يطور المحتالون أساليب نصبهم، ويواكبون تحولات المجتمع بالتأقلم مع كل الوضعيات وعقليات المواطنين، واتخاذ أشكال متعددة جديدة لاستدراج ضحاياهم، وقادهم “إبداعهم”، إلى إنشاء بنوك وهمية لإغراء الأشخاص بإمكانية توظيف أموالهم وتوفر فرص استثمارها، من خلال إيداع أموالهم مقابل إمكانية الحصول على هامش ربح شريطة جلب أشخاص آخرين ينخرطون في العملية، وكسبوا ثقة الشباب بلسان فصيح ومظهر راق وسيارات فارهة، وهو ما يسيل لعاب الطامعين لتحقيق الثروات فيجدوا أنفسهم عالقين في مصيدة هؤلاء. ❊ اختلفت حالات الضحايا وتشابه مصيرهم عندما نجح المحتالون في استدراجهم بأحدث الطرق، بل منهم من ذهب برجليه نحوهم بعدما سال لعابه بفصاحة لسانهم وكفاءتهم العلمية ومغرياتهم المادية وحلم تحقيق الثروة وتوهم أنه اقترب من تحقيقه. بنوك ومصارف من “ورق” “الخبر” تطرّقت إلى قضايا مثيرة، وتقمصت دور الضحية مع أحد المحتالين في محاولة لاقتحام هذا العالم وكشف خباياه، حينها اقتربنا من شركة تونسية مختزلة في شخص او شخصين أو ثلاثة على الأكثر يمارسون نشاطا أشبه بكثير بما تقوم به البنوك، ويقبلون إيداع مبالغ مالية من طرف المواطنين مقابل إمكانية الاستفادة من مبلغ إضافي في ودائعهم، شريطة جلب أشخاص آخرين لإيداع أموالهم في نفس “البنك الوهمي” والاستفادة هم كذلك من إضافة. تقف الفتاة “م” رفقة مجموعة من أقرانها في مدخل حديقة التجارب بالعاصمة، التي أمست معقلا لتجمع أفراد الشبكة، وكانت طاولات بباحة الحديقة تعج بشباب من كلا الجنسين، منهمكين في الاستماع لأحد ممثلي الشركة وهو يشرح لهم طريقة عمل المجموعة، وكنا على مقربة منهم نستمع لشاب وسيم ذو مظهر جذاب يدعى “ف”، خفيف الروح وكثير الكلام، وبمجرد أن فاتحناه الحديث استرسل قائلا: “هل تريد أن تكون ثريا في غضون سنة، مثلما هو الحال بالنسبة لي”، ما إن تجيبه بنعم حتى يتابع حديثه مستعملا عبارات دقيقة وأسلوب الترغيب وهو يمعن البصر في عينيك حتى يجعلك تخجل من نظراته ويواصل كلامه “نحن نعرض عليك مشروعا مربحا، يغير حياتك من الحسن إلى الأحسن، ما رأيك؟. لقد ظل يتحدث بلغة التسويف لمدة فاقت النصف ساعة، ورسم أحلاما من سراب ووهم، ما دفعنا إلى الاستفسار عن المقر الرسمي للشركة التي يتكلم باسمها، فرد قائلا: “الشركة التي بدأت العمل في الجزائر منذ سنة 2013 ليس لها مقر رسمي”، رغم أنه سبق وأن قال بأن شبكتها موزعة على عدة ولايات من الوطن.
فبادرناه بسؤال ثاني، حول الطريقة التي يتم بها دفع الأموال، هل عن طريق البنك أو البريد، لنكتشف أن التعاملات التجارية بين الأفراد والشركة تقوم على أساس الثقة وبطرق عرفية خارج قواعد القانون، أما عن الكيفية التي تتقاضى بها مستحقاتك في حال ما انطلقت معهم في النشاط وبلوغك الأهداف المسطرة التي كان يتكلم عنها، رد قائلا “ الشركة تفتح لك حسابا خاصا بك على موقعها الالكتروني، ما يمكّنك من مراقبة وتفقد أموالك التي تجنيها، كمقابل جلبك لمشاركين جدد ينخرطون في العملية. هذه الشركة التونسية لا تهتم بالمقر الرسمي ولا بالكماليات الأخرى، بل هدفها الوحيد يكمن في نسج أكبر شبكة ممكنة من المنخرطين، الذين يعتبرون وقودها الأساسي في مواصلة نشاطها ذو الطابع العرفي ومن دون أي عقد رسمي أو وثيقة تثبت مشروعيته. ورغم كل هذا استطاعت من تجنيد أكثر من 50 ألف شخص في غضون سنتين، حسب ما كشف عنه الشاب “ف”. هذا الأخير كشف لنا أن الشبكة تمنح الفرصة لجميع الراغبين في استثمار أموالهم، بحيث يمكنك الانخراط معهم ابتداء من 5500 دينار جزائري إلى غاية 96 ألف د ج، وطبعا كلما استثمرت مبلغا أكبر ستجني ربحا أوفر. وفي السياق ذاته، تحدث الشباب عن وجود شركات وهمية أربابها من شتى الجنسيات، جزائرية، آسيوية ومشرقية، اتخذت من الجزائر حقلا لتجاربها الماكرة ورمت بشبكة صيدها لإمساك بالضحايا من الشباب الحالم، مثلما هو الحال بالنسبة لأحد الرعايا الفلسطينيين، الذي نصب فخه بالقرب من أولئك الأشخاص الساذجين الحالمين بالثراء وكسب المال السريع. ولم يغربل صاحب المشروع المزيف ضحاياه، بل استدرج أكبر المقاولين مثلما أوقع بأبسط مواطن قد يدفع مبلغا لا يتعدى 5 آلاف دينار جزائري، وأوهمهم جميعا (المئات) بأن الأموال التي يجمعها تسمح له باستيراد وتصدير حديد الخرسانة إلى مصر والأردن.
ومثلما كان مخططا له، عاد صاحب المشروع من جديد مفتعلا سيناريو مفبرك بأن المشروع انطلق في العمل ووزع عليهم أرباحهم لكسب ثقتهم وجعلهم يستثمرون أموالا إضافية، قبل أن يأخذ الملايير ويختفي عن الأنظار نهائيا، ليتضح فيما بعد بأن الشركة وهمية رغم حيازتها على سجل تجاري جزائري (مزور). بورصة عالمية وهمية وكانت المحكمة الإدارية لبئر مراد رايس بالعاصمة قد عالجت مؤخرا، قضية مماثلة راح ضحيتها على الأقل 66 مواطنا جزائريا من كلا الجنسين بينهم إطارات دولة، احتالت عليهم مافيا أردنية محترفة، بعد أن أوهمتهم بأنهم يملكون شركة مختصة في مؤشرات البورصة وسوق الأموال العالمية. وتعود حيثيات القضية إلى سنة 2013، وقتها رمى أولئك المحتالون بصنارة صيدهم عبر مختلف المواقع المختصة في نشر الإعلانات كموقع “وادي كنيس”، واستهدفوا مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” لإطارات وأشخاص أثرياء، من خلال تقديمهم عروض مغرية بغرض استدراجهم لاستثمار أموالهم في الشركة. وصرح أحد الضحايا في شهادته أثناء المحاكمة، بأنه دفع مبلغا ماليا مقدرا بمليار و100 مليون سنتيم جزائري، كمساهمة في رأس مال الشركة، ظنا منه أنه يقوم باستثمار أمواله في إحدى البورصات العالمية، مثلما أوهموه، وستمكنه تلك الخطوة من كسب فائدة شهرية مقدرة بنسبة 5 في المائة من المبلغ المستثمر لمدة 6 أشهر. وبالفعل أخذ الضحية يجني أرباحه الشهرية مثلما جرى الاتفاق، ما زاد من تعزيز ثقته في أصحاب الشركة المزيفين، الذين لم يتركوا الشك يساوره قط، وهو ما جعله يضخ أموالا إضافية ويعرض على معارفه الانضمام إلى الشركة، على غرار شقيقته. هذه الأخيرة بدورها استقدمت زوجها وألقيا بأموالهما في حساب تلك الشركة، بل الأكثر من ذلك دفعا كل مدخراتهما، ومنهم من لجأ لاقتراض الأموال وحتى بيع مجوهرات أفراد أسرتهم، ظنا أنهم يستثمرون في أكبر البورصات العالمية. وفجأة، في يوم من آخر أيام الأشهر الستة، يواصل الضحية سرد حيثيات القضية أمام قاضي التحقيق، “...ولدى تقدمنا إلى مكتب الشركة لسحب مستحقاتنا المالية كالمعتاد، تفاجأنا بخلو المكتب، فلا الأموال ولا أصحاب البدلات الأنيقة ولا البورصة العالمية ولا حتى طاولات المكتب أصبحت موجودة، ولم يبقى من المحل سوى هياكل خالية”، ليكتشفوا أنهم وقعوا في مصيدة النصب والاحتيال.