الفكرية. ذلك لأن التفلسف بصر وبصيرة، دراية صارمة بالفلاسفة وبمواقفهم بكيفية كلاسيكية. هنا يكمن اقتضاء رفض السذاجة والسطحية في التعامل مع القضايا الأساسية. يتطلب الأمر إذا نوع من الشجاعة في تفكير اليومي، الحضاري والسياسي بطريقة مفهومية. إذ وحده التفلسف قادر على حملنا إلى حيث الأقاصي فالتفلسف تمرين وتدريب على شق الطرق بمفردنا. فقد نفتح أقساما للفلسفة ننشيء مختبرات بحثية تضطلع على قضايا مجتمعنا الأولية، وقد نرسم خططا لمشاريع تعليمية. لكن وحده الإيمان بالتفلسف وبأهميته التنويرية قادر على أن يخلصنا من ظلام وظلم الأصوليات. إذ لا تنوير، ولا إمكان لتدبير الشأن الحضاري من دون إضاءة الفوانيس لأن الفيلسوف هو في نهاية المطاف ليس من يفر من أشباحه، وإنما من يتمسك بإنارة الأمكنة المتواجد فيها. إن الهدف العام لكل تفلسف هو تمرين النظر على الانتظار قصد التمكن من فتح أفق الأمل والاعتبار. أما عن المخابر أو المختبرات الفلسفية يمكنني أن أقول ما يلي: بدأت الفلسفة تعرف بدء توغلها داخل المجتمع، ومؤسساته بفضل المخابر الموزعة على جامعات الوطن. فصرنا نسمع اليوم عن مخابر تبحث وتدرس قضايا الفن، الدين، التصوف، التنمية، التاريخ، الهوية والسياحة.. إلخ. هذا ما يعجل القول باقتضاء السير نحو جعل من الفلسفة مجال للممارسة والتمرين على التفكير في راهنية ويوميات الإنسان الجزائري. بحيث نتمكن مستقبلا – أعتقد أنه بدأ في التشكل – التخلص من التقليد الذي حاصر ولمدة طويلة الفلسفة داخل أسوار الجامعة فمنع عنها الإبداع والإنتاج المعرفي الأصيل. جاعلة منها مجرد درسا تلقينيا لطلبة يأتون إلى الفلسفة كرها – ضروري الالتفات إلى حقيقة الطلبة الذين يتم توجيههم إلى الفلسفة وخاصة في النظام الجديد الذي أهدر قيمة التفلسف داخل قاعات الدرس- ويمكنني طرح السؤال التالي ما الكيفية التي تجعلنا نحيا ونعيش فلسفيا؟ وكيف بإمكاننا جعل الفلسفة مطلبا عمليا؟ ألم يحن الوقت بعد للمطالبة بضرورة إيجاد شهادة مهنية خاصة بخريجي أقسام الفلسفة بمسمى: خبير فلسفي، إذ لا يعقل ألا يكون للفيلسوف مكانته داخل ما يطرحه الراهن واليومي الجزائري وذلك في قضايا البيئة والعمران والتناقضات الاجتماعية المميزة لمجتمعنا. مؤخرا تحصلت على اعتماد مختبر يحاول الالتفات إلى مثل هكذا قضايا وعنونته ب "الفينومينولوجيا وتطبيقاتها". قد يعكس هذا العنوان نوعا من الغموض وقد يلتبس الأمر على المتلقي سواء داخل الفضاء الفلسفي أو الفضاء الأكاديمي عموما. لكن أعتقد أن رغبة الوزارة المعنية بتدبير الشأن العلمي صارت تتخذ لنفسها إستراتيجية نفعية تراع فيها القدرة والأهلية على البحث والدراسة لا غير هذا ما يفتح الإمكان المتعدد للتطور المعرفي والعلمي. * محمد جديدي/ أستاذ وباحث بقسم الفلسفة بجامعة منتوري في قسنطينة على المتفلسفة في الجزائر أن يعيدوا الاعتبار للفلسفة وأن يشتغلوا بها بعيدا عن الأدلجة أو الأسلمة أو التسييس ونحن نطرح السؤال حول واقع الفلسفة في الجزائر علينا تذكر موقف الفيلسوف ديكارت الذي لم يخطئ لما جعل تقدم شعب من الشعوب مرتبط بمعيار تواجد الفلاسفة، ذلك أن الفلاسفة هم تاج المعارف والعلوم والفنون والآداب، ليس هذا في زمن ماضٍ كانت فيه سمة الموسوعية هي شخصية المثقف المرغوب فيه، هذا من جهة وهو في حد ذاته تلخيصا للرد على السؤال المطروح، ومن جهة أخرى يجدر بنا أن نبادر - من زاوية مستقبلية تفاؤلية - إلى قلب السؤال فيكون أين هي فلسفة الواقع في الجزائر؟. وفقا لرؤيتي الخاصة وتتبعا لتموقع الفلسفة ضمن خارطة المعرفة في بلادنا يتوجب أن نسعى إلى التمييز بين ثلاث دوائر أساسية يمكن للفلسفة أن تتواجد بها على مستوى المشهد الثقافي هذا على الأقل نظريا فكرا وممارسة تنظيرا وتقليدا، تعليما ونشاطا وأقصد: 1- دائرة النخب. 2- دائرة التعليم. 3- دائرة النشاط. لن ألتفت إلى الدائرتين الأولى والأخيرة لسبب بسيط أن الفلسفة غائبة في هاتين الدائرتين وقد تتاح الفرصة لمناقشة عوامل وأسباب هذا الغياب في الوقت الذي نتطلع أن تحضر الفلسفة ممارسة ونشاطا بقوة وتأثير كبيرين على الفرد والمجتمع. أما الدائرة التي نتوقف عندها في هذا المقام فهي التعليم، ذلك أنها الدائرة التي يبدو ظاهريا أن الفلسفة حاضرة بها، على الأقل في السطح أي سطحيا، علما بأن الحقيقة التي يدعو إليها الفلاسفة وعلى رأسهم ديكارت موجودة في الأعماق، فهل واقع الفلسفة لدينا موجود في مؤسساتنا التربوية والتعليمية بمختلف مراحلها؟. مما يؤسف له أن لا تستثمر فرصة تدريس الفلسفة مجال التعليم الثانوي، وربما قد تتاح الفرصة مستقبلا ضمن مدارس رائدة لتدريسها حتى في مراحل قبل الثانوي كما هو جاري في بعض البلدان في العالم، وكذلك في مجال التعليم الجامعي الذي عرفت فيه الفلسفة انتشارا لأقسامها -في أكثر من عشرين جامعة على المستوى الوطني- غير أن هذا الانتشار لا يعكس قيمة الحضور والتأثير والإشعاع الثقافي ولا يعود ذلك إلى ضعف البرامج بدرجة كبيرة بقدر ما يعود إلى ضعف المكونين أي المشتغلين بحقل الفلسفة و"محترفيها" الذين في جزء كبير منهم حادوا عن مهمتهم الرئيسية بتوجيه دارسي الفلسفة ومحبيها إلى دفعهم على اكتساب روح التساؤل والنقد وحثهم على الاستقلال الذاتي في الفكر وعلى التفكير بصورة جيدة صحيحة مسوغة بحجج العقل، أو على الأقل ألا يفكروا بكيفية خاطئة وأن يكونوا هم أنفسهم عناصر تصويب لصورة الفلسفة في واقعنا وفي مجتمعنا إذ لا تخرج عن واحدة من اثنتين: إما أن تكون صورة مرادفة للإلحاد وإخراج الناس من الملة والدين أو أنها مرادفة للغو والسفسطة، وفي كلتا الحالتين فلا جدوى منها، ولذا فعلى المتفلسفة في الجزائر أن يعيدوا الاعتبار للفلسفة انطلاقا من تصحيح هذه الصورة المشوهة وذلك لن يتأتى إلا إذا اشتغلوا حقيقة بالفلسفة كفلسفة بعيدا عن الأدلجة أو الأسلمة أو التسييس، فاتخاذ موقف إيديولوجي أو ديني أو سياسي لا يعني بالضرورة أنه مؤسس فلسفيا أو ينبئ عن فلسفة. لكن مع الأسف، إن بعضا من يعادون الدين أو أيضا من ينتصرون للدين يتصورون وينطقون باسم الفلسفة وهم مخطئون وخطرهم عليها أشد. على هؤلاء إن أرادوا المساهمة في بناء مشروع يمكن الفلسفة من احتلال موقع متميز –يقارب ما هو موجود لدى جيراننا- ضمن المشهد الثقافي والإعلامي والعلمي في بلادنا أن يعيدوا النظر في تصورهم للفلسفة من داخل اهتمامهم الفلسفي، أي بعيدا عن المواقف والقناعات الدينية والإيديولوجية تمهيدا ربما لمشروع فلسفي يتسم بالتنوع اللغوي والتعدد الثقافي والاختلاف الفكري والتسامح المنهجي. مثل هذا الجهد ليس من الضروري أن يكون مهيكلا في مراكز ومخابر فبعضها موجود ولكنه غير فعال بل قد تثمر الجهود الفردية أو في شكل فرق بحث صغيرة وتؤتي أكلها بأفضل مما هي في مؤسسات والدليل على ذلك كما لاحظ أحد الفلاسفة أنه لما كانت الفلسفة تعيش ازدهار عهودها لم تكن هناك جامعات أما وقد صارت عندنا جامعات فلم تعد عندنا فلسفة. ملاحظة للتدليل على غياب الفلسفة عن واقعنا يكفي أن نتساءل: هل نملك مجلة فلسفية محترمة؟، هل لدينا نص فلسفي حلل أزمتنا بعد الاستقلال سياسيا وثقافيا واجتماعيا ومعالجة فلسفية خاصة بالظاهرة الإرهابية؟، حتى أن الجمعية الفلسفية لم تر النور إلا مؤخرا ولم توجد فيما سبق إلا على الورق. مع هذا هناك بارقة أمل تجلت في بعض الكتابات الفلسفية الجديدة التي ساهمت منشورات الاختلاف في التعريف بها محليا وعربيا وأرجو أن تستمر بمستوى جاد وجيد في طرح القضايا الفكرية الهامة وأن يُكتب لها النجاح. * عمر بوساحة/ كاتب وباحث وأستاذ الفلسفة في جامعة الجزائر ورئيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية لم تفعل فعلها في الحياة الثقافية ولم ننتبه لأهميتها في شأن الحراك الثقافي المبدع كنت أقرأ قبل أن أهمَ بكتابة هذه الكلمات لأرد على ما تفضلتِ به في سؤالك عن وضع الفلسفة في الجزائر مقالا للمفكر العربي اللبناني علي حرب يثني فيه على فلاسفة الجزائر ويصف فيه الحراك الفلسفي الحاصل فيها بأنه لا شبيه له في كثير من البلدان العربية بل وبعض من دول العالم الأخرى كذلك، وهو يعتقد أن هذا الحراك يبشر بأن الجزائر تسير في طريق الإصلاح وبالتالي هي في غير حاجة للثورات التي عصفت بكثير من الأنظمة العربية، فبالفلسفة كما هو معرف في تاريخ كل الأمم تنمو الثقافات وتقام الحضارات. فالشعوب التي تمتلك فلاسفة وينتشر الوعي الفلسفي فيها، لها كل الأمل والشرعية في الوصول إلى درجات من الرقي والتقدم والرخاء. قرأت هذا الكلام وغيره فلاحظت أن الرجل مرَ مرورا عابرا على الزَبد الظاهر ولم يذهب بعيدا في العمق ليرى واقع الثقافة الجزائرية كما هي عليه في حقيقتها، ثقافة لا تزال بعيدة كل البعد عن امتلاك الحس النقدي العقلاني في قراءتها لواقعها والتأسيس لفضاءات الحرية والاختلاف والتعدد الفكري والثقافي الضامنة لصناعة مجتمع عصري متحضر. لا تزال الفلسفة في الجزائر لم تفعل فعلها في الحياة الثقافية وفي الغالب لا نزال نحن الجزائريون لم ننتبه لأهميتها في شأن الحراك الثقافي المبدع، سواء بجهلنا لحقيقتها وهو الغالب الأعم، أو بسبب المواقف العدائية منها من طرف جمهور واسع من النخبة المتاجرة بالدين الوارثة لفكر العصور الوسطى وثقافة عصر الانحطاط والتي لا تزال تحتفظ بموضوعات ومواقف الجدال التي حدثت في تلك الأزمان حول اللاهوت وقضايا الدين عموما، ولم تنتبه إلى أن موضوعات الفلسفة ليست ثابتة مثلها مثل كل موضوعات المعرفة الإنسانية الأخرى، فإن كانت موضوعات الدين قد كانت بدون منازع هي موضوعات الجدل الفلسفي في القرون الوسطى في الإسلام والمسيحية واليهودية فلأن الدين كان هو المحور الثقافي المسيطر في تلك العصور، فكان بديهيا أن تشتغل الفلسفة على تلك الموضوعات نقاشا وتدقيقا وتعميقا لتصوراتها ومعانيها، ومن الطبيعي أن يحدث هناك اختلاف بين وجهات النظر بين المتجادلين، كالذي حدث بين الغزالي وابن رشد مثلا والذي يجب النظر إليه على أنه كان أحد مصادر الاغتناء في الثقافة الإسلامية لا مصدرا للتحييد والإبعاد أو التكفير. لم تعد تلك الموضوعات هي التي تشغل بال الفلاسفة في هذا العصر على الرغم من أهمية تلك الموضوعات وعلى الرغم من أهمية التناول الفلسفي لها. فالفلسفة متطورة بتطور الحياة وموضوعاتها كذلك، وهي منفتحة دوما على الجديد، تجدد موضوعاتها وتجدد نفسها باستمرار، وذلك حينما تجد نفسها ومناهجها عاجزة عن ملاحقة مستجدات الحياة وأسئلتها. ولنا في التاريخ لحظات حاسمة استوقفت الفلاسفة والفلسفة لتعيد النظر في نفسها وفي مناهجها لأن هاته المناهج لم تعد في مستوى مسايرة المستجدات، ولحظة "ديكارت" مثلا و"كانط" وكذلك "هوسرل" شواهد بارزة عن هذه المسيرة المتجددة في حياة الفلسفة الحديثة والمعاصرة. فلا يزال الطريق طويلا أمام الفكر الفلسفي في الجزائر ليجذر نفسه في الحياة الثقافية للمناعة التي تبديها هذه الثقافة بسبب التراكم الطويل لتقاليد التخلف والجمود التي أفرزتها عصور الانحطاط وبسبب الإيديولوجيات الإسلاموية التي تعيد إنتاج هذه العادات وهذه التقاليد. أما بخصوص الدرس الفلسفي في الجزائر فلا يزال هو الآخر يحتاج إلى مجهودات كبيرة معرفية وديداكتيكية تجعله يرقى إلى مستوى تطلعات المثقف المهتم بالشأن الفلسفي في بلادنا. لم تعد مادة الفلسفة في برامج التعليم الثانوي تمتلك تلك الأهمية التي كانت عليها فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وقد يكون السبب الرئيس بتصورنا يكمن في الضعف الحاصل في تكوين المكونين وكذا طبيعة الكثير من الموضوعات التي تحتويها البرامج، والحال نفسه يمتد ليشمل الدراسات الجامعية فلا تزال مواد الفكر القديم ومواد التراث تنال حصة الأسد في وضع البرامج الدراسية. أضف إلى هذا وذاك ما أفرزته السنون العجاف التي مر بها البلد طيلة سنوات الإرهاب الأعمى والتي لا يزال تأثيرها يعمل في جسم الثقافة والتعليم ويضيف تسربا وتسيبا ورداءة وإحباطا لا للفلسفة وحدها بل لكل فكر عقلاني يسعى إلى زرع روح الثقة والأمل في المستقبل لدى الأجيال الجديدة. أما عن الكتابة الفلسفية في بلادنا فيبدو أن وضعها صار أفضل قياسا بوضع الفلسفة درسا أو في الحياة الثقافية، فقد ساعدت بعض دور النشر الجزائرية (أهمها دار الاختلاف) على نشر كثير من الأعمال الجادة لأساتذة الفلسفة في الجزائر، وهي وإن ابتدأت بطبع رسائل جامعية في الأول إلاّ أن اهتماماتها امتدت لتشمل أعمالا أخرى ألفها جيل من الأساتذة الشباب ابتدأت هذه الأعمال ترسم صورة محترمة للإبداع الفلسفي في الجزائر، وأصبحنا لا نفاجأ بوجود عناوين لنصوص متعددة في رفوف مكتبات أهم المدن العربية كالرباط وبيروت مثلا لمؤلفين جزائريين وهي تحظى بكثير من التقدير والثناء من طرف القراء العرب. ولا ننسى هنا أن نشير أيضا إلى ما تقوم به مخابر البحث الجامعية على قلتها في هذا المجال فقد شجعت هذه المخابر اللقاءات الفكرية والندوات مما أعطى مادة بحثية جيدة طُبعت أغلبها سواء في دور نشر جزائرية أو عربية في شكل كتب جماعية أصبحت تمثل مراجع لا غنى عنها للطلبة والباحثين، بالتأكيد لا نزال بعيدين كل البعد عن مستوى البعض من أشقائنا الذين سبقونا في هذا الميدان ولكننا بتصوري في الطريق لتأسيس كتابة فلسفية جزائرية متعددة الرؤى والأطياف، كتابة علمية رصينة يمتلك أصحابها قدرات علمية متميزة بسبب تعدد مراجعهم وتعدد اللغات التي يقرؤون بها، وكذلك بسبب الإشكالات الفلسفية المعاصرة التي يشتغلون عليها. وستوفر لهم الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية التي أُسست أخيرا المجال للتلاقي وتجميع الجهود في سبيل نشر فكر نقدي عقلاني في ثقافتنا والتي هي في حاجة ماسة إليه لتجدد نفسها وتتخلص من حواجز التخلف والانحطاط التي رسختها تقاليد قرون من الجهل والخرافة والضياع.