الحج ركن من أركان هذا الدين الحنيف، وهو مؤتمر إسلامي عالمي يأتي إليه المسلمون من كل فج عميق شعثا غبرا تلبية للنداء الذي وجهه سيدنا إبراهيم عليه السلام بأمر ربه: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) ثم قال تعالى: ((لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)) الحج الآية 27- 28 إن المتأمل في آية الذكر الحكيم التي تحدثت عن الحج _ ليلمس أمورا ربما خفيت عن أذهان الكثيرين من الناس؛ ومن أهمها: أن ما يقوم به المسلمون من أعمال في الحج، ليست مقصودة لذاتها؛ وإنما الهدف منها ربط قلب المؤمن بالله تعالى بتقوية حاسة الذكر عنده؛ فلسانه يلهج بكل فنونه، ويتجلى ذلك بالتلبية والتهليل والتسبيح والاستغفار والدعاء والصلاة والحمد؛ وقراءة الأدعية المأثورة بكل نسك. تصفية الروح من كل ما يشوب صفاءها من جدل أو فسوق أو رفث لترتقي في مصاعد التقوى ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)) آل عمران- 197 الآية إن مناسك الحج الرئيسة من طواف وسعي ووقوف بعرفة وذبح ورمي، والتضلع من زمزم ما هي إلا شعائر تربط هذا الدين بجذوره وماضيه؛ فهي ليست بدعا، وإنما مناسك سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل وهاجر عليهم السلام: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود)ِ الآية 26 من سورة الحج. مناسك إيمانية وهذه المناسك تعمق الصلة بين الإسلام والأديان السماوية لأنها جميعا من الخالق جل جلاله، فنحن المسلمون تضرب جذورنا بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، والذي من نسله موسى وعيسى عليهما السلام؛ ولذلك فالحج باب هداية كبير وفرصة للمؤمن كي ينتظم في مسيرة كوكبة الإيمان التي رفع رايتها إبراهيم وإسماعيل ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) ((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) البقرة الآية 127- 128 إن الإيمان بالله وتوحيده، ونبذ الشرك بجميع صوره وأشكاله وميادينه في النفس البشرية وخارجها، وإسلام القلب البشري لله تعالى: هو الهدف الأكبر من وراء هذا المؤتمر العظيم (الحج) ((وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) البقرة الآية 132 إن الإسلام هو الدين الذي لم يُحرف، وحفظ الله به إرث الأنبياء، فهو مهيمن على الدين كله، والمسلمون هم حملة الرسالة التي ضيعها من سبقهم من الأمم، فعليهم أن يتمسكوا بها، ويعلنوها واضحة؛ فلعل الله أن يهدي البشرية على أيديهم. ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)) البقرة الآية 129 وعلى الرغم من أن الحج معراج روحي؛ تصعد فيه الروح في سلم نوراني من الأعمال الصالحة خالصة لله تعالى من كل ما يفسدها من أنواع الشرك دقه وجله؛ إلا أن هذه الرحلة الإيمانية لا تمنع الحاج من ممارسة أعمال التجارة والكسب الحلال؛ فالإسلام دين كامل شامل يجمع الدنيا والآخرة ويربط بينهما في نسيج واحد، والغاية الكبرى هي تحقيق التقوى والتوجه إلى الله دون سواه. مساواة إن المساواة التي تتجلى بين الحجيج في موسم الحج ليبهر مظهرها كل من يشاهدها وهي تتوجه إلى أداء المناسك تلبس لباسا واحدا، وتؤدي أعمالا لا يستثنى منها غني ولا فقير- لتعطي انطباعا لدى من يبصر هذا السيل البشري الذي ينفر من عرفات إلى مزدلفة، ثم إلى المشعر الحرام فمنى، فمكة ثم العودة لإتمام النسك _ أقول: إن هذا المشهد لن تجد له شبيها ولا مثيلا في العالم كله. الحج مهرجان تربوي كبير يربي النفس على الصبر والتحمل، والشعور بالوحدة الإسلامية، وتطهير اللسان والقلب والجوارح من أفعال وأقوال تجرح الإيمان وتنقص من درجاته، وفي الحج أرسى الإسلام قواعد حقوق الإنسان قبل أن تعرفها البشرية بمئات السنين، وتجد ذلك في خطبة حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة. وفي الحج يتجرد المسلم من كل أوحال الطين، ووشائج الأرض؛ فلا فرق بين عربي ولا أعجمي، ولا أبيض ولا أسود ولا غني ولا فقير، ولا أمير ولا مأمور؛ إلا بالتقوى والعمل الصالح؛ فيا لها من مبادئ، وما أعظمها من قيمة. الحج يذكر المسلم بيوم الحشر، وقبل ذلك باليوم الذي يجرد فيه الإنسان من ثياب الدنيا، ثم يغطى ويسجى بكفن يشبه لباس الإحرام، وها هو بعيد عن الأهل والأصدقاء والأحباب. الحج ولادة جديدة لحياة جديدة؛ فمن حج ولم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ليس الحج عبادة تحمي الذين يقعون في أعراض الناس وحرماتهم، فلا بد للحاج من يتحلل من إخوانه، و يستسمحهم قبل أن يغادر بلده متوجها إلى الديار المقدسة؛ إذ الحج لا يكفر إلا الذنوب التي بين العبد وبين الله؛ وأما حقوق العباد، فلا بد من أن ترد أو يعفو صاحبها عن أخيه. والحديث يطول عن حكم الحج وأسراره، وبالتالي سأعطي المزيد من أسرار هذه الفريضة العظيمة في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.