الحجّ عبادة عظيمة تحوي الكثير من الدروس والعبر الّتي ينبغي للمسلم استيعابها والعمل بها في حياته اليومية، حيث تجتمع في هذا الركن من أركان الإسلام مختلف أنواع العبادات البدنية والمالية. وإنّ الرحلة إلى بيت الله الحرام لا تعدلها رحلة أخرى إلى أيّ بقعة من الأرض، وشوق المسلم إلى هذه الديار شوق مشبوب بالعاطفة الملتهبة، يتكرّر كلّ سنة يهفو قلبه وتهيج جوارحه إلى إعادة الحجّ مرّات ومرّات بعد أن ذاق حلاوته وتأثر واستفاد من دروسه وعبره. من أهم الدّروس والعبر المستخلصة من الحجّ، تحقيق تقوى الله عزّ وجلّ بتوحيده، فإن المسلم بأدائه هذا الركن العظيم يحقّق التّقوى الّتي أمره الله تعالى بالتزود منها بعدما نهى عباده عن فعل المعاصي والآثام وأمرهم باجتناب الرَّفث والفسوق والجدال في الحجّ، فقال سبحانه وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهَرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمُهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} البقرة:197. والتجرّد لله تعالى، فالحاج حينما يلبس لباس الإحرام ويحرم بالنسك يتجرّد من كلّ العلائق الأخرى، ويصدق التوجّه بحجّه إليه سبحانه وتعالى وهو ما يعني سلامة القصد، وانخلاع النّفس وانعتاقها من كلّ ما يحيط بها، وتخلّصها من جميع ما يأسرها ويشدها إلى الأرض، ويبدو ذلك واضحًا عندما يلبس الحاج ملابس الإحرام.. تلك الثّياب البيض أقرب ما تكون شبهًا بأكفان الموتى، والّتي ليس فيها ما اعتاده الإنسان، فيصبح منقطعًا عن أسباب الدّنيا.. إذ يترك الحاج أهله ووطنه وماله وتجارته؛ ليصفو بنفسه في آفاق علية ومكارم سنية. والحجّ يبرز الأخوة الإسلامية ويحقّق وحدة المسلمين وقوتهم، لأنّ الحجّاج من جنسيات مختلفة ولغات متعدّدة يأتون من بلاد كثيرة وبعيدة لكن يجمعهم شيء واحد هو الإسلام فيجتمعون في الحجّ وتبلغ أعدادهم ملايين الأشخاص وينتقلون من مشعر إلى مشعر في منظر مهيب ممّا يدلّل على أنّ قوّة المسلمين هي في اجتماعهم وهذا يغيظ الشّيطان كما ورد ذلك عن رسوله الله صلّى الله عليه وسلّم: “فما رئي الشّيطان أصغر ولا أحقر ولا أذلّ منه في يوم عرفة إلاّ ما رئي منه يوم بدر”. وفي هذا درس للمسلمين بأهمية الاجتماع ونبذ التفرّق والاختلاف، فإنّ الخلاف شرّ والاجتماع خير. وقد أمرنا ربّنا جلّ وعلا في كتابه الكريم بالاجتماع فقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} آل عمران:103، وقال سبحانه: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال:46. وهذا يجعلنا ندعو الله في هذه الأيّام المباركة أن يجمع شمل والمسلمين وأن يوحّد كلمتهم، وأن يقيهم النّزاعات والحروب والفتن ما ظهر منها وما بطن. إنّ عالمية الإسلام ورسالته الخالدة تبرز بوضوح والحجيج واقفون في جبل عرفات بكلّ اللّغات واللّهجات والبلدان في زيّ واحد وصعيد واحد وشعار واحد وزمان واحد، وفي الحجّ الأكبر أكبر وثيقة تكريم للإنسانية، فيها من حفظ الدّماء وصيانة الأعراض وحماية الزّوجات ما فيها.. وتبقى خطبة الوداع شاهدًا للمسلمين وعزّهم إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها. قال عليه الصّلاة والسّلام في خطبة الوداع: “أيُّها النَّاسُ، إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليْكُم حرامٌ، إلى أن تلقَوا ربَّكم كحُرمةِ يومِكم هذا، وَكحُرمةِ شَهرِكم هذا..”. وقال أيضًا: “واستوصوا بالنِّساءِ خيرًا، فإنَّهنَّ عندَكم عَوانٍ لا يملِكنَ لأنفسِهنَّ شيئًا، وإنَّكم إنَّما أخذتُموهنَّ بأمانةِ اللهِ، واستحللتُم فروجَهنَّ بِكلمةِ اللهِ، فاعقلوا أيُّها النَّاسُ قولي، فإنِّي قد بلَّغتُ وقد ترَكتُ فيكم ما إنِ اعتصمتُم بِهِ فلن تضلُّوا أبدًا، أمرًا بيِّنًا كتابَ اللهِ وسنَّةَ نبيِّهِ”. وفي الحجّ الأكبر يرتفع الأمل ويتحقّق الرّجاء بأنّ المسلمين هم صنّاع المجد، أصحاب العلم والفقه والدّين الّذي يصلح وجه الأرض، ويزيّن الدّنيا من أقصاها إلى أقصاها.. فإنّ الدّين قد تمّ، والنّعمة قد كملت “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينًا”. نعم، قد يضعف المسلمون أو يصيبهم الوهن كما هو حالهم هذه الأيّام - وقد يديل العدوّ عليهم بخيله ورجله في سنة وغفلة، لكنّه لن يغلبهم أو يقضي عليهم، فإنّ هذا الدّين منصور محفوظ بحفظ الله ما بقي اللّيل والنّهار. وإنّ الحجّ الأكبر هو مؤتمر المسلمين ورمز توحدهم وقوتهم.. شريطة أنّ نفهم أسرار وعبر ودروس الحجّ، وأن يترجم ذلك كلّه إلى عمل متواصل لإعادة الأمجاد الخالدة، والتّاريخ التّليد، والقيم الأصيلة الّتي تجعل للمسلمين عيدًا تتجدّد شمسه، وترتفع أعلامه، ويسعد رجاله ونساؤه.