افترش آلاف المواطنين الراغبين في السفر الساحات، بينما اصطف آخرون في طوابير أمام نوافذ تسليم جوازات السفر؛ كلهم يحاول أن يصل أولا، ليتمكنوا من حجز مقعد على متن حافلة تتأهب لدخول المعبر، يتزاحمون، ضاقت بهم مساحات المعبر كما ضاقت بهم سبل الحياة. “الخبر” وقفت عن كثب على روايات من هولها تفتت الكبد في معبر رفح، وطافت في صالته الخارجية والداخلية التي امتلأت أرجاؤه باليأس والمآسي، ورسمت في كل زاوية منه حكاية ألم، فروت قصص هؤلاء. على جانب من المعبر تكدس مئات المسافرين الغزاويين على بواباته منذ ساعات الليل، في انتظار أن تشرق شمس الفرج بعد غياب طويل كادت أن تصدأ خلاله أقفال البوابة الفاصلة بين القطاع ومصر. تكدّس للمرضى وسيارات الإسعاف بزغ النور من جانبي المعبر تمام التاسعة صباحاً، وبدأت أولى الحافلات المكتظة بالعالقين، وكذلك عدد من سيارات الإسعاف، بالعبور في اتجاه الأراضي المصرية بعد سماح السلطات المصرية بفتحه للحالات الإنسانية لمدة ثلاثة أيام. حيثما ولّيت وجهك في الصالة الخارجية من المعبر يحزنك تكدس المرضى؛ هذا عجوزٌ مصابٌ بالفشل الكلوي وإلى جواره سيدةٌ قطعت إسرائيل جميع أطرافها، وفي الناحية الأخرى شابٌ أنهك السرطان جسده؛ جميعهم لم تغفر لهم أمراضهم المزمنة لدى مأمور معبر رفح بأن يدخلوا مصر “إن شاء اللّه آمنين” متى شاءوا لتلقي العلاج! وما بين عقل شارد ونظرات حائرة، وأحاديث تعارف بين من جمعهم الألم والقدر الذي رهن آمالهم وحياتهم في هذا المعبر، حاول المسافرون أن يتغلبوا على انصهار عواطفهم أمام بواباته، والتي كان قرار إغلاقها من جديد مرهونا بأي حدث أمني يحصل في سيناء، حتى وإن لم يكن للمسافرين أي ذنب فيه؛ لكنها السياسة! “رايحين نتعالج مش نتفسح”.. موتوا بمرضكم! خالد الراعي الذي بدا المرض واضحًا على جسده النحيف يستغيث الجارة المصرية: “ليطلقوا سراحي بأن أسافر، ومستعد أن أنحبس في المستشفى، وما اخرج منه، بس ما يتأخر علاجي”. كما تفاجأنا خلال الحديث مع أحد المسافرين بأن رفيقه في المرض، الذي كان من المفترض أن يكون رفيقه أيضًا في رحلة العلاج، توفي منذ يومين لعدم تمكنه من السفر لاستكمال علاجه، ليُصبح وصمة عار على وجه من يحاصر مرضى غزة. واستمرت جولة “الخبر” بين المرضى في الصالة الفلسطينية من المعبر، لتتكشف معها صعوبة الحالات المحتاجة للسفر؛ الحاجة عفاف، قالت وهي تستند إلى كتف أحد أبنائها: “واللّه أنا مش قادرة امشي خطوتين، رايحين نتعالج مش نتفسح، ارحمونا يا عالم”. على أول مقعد صادفها جلست تلتقط أنفاسًا أعلى صوتها الإرهاق، لتبعث برسالة محبة لمصر وأهلها: “إحنا وشعب مصر أخوة، ليش بيغلقوا المعبر علينا؟ ألا يكفى حصار “إسرائيل” لنا؟”؛ أسئلةٌ بسيطة في شكلها ومضمونها، إلا أن الإجابة عليها تبدو صعبة. حاجتهم للسفر أنستهم تعب الوقوف لساعات طويلة، ويحزنك الذين لم يحالفهم الحظ، حاجة فلسطينية عادت إلى محل إقامتها مجروحة حزينة، بقدر شدة مرضها تأسفت لعدم تمكنها أمس من مغادرة المعبر، أبكاني حالك يا أماه، هذه الأم الفلسطينية تنتظر إلى أن يحنّ الجار بفتح البوابة مرةً أخرى، ولسان حالها يقول: “عسى أن يكون ذلك قريبًا”. مدير المعابر: “نحن ندير أزمة لآلاف المسجلين للسفر” وعن طبيعة عمل معبر رفح، قال رئيس هيئة المعابر والحدود ماهر أبو صبحة: “لدينا 15.500 ألف مواطن فلسطيني مسجلون للسفر في كشوفات وزارة الداخلية، وأكثر من 90.000 حالة إنسانية بحاجة للسفر غير مسجلين”. وأضاف أبو صبحة، في تصريح ل«الخبر”: “عندما نتحدث عن فتح المعبر وسفر 500 شخص كل يوم في أحسن الأحوال، يعني أن 1500 مواطن سيكون من ضمنهم تنسيق مصري من 15500 سيغادرون القطاع، ويبقى 14000 من المرضى والطلاب وأصحاب الإقامات والزوجات العالقات، يكابدون المعاناة”، مضيفاً: “لذلك نحن ندير أزمة، ولا نلقى دقائق من الراحة”. وتابع: “الجانب المصري مطالب بفتح المعبر على مدار الساعة. وفتحه ثلاثة أيام خطوة جيدة، لكنها غير كافية”، مؤكداً على حق المواطنين في غزة بحرية التنقل والسفر عبر معبر رفح والتواصل مع العالم الخارجي. وقررت السلطات المصرية تمديد العمل في معبر رفح جنوب قطاع غزة ليومين إضافيين، ليستمر العمل حتى مساء الجمعة. لحظة الألم والقلق تجسدها ابتسامة وقال ماهر أبو صبحة، ل«الخبر”، إن الجانب المصري أبلغهم باستمرار عمل المعبر الخميس والجمعة الماضيين. وكشف مدير الهيئة العامة للمعابر والحدود عن وعود من السلطات المصرية بفتح معبر رفح ثلاثة أيام خلال الأسبوع. وأبدى عشرات الفلسطينيين، في حديث ل«الخبر”، قلقهم من فقدان وظائفهم وإقاماتهم في الخارج، فيما قال آخرون إنهم بحاجة للسفر سريعا لاغتنام المنح الدراسية التي وهبت لهم قبل فوات الأوان. آلاف المواطنين مسجلون لدى وزارة الداخلية الفلسطينية على قوائم السفر، وهم متلهفون للعلاج أو الإمساك بما بقي لهم من خيط حياة حيث استقروا في بلدان أخرى، توافدوا إلى المعبر منذ ساعات الفجر الأولى. الصور توثق المشهد هناك، والتاريخ يقف شاهداً على ما يمر به الفلسطينيون في قطاع غزة، والذين افترشوا حقائبهم والأرض، علَّ عقارب الساعة تخجل من حمرة جباههم التي تتصبب عرقاً، وتمشي بالوقت حتى يصلوا الجانب الآخر من المعبر. ورغم ما يمرون به من قلق وتوتر، يبقى للغزاويين بصمة خاصة للحياة، تخلق من كل انهزام وعدا بنصر جديد، ومن كل ألم ودمعة موعدا لفرح جديد، فمن المسافرين من حاول أن يجسد اللحظة بابتسامة تسرقها لقطة سيلفي من عدسة أحد الهواتف الذكية، ومنهم من وجد في مداعبة الأطفال سبيله، ومنهم من غرق في ألعاب هاتفه النقال ليبقى الصراع مع الوقت قائما، فإما يصرعهم أو يصرعونه. الحصار والحرية اقترب الوعد بالسفر خطوة، وداخل الصالة من الجانب الفلسطيني تهافت المسافرون على موظفيّ الجوازات، لختم جوزات سفرهم إيذاناً بمغادرة الأراضي الفلسطينية المحاصرة إلى العالم الواسع الذي يحيا بحرية كاملة، ويهنأ بحياة لا انقطاع للكهرباء فيها ولا ونسب مرتفعة من مادة الكلور في مياهه، ولا مبانيه مهدمة بفعل اعتداءات الاحتلال المتواصلة ولا وجود للاحتلال أصلاً هناك. سيغادرون غزة، وقد شرعوا بمغادرتها فعلاً، فهل تحملهم هذه الخطى المتثاقلة إلى العودة إليها يوماً رغم ما فيها؟ هل سيحنّون إلى الأهل والوطن والنشأة والسمر في أزقة مخيمات؟ للسرطان حكايته مع المعبر على أحرّ من الجمر تنتظر أسماء المصابة بمرض السرطان الدخول إلى الأراضي المصرية عبر معبر رفح البري، لمباشرة علاجها في إحدى المشافي المصرية. اكتشف الأطباء مرضها منذ حوالي عام بعد ظهور ورم في ساقها الأيمن، لتبدأ رحلة العلاج، وتحويلها لمعهد ناصر الطبي في مصر لتلقي العلاج المناسب هناك. تمكنت المصابة بمرض السرطان من الخضوع لإحدى عشرة جلسة كيميائية، وهي بانتظار الجلسة التي ستحدد مصيرها، على حد قولها، متمنية أن يتم فتح المعبر لتتمكن من تلقي العلاج المناسب قبل أن يستفحل المرض في جسدها. حالة أسماء لا تختلف عن الحاجة أم نضال، والتي تسند ابنتها نور على كتفها، التي أعياها السرطان ولم تعد تحتمل الوقوف على قدميها. “أم نضال”، والتي بلغت من العمر عتياً، لا مفر أمامها للهروب من معاناة السفر، فابنتها المريضة تحتاج لجرعات علاج لا مجال لتأخيرها في إحدى المستشفيات المصرية، تقول وهي ترفع يديها للسماء “اللّه بعلم بحالنا، حسبنا اللّه ونعم الوكيل في اللي كان السبب”. الحاجة الخمسينية أم نضال، وبعد أن فقدت زوجها في حادث عمل منذ سنوات، تأمل أن تسافر اليوم لعلاج ابنتها تاركةً أبناءها في بيت إحدى أخواتها، رغم صعوبة ظروفها المادية. ألم يأن ل”أم الدنيا” أن تفتح معبر رفح؟ «قف.. أمامك نقطة عبور” لوحة جلس في ظلالها المحتاجون للسفر عبر الجمهورية الشقيقة، تنوعت أصنافهم ما بين مرضى وطلاب علمٍ وأناس تقطعت بهم السبل، ولكن! عليهم جميعًا الانصياع لتعليمات تلك اللوحة بعدم التقدم ولو شبرا واحدا إلا بإذن مأمور البوابة! كلما لاحت في الأفق بارقة أمل بأن معبر رفح سيكون فاتحًا ذراعيه في وجه المحتاجين للسفر، يسارع الواقع في تكذيب أحلامهم، محطمًا آمالهم بأن يعتق رقابهم التي يمسك بها منذ شهور بل سنوات. على حافة حجر جوار بوابة معبر رفح البري جنوب القطاع، جلس ياسر يتمتم بشفتيه داعيًا اللّه أن يسهل سفره في المرة الرابعة ضمن سلسلة محاولاته للسفر، والتي في كل سابقاتها عاد أدراجه بعد رفض الجانب المصري لسفره. بالكاد نطق ياسر ببضعة كلمات في حديثه ل«الخبر”: “قلنا بعد الحرب والموت الي شفناه، يمكن يحنّ قلب إخوتنا المصريين علينا ويفتحوا النا المعبر حتى نسافر، بس للأسف خابت آمالي”. الشاب العشريني الذي أراد السفر ليكمل دراساته العليا في إحدى الدول العربية، بدت معالم اليأس ترتسم على ملامح وجهه بأن يتمكن من الوصول لجامعته في الموعد المحدد وإلا سيفقد مقعده فيها. أعراس مع وقف التنفيذ على أعتاب بوابة المعبر، يتناثر الألم على وجوه الحاضرين؛ خلال جولة “الخبر” في أروقة الصالة الخارجية للمعبر، استمعنا للعديد من المناشدات والآمال التي تعلقت في نفوس الراغبين، بل المحتاجين للسفر، علّها تصل لمن يهمه الأمر. الفتاة ناريمان تجلس رفقة أمها على أحد مقاعد الصالة، يحدوها الأمل بأن يحالفها الحظ وتخرج لملاقاة خطيبها الذي ما فتأ ينتظرها على الجانب الآخر من المعبر، ليقيما عرسهما الذي فقد جماله لتأجيله عدة مرات، حسب قولها. “عروس مع وقف التنفيذ” كما تُحب أن تُنادى تحدثت ل«الخبر” قائلةً: “أنا مخطوبة منذ 4 أشهر، حاولت أكثر من مرة أن أسافر، بس أنا لست ضمن الفئات اللي بيسمح المصريين بسفرها. وهذا حالنا كل مرة بنرجع على بيتنا”. في طرف الصالة يتعكز الحاج خالد على ابنه ليوصله للسيارة، تمهيدًا لعودته للبيت، بعد علمه بأنه- للأسف- ليس من ضمن الفئات المسموح لها بالعبور للجانب المصري. الستيني خالد حمد يعاني من مشكلة في شبكية العين تكاد أن تفتك بنظره، يقول: “أنا بدي أسافر واتعالج على حسابي الخاص، وضع عيوني ما بيسمح لي انتظر تحويلة رسمية، بس قالوا الي ما بنفع أسافر وأتعالج إلا بتحويلة”. بعد ألفي ساعة من الإغلاق.. “فلترأفوا بحالنا!” ما ذكرنا آنفًا هو زاوية من لوحة ألم تشكلت على أعتاب بوابة المعبر، فأحدهم طالب علمٍ، والأخرى تريد لمّ الشمل، والثالث يكاد يفقد حبيبتيه، وكلما تجولت تعرفت على المزيد من الآلام والآمال أيضًا، وكأنك ترى على جباههم عبارة لسان حالها يقول “فلترأف بحالنا يا معبر!”. بعد ألفي ساعة من الإغلاق.. ظهر النور من بين ثنايا البوابة لمعبر رفح البري؛ ليتمكن العالقون في الجانب المصري والفلسطيني من العودة والدخول، فيما من لم يحالفهم الحظ بانتظار فرصة أخرى للسفر، سيطول انتظارها أو قد لا تأتي! عشرات المناشدات المحلية والدولية طافت الدنيا، بينما لم تعرها “أم الدنيا” اهتماما، إلى أن قررت أخيرًا فتح معبر رفح لمدة ستة أيام متواصلة؛ أمام العالقين في كلا الاتجاهين بواقع خمس ساعات عمل يوميا. بعد العدوان.. يفقد صوته على عتبات المعبر ومن بين الحالات التي تنتظر فتح معبر رفح، التقت “الخبر” بالمصاب محمد حسنة الذي أصيب خلال العدوان الإسرائيلي على غزة بشظية في رقبته، أفقدته القدرة على النطق. ويقول والد الشاب العشريني: “بعد عدة محاولات استطعنا الحصول على تحويلة طبية إلى مصر، إلا أن إغلاق معبر رفح حرم ابني من تلقي العلاج اللازم له في المستشفيات المصرية، وآمل أن يحالفنا الحظ في العبور”. وأوضح الحاج عبد السلام أن تأخر السلطات المصرية في إعطاء التحويلة لولده، جاء بناءً على رفض وجود مرافق له في السفر، بينما لم يخف تدهور الوضع الصحي لابنه كلما تأخر إغلاق المعبر. ويبدو أن الشاب محمد سيفقد صوته نهائيا على عتبات معبر رفح، حال المئات بل الآلاف مثله من المرضى ومصابي الحرب الذين ينتظرون أن تحن عليهم الشقيقة مصر، وتدخلهم للعلاج في مستشفياتها. المرض والمعبر.. حكايات الألم مستمرة في القاعة الخارجية التي طاف بأرجائها اليأس، ورسمت في كل زاوية منها حكاية ألم، اجتمعت كلها تحت ظل سقف واحد، تلخصها تمتمات شفاه الهرم أبو حسن، الذي ينتظر بفارغ الصبر إذنًا من مأمور البوابة السمراء بعبورها. خمس وأربعون ساعة فقط، عدد ساعات عمل المعبر التي أذن الجيش المصري بها في وجه طابور طويل من الحالات الإنسانية المحتاجة للسفر، يتوسطهم أبو حسن الذي فقد كلتا قدميه بعد تفشي المرض فيهما. العجوز أبو حسن رُسمت على قسمات وجهه حكاية معاناة مزمنة؛ ألقى بحقيبته المثقلة بأدويته وآلام مرضه الذي أقعده حتى عن قضاء حاجته، ولكن كل هذا ليس كافياً كحجة لدخول مصر. ففي كل مرة يقصد المعبر يعود العجوز خالي الوفاض، بل يزداد ألمه لبعد المسافة، ويقول: “واللّه يا عالم إللي بيحصل إلنا حرام، ارحمونا!”، مؤكدًا أن معاناة الانتظار للسماح بالدخول عبر البوابة السمراء لا يمكن وصف عذابها. المسافرون على بوابة المعبر تنوعت حاجاتهم، مئات المرضى لا علاج لهم في غزة، وعشرات المنقطعين عن أهلهم، في ظل أن فتح المعبر لا يكون إلا أيام معدودات، وعلى فترات متباعدة، لتزيد من معاناة كل الفئات، ويبقى الجميع متلهفًا لسماع خبر يقول “مصر تفتح معبر رفح بشكل دائم”. ساعات ويعاد إغلاق المنفذ الوحيد لسكان القطاع، ليتحول مجددًا إلى سجن كبير ومظلم، تُعدم الحركة منه وإليه، فمطالبهم انحصرت للشقيقة مصر بأن تفتح لهم المعبر للتنقل بشكل لائق بهم كبشر.