مشكلة الجزائر أن مردودية العامل فيها ضعيفة، والعامل الجزائري يطالب دوما بالحقوق دون تقديم الواجبات الضرورية التي تقابل تلك الحقوق، على اعتبار أن الحق هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب. ففي عملية التنمية، يجب إشراك العاملين في التفكير والتخطيط والتنفيذ، والأهداف هي التي تحدد الوسيلة لبلوغ التنمية، فإن الاختيار يرتكز فيها أساسا على مناهج التقشف وبتقديم الواجبات على الحقوق. هذا الأسلوب يحدد السلوك السياسي والأخلاقي للمجتمع النامي، وخاصة سياسته في استثمار موارده، بحيث هناك علاقة بين الحقوق والواجبات تسيطر على جميع نواحي التطور الاجتماعي، ومن هذا المنطلق يمكن إيجاد 3 نماذج للمجتمعات، وذلك من خلال العلاقة الجبرية الآتية: الواجب + الحق= الصفر. هذه الصورة في الجبر تسمى ”اللامعادلة”، وتعني أنه إذا كان الواجب أكبر من الحق كانت النتيجة إيجابية أي فوق الصفر، وهذا يعني أن المجتمع ينتج أكثر مما يستهلك، وإن كان الحق أكبر من الواجب كانت النتيجة سلبية أي تحت الصفر، وهذا يعني بأن المجتمع يستهلك أكثر مما ينتج، وإن كانا متكافئين كان الناتج صفرا. فأين موقع العامل الجزائري من هذه المعادلة؟ وتحت هذه الصورة توضح العلاقة أن اختيار مجتمع يعني بالنسبة له نموا صاعدا ويقصد بذلك النهضة، حين يكون الاختيار في الصورة الجبرية إيجابيا، وهذا الاختيار يتفق في التخطيط الاقتصادي مع زيادة قوى الإنتاج بالنسبة لحاجات الاستهلاك وتدل هذه الزيادة على إمكانيات الاستثمار لدى المجتمع، وإذا كان الاختيار سلبيا لبلد ما فإنه يدل على أنه نموذج المجتمع المتخلف، وبين هذين الاختيارين يوجد نموذج ساكن يقف بين النهضة والتقهقر بصورة اختيار فيه ”نعم” و ”لا”، وتساوي صفرا في العلاقة الجبرية. وفي ضوء هذه الاعتبارات، ندرك دور القيم الأخلاقية في نمو المجتمع حتى ناحية العمليات الاقتصادية، لأنه إذا كانت طبيعة المشاكل هي التي تحدد الاختيار لدى الاقتصاديين والسياسيين، فإنه يتم في نطاق التاريخ بإرادة الشعوب وتبعا لأوضاعها الأخلاقية، والإقلاع الاقتصادي يجب أن ينطلق من معادلة تقديم الواجبات على الحقوق، بل وتفوقها عليها. لذلك تقف اليوم الجزائر في ساعة الاختيار وحانت معها ساعة مسؤولية النخبة المثقفة في الميدان الاقتصادي ومسؤولية القادة السياسيين، فالبلدان العربية عموما هي اليوم أمام مشاكل عضوية تفرضها الحالة العالمية، فمسؤوليات النخبة المثقفة مسؤولية صعبة. بينما مالك بن نبي يرى أن الخلل في التوازن بين الجانب المادي والجانب الروحي، ومن أهم مظاهر الانحطاط والتخلف عندنا: اللافعالية. والخلل في شبكة العلاقات الاجتماعية وطغيان عالم الأشياء وعالم الأشخاص على عالم الأفكار عندنا. بالإضافة إلى القابلية للاستعمار، أي العامل المقلل الذي أدى إلى القصور في الاجتهاد الاقتصادي والتصور. وعملية البناء الاقتصادي وعلاج موضوع الخلل يمكن أن تنطلق أو تنصب على الإنسان، فهو العنصر الجوهري وبدوره يغير المحيط الاجتماعي والمحيط الاقتصادي، وتبعا لقانون التغيير الحضاري وطبقا لشروط معينة، وعلى أساس المعادلة الاجتماعية. وذلك عن طريق البناء النفسي والمجتمع وإعادة التوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي، فالإقلاع الاقتصادي للبلدان العربية اليوم هو بين الحتمية والإمكان. فمالك بن نبي حاول أن يتصور الكيفية التي من خلالها يمكن إعادة الإنسان إلى دوره تاريخي المتمثل في إقامة النهضة الاقتصادية، وذلك عن طريق التركيب بين الإنسان والموارد الطبيعية وعنصر الزمن، أي إمكانية إعادة النهضة الاقتصادية من خلال تجديد روح داخلي للمجتمع يشمل العناصر الإنسانية والمادية، وذلك من خلال تحديد نقطة الانحراف وتحديد نقطة الانطلاق، فإن نطاق التغيير الاقتصادي ينصب حول الفئات التي يمسها التغيير الاجتماعي بالدرجة الأولى: تحويل الإنسان من فرد إلى إنسان التنمية، تحويل الموارد الطبيعية من مواد خام إلى مواد قابلة للاستهلاك النهائي. الزمن في تحوله من الحالة السائبة إلى حالة الاستثمار الاجتماعي، والمجتمع في تحوله من المجتمع البدائي المتخلف إلى المجتمع المتقدم. - إنسان التنمية: يجب تكوين الفرد حتى يكون منتجا من الناحية العقلية حتى يتحقق النمو الاجتماعي، لأن مالك بن نبي كان يرى أنه ليس الوسائل المادية والإمكان المالي هي الوسائل التي تفتقدها البلدان النامية والمتخلفة فحسب لصناعة جوارب مثلا، بل إنها تفتقد أيضا للاستعداد العقلي الذي يحقق لها هذه الغاية، فلكي يحدد الرجل الجزائري وجهته يجب أن يتخلص من القابلية للاستعمار، أو بمفهوم آخر من العامل المقلل. يحدد مالك بن نبي الإنسان بوصفه عنصرا رئيسيا في عملية البناء الاقتصادي والنهوض بالمجتمع، من خلال تقديم أبعاده الكونية (البيولوجية) والاجتماعية، ويرى أن الإنسان يتكون من معادلة بيولوجية هي الصورة التي خلق عليها الإنسان، ومعادلة اجتماعية هي التي تحدد فعاليته وتحدد وضعيته من السكون إلى الحركة، حتى يكون له دوره المهم في العملية الاقتصادية، أي تحويل الفرد (من المجتمع البدائي) إلى شخص (المجتمع المتقدم)، فعملية البناء تنطلق من المعادلة الاجتماعية بهدف تكييف المحيط الاجتماعي للفرد وإعداده للقيام بدوره في ظل إفرازات الربيع العربي. وعملية البناء هذه تتم وفق تغيير نفسي للفرد، بحيث كل ما يغير النفس يغير أوضاع المجتمع، فالمجتمعات المتخلفة لديها التكديس في عالم الأشياء وعالم الأشخاص، وينقصها البعد الذي يربطها بعالم الأفكار، وبذلك ينتقل الفرد إلى وضع يمكنه من مسايرة المرحلة الراهنة، فالفرد عندنا فاقد للطاقة التي تؤهله لأي تغيير، إلا إذا تغير هو نفسه ومن جذوره الأساسية. -الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية: يقصد بالتراب كل شيء على الأرض وفي باطنها، ويعتبر هذا العنصر عنصرا من عناصر البناء الاقتصادي، إذا ما تم استغلاله لصالح المصلحة العامة وفي خدمة التنمية المتكاملة وقيمة هذا العنصر تكمن في كيفية استغلاله وتحويله من مادة خام إلى مواد مصنعة وفق الشكل الذي تتطلبه التنمية وعن طريق الفعالية في توظيفه. -استغلال عنصر الزمن: تحدد فكرة الزمن عند مالك بن نبي بمعنى التأثير والإنتاج وذلك عندما يتحول إلى ساعات عمل، فعندما يتم استغلال الوقت يتحول إلى استثمار اجتماعي، وذلك عندما يتم تحويله إلى زمن اجتماعي بحيث يدمج في جميع العمليات الصناعية والاقتصادية. ففي التجربة الألمانية مثلا نجد أن عملية التجنيد الإجباري على الشعب الألماني والتطوع يوميا ولمدة ساعتين يؤديها كل فرد زيادة على عمله اليومي وبالمجان ومن أجل الصالح العام، تحققت المعجزة الألمانية، وعادت الحياة الاقتصادية الاجتماعية التي لم يبق لديها بعد الحرب العلمية الثانية سوى العناصر الثلاثة: الإنسان، التراب وعنصر الزمن. تتفق هذه النظرة لمالك بن نبي مع مضمون الإدارة العلمية التي يعتبرها فريدريك تايلور، وهو المؤسس لها، والتي تهدف إلى تحقيق كفاية أداء العنصر البشري والإمكانيات المادية المستخدمة في الإنتاج وترتيب أدوات الإنتاج ترتيبا منطقيا عن طريق دراسة الوقت والحركة، بمعنى إنجاز العمل المطلوب في أقصر وقت وبأقل تكلفة ممكنة. -توجيه المجتمع: إن المجتمع هو نتاج لتركيب العوالم الثلاثة: الأشياء الأشخاص، الأفكار، فالعمل المشترك لهذه العوامل طبقا لنماذج أيديولوجية من عالم الأفكار ويتم تنفيذها بوسائل من عالم الأشياء ومن أجل غاية يحددها عالم الأشخاص. وفي هذه المراحل تبقى مشكلة تحضير إنسان التنمية أشق من صنع محرك، فمشكلة كل مجتمع في جوهرها مشكلة حضارة ولا يمكن لأي بلد متخلف أن يفهم أو يحل مشكلة ما لم يرتفع ويرتق بفكره إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني المجتمعات المتطورة -حضارة- أو تهدمها. وفي هذا الإطار يمكن أن نلخص شروط التغيير الاجتماعي من أجل البناء الاقتصادي فيما يلي: يرى مالك بن نبي أن عملية التغيير الاجتماعي مرتبطة بالبناء الاقتصادي وفق معادلة الاجتماعية والمعادلة الاقتصادية، لذلك عند تحديد نقطة الإقلاع الاقتصادي يجب التفكير في عناصر التغيير تفكير الكيميائي في عناصر الماء إذا ما أراد تركيبه، فهو يحلل الماء تحليلا علميا لمعرفة عناصر تركيبه ويدرس القانون الذي يركب هذه العناصر ليعطينا الماء. هكذا فإن معرفة قانون تركيب النهضة الاجتماعية والاقتصادية وكيفية تطبيق هذا القانون شرط لإحداث التغيير للواقع المتخلف، بمعنى أن العملية التغييرية يمكن أن تنصب على نطاق التغيير الاقتصادي، فإنه من أجل التخطيط لعملية التنمية يمكن أن تتجه الجهود نحو طريق واحد، لتغيير العناصر الثلاثة وإيجاد الحلول للمشكلات هذه العناصر دون تجزئة كل عنصر عن الآخر، في أن يتم ببناء الإنسان بناء متكاملا، واستغلال الموارد الطبيعية وتوظيف عنصر الزمن. هذه الشروط تبدأ بتوجيه الإنسان ومجالاته عن طريق التخطيط الدقيق، أضف إلى ذلك توجيه العمل ورأس المال. وبناء على تحديد أسباب التخلف وكيفية النهوض، يمكن أن نتساءل: من الذي يقوم بعملية البناء الاقتصادي؟ يرى مالك بن نبي أن صدق الفكرة ومدى صلاحيتها وفعاليتها والعمل على نشرها بواسطة وسيط هو الإنسان وفي وسط يسميه ”المعادلة الاجتماعية”. فالتغيير يبدأ بفكرة من الإنسان وينتهي عند النسق الاجتماعي، أما ابن خلدون فيرى أن الذين يقومون بعملية التغيير الاجتماعي بهدف البناء الاقتصادي هم الطبقة السياسية وأنظمة الحكم. فمالك بن نبي يمثل امتدادا لابن خلدون، ويرى أن الفكرة هي التي تتحرك في وسط المجموع بهدف التغيير والبناء الاقتصادي.
مدير مخبر مستقبل الاقتصاد الجزائري خارج المحروقات *