تتواصل فعاليات مهرجان “كان” السينمائي إلى غاية 22 ماي، وتعرف الدورة 69 تراجعا في معدل الإقبال مقارنة بالسنوات الماضية، كما تقلص تمثيل العديد من القنوات التلفزيونية الكبرى التي اعتادت نقل ومتابعةالحدث السينمائي الأبرز في العالم. وافتتحت عروض المشاركة العربية المتمثلة في تسعة أفلام من الجزائر، مصر، تونس، لبنان وفلسطين، عبر بوابة برنامج “نظرة ما” الذي ينظم على هامش المسابقة الرسمية، وكانت فرصة كبيرة وربما لن تتكرر في تاريخ 26 ممثلا من الذين شاركوا في فيلم “اشتباك” وسافروا إلى “كان”، حيث وقفوا كلهم في صف طويل على خشبة مسرح قاعة سينما “دي بي سي” لتقديم عملهم. بداية عربية لبرنامج “نظرة ما”.. أخيرا، اتضحت إلى حد كبير أسباب اختيار الفيلم المصري “اشتباك” للمخرج محمد دياب ضمن فئة “نظرة ما” لمهرجان “كان” السينمائي، هذه الفئة من البرنامج السينمائي الذي تشارك فيه 18 فيلما، اعتمدت في اختيارها للتجربة السينمائية المصرية على حركة الكاميرا وطريقة تصوير فيلم طويل كامل داخل صندوق سيارات الأمن المركزي وبها عدد من المعتقلين، تراقب الأوضاع في مصر خلال أحداث “انتفاضة الإخوان المسلمين” سنة 2013 للمطالبة باسترجاع الحكم من يد الجيش المصري بقيادة السيسي. ما ميّز طريقة الإخراج، حركة الكاميرا اليدوية، التركيز على التفاصيل الدقيقة في ملامح المواطن المصري، وكشف التنوع في الطبقات الاجتماعية، إنها ثورة الجميع على الجميع، كما يبدو الفيلم عنيفا جدا ولا يتسامح مع الشخصية المصرية. “نظرة ما” هي عدة نظرات بعيون “نجوى”، جسدت دورها الممثلة نيللي كريم، وزوجها وابنها ومجموعة من المعتقلين، منهم صحفي بجنسية مزدوجة مصرية أمريكية، ومراهقون وإخوان وبلطجية، ومنهم شباب مشتت الأحلام بلا مستقبل واضح. داخل هذه السيارة الخاصة بالترحيلات التابعة للشرطة المصرية، امتدت تفاصيل الحكاية لمدة ساعة ونصف، أراد من خلالها كاتب السيناريو خالد دياب الانتصار للحقيقة، فيما يبدو أن ملامح وملابس وطريقة الكلام هي اختزال للواقع، بينما كان الانتصار للوطن مرحلة ثانية جد متقدمة لثورة مصرية ولدت ميتة. ما عدا مشاركة الممثلة نيللي كريم والممثل طارق عبد العزيز وعضو فرقة “وسط البلد” المغني والممثل هاني عادل، يعتبر باقي الممثلين الذين شاركوا في العمل من الهواة بل منهم من يقف أمام الكاميرا لأول مرة، فقد كان واضحا أن المخرج اهتم كثيرا بإعداد كاستينغ دقيق يرتكز على شخصيات حقيقية، ويقترب من عمق كل ممثل ويربطه بفئة معينة من المجتمع المصري، فلم يكن من المطلوب من الممثلين سوى تقمص أحد الشخصيات في الشارع بملابسه وحركاته وطريقة كلامه، إنه الاقتباس الجديد الذي اعتمد عليه محمد دياب من خلال نقل الواقع إلى السينما، وهو ما جعله يقع أحيانا في “الكليشيهات” خصوصا في طريقة الحوار الذي جاء مصريا للغاية، يصعب لمن لا يعرف الواقع المصري استيعاب الرسائل وهضم بعض تفاصيل السخرية التي تكبر حالتها كلما اقتربت الكاميرا أكثر من ملامح الإخوان المسلمين. جاء الفيلم غاضبا وساخطا، ساخرا من كل ما يحمله الإخوان من أفكار وآراء وملابس، روح النكتة التي تعرف بها بلد المعز تتجسد في قول الشاعر “وكم بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء”، كل شيء يثير الضحك ويرسم الابتسامة، حتى الألم الساكن داخل كل مصري. لا تدري أي العناوين أقرب إلى القصة والواقع، “التشتت” أو “الاشتباك”، صحيح أن المخرج اختار العنوان الثاني، ولكنه منح “التشتت المصري” والخلل الاجتماعي حضورا كبيرا، تماما بالنسبة للاكتظاظ في الشوارع وازدحام المرور الذي تعرفه مدينة القاهرة. كانت المظاهرات مكتظة بين المؤيدين والمعارضين، الوصول إلى التعبير عن رأيك في مصر هو توقيع شهادة الوفاة، فالثورة جاءت متضمنة لحظات من الجنون، العنف، الرومانسية والكوميديا. أما النهاية التي جاءت مفتوحة كما اختارها المخرج للفيلم فتعكس الواقع المصري اليوم، حيث إن حوالي مليار نسمة من الشعب المصري يعيش حالة من الضياع والتشتت، ويعيش حالة من الشيزوفرينية حول الثورة المصرية، هل نجحت؟ هل حققت أهدافها؟ هل وحدت الشعب المصري؟ هل منحته القدرة على المضي نحو مستقبل واعد؟ بين تقارير الأخبار ونظرات كل أبطال الفيلم الذين عاشوا الرعب ليوم كامل في رحلتهم نحو الاعتقال، نكتشف أن وصول المصريين إلى بر الأمان لن يكون سهلا، حيث يرفع الفيلم معدل الخوف والقلق إلى أعلى مستوى تغيب فيه الطمأنينة ويصل إلى المشهد الأخير إلى حالة من الندم. هذه النظرة لا تعتبر غريبة على السينما المصرية المستقلة، إذا ما ركزنا في تاريخ كاتب النص ومخرجه محمد دياب، حتى جهة الإنتاج إلى موجة الأفلام المصرية غير التجارية والمستقلة إلى حد ما كبيرة، ممثلة تحديدا في المنتج محمد حفضي، سنصل إلى إجابة واحدة “السينما المصرية اليوم تحاول النهوض بصعوبة رغم وصولها إلى (نظرة ما)”.