لقد أكبّ بيكاسو إذن على الخمس عشرة لوحة مبدلا في الأدوار، يمحو تارة، يضخم طورا، يجمد أحيانا وهو في سباق رهيب مع الزمن لأنه كان يريد الانتهاء من رسم هذه المجموعة في أقرب وقت حتى يعبر بسرعة عن تضامنه مع الجزائر ومنذ البداية. لقد كانت نساء الجزائر عند “دولاكروا” عاطفية، مستسلمة، أنثوية وشبقية وإذا بهن يصبحن مع بيكاسو باردات، جامدات، متهجمات. وقد صرح الفنان بالنسبة لهذا العمل: “دولاكروا جعل منهن نساء رخوات ومومسات وأنا جعلت منهن محاربات، مقاتلات وثائرات ورافضات”. لقد بادر بيكاسو في البداية إلى رسم خمس لوحات صغيرة الحجم، ثم وكأنه قد أدرك ما اتخذته الثورة الجزائرية من اتساع، فرسم عشر لوحات ذات حجم كبير، وفيها ابتعد كل البعد عن رؤية “دولاكروا” الماجنة والاستعمارية. واستعمل الرسام الفذ اللون الرمادي الأديم ووزعه على اللوحة ولطخ الرمادي على الرمادي، مثلما فعل في لوحة “ڤارنيكا” التي رسمها سنة 1939، بعد أن هدمت هذه القرية الباسكية من طرف الجنرال فرانكو. وبتصرفه هذا في اختيار الألوان السودائية والتخلي عن الألوان الأخرى، معبرا هكذا عن حزنه واغتياظه إزاء حرب الجزائر، فوسع نطاق رسمه وكبّر حجمه، كما أن جزائرياته يتسمن كلهن بالكآبة والحزن. ويأتي ذلك على خلاف تام مع “دولاكروا”، وقد كان هذا الأخير قد اتخذ من المومسات القابعات في مواخير القصبة نموذجا لفنه سنة 1840، أي في فترة الغزو الفرنسي للبلاد بما لازم من همجية وتهور. وهكذا تتحول رؤية “دولاكروا” الضابط في المخابرات العسكرية الفرنسية، وتصبح جوا يكتنفه التباين بين الشكل واللون، فبأشكاله الحادة والناحرة، يتخذ الفنان الإسباني موقفا ثوريا، فتأتي رؤيته كمناضل يأخذ موقفا صارما ضد الاستعمار الغاشم، فيضفي هذا الشعور رونقا جديدا على نتاجه. وهذه الطريقة في العمل تتناقض كليا مع تقنية “دولاكروا” الذي أفرط في التزيين واستعمال الألوان الفاقعة والصارخة من أحمر قان وأخضر غامق وأزرق ساطع وأصفر براق، الشيء الذي يعاكس الألوان التي استعملها بيكاسو: الرمادي والأسود، أي ألوان الحزن والكرب والحداد وهي الألوان التي تضخم الأشكال والأحجام إلى اللانهاية. فتكون بذلك قد تبدلت معالم لوحات “دولاكروا” الزاهية والباهية، إذ فرض الرسام الإسباني حلولا جذرية، فأراد من خلالها رفع التحية إلى الجزائر المقاومة والمقاتلة، الجزائر امرأة وأرضا ونصرا آتيا لاشك فيه. ولقد اختار بيكاسو هذه الطريقة ليعبر فيها عن الحقيقة الثورية وللطعن بالمدرسة الأجودية والمستشرقية التي كانت سائدة وسط القرن التاسع عشر والتي كانت تخدم الأفكار الرجعية وتدعم الأفكار الاستعمارية التي جعلت من المرأة المغربية مومسا مثقلة بأزيائها التقليدية وحليها الفضية، فأصبحت الجزائر هكذا بيتا للدعارةǃ وجاء بيكاسو وكسر ذروة هذا العمل الخبيث وانتصب مناوئا لهذا الاتجاه الخاطئ والمشوه للتاريخ وللإنسان، بصفة عامة. وأثناء الفترة القصيرة جدا التي رسم فيها بيكاسو “نساء الجزائر”، رسم، في يوم واحد، صورة جميلة بوباشة المجاهدة الرائعة والتي لم تتجاوز آنذاك العشرين عاما من عمرها. إذن: بيكاسو/ الثورة؟ حقاǃ