ختم الله تعالى آيات فرضية الصّيام بقوله عزّ وجلّ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون} البقرة:186، فهذه اللفتة العجيبة تخاطب أعماق النّفس، وتلامس شغاف القلب، وتسرِّي عن الصّائم ما يجده من مشقّة، بالتلذُّذ بمُناجاته والوعد بإجابة دعائه وتضرّعه. تعيش الأمّة الإسلامية هذه الأيّام أفضل اللّيالي، ليالٍ تَعظُم فيها الهبات، وتنزل الرّحمات، وتقال العثرات، وترفع الدّرجات. فقد جاء عقب آيات الصّيام ذِكرُ الدّعاء {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة:186، قال بعض المفسّرين: (وفي هذه الآية إيماءٌ إلى أنّ الصّائم مرجو الإجابة، وإلى أنّ شهر رمضان مرجوة دعواته، وإلى مشروعية الدّعاء عند انتهاء كلّ يوم من رمضان)، والله تعالى يغضب إذا لم يُسأَل، قال النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: “مَن لم يَسأل الله يغضب عليه” رواه أحمد والترمذي. فالدّعاء من أجَلِّ العبادات؛ بل هو العبادة كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ذلك لأنّ فيه من ذلِّ السّؤال، وذلِّ الحاجة والافتقار لله تعالى والتضرّع له، والانكسار بين يديه، ما يظهر حقيقة العبودية لله تعالى، ولذلك كان أكرم شيء على الله تعالى كما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “ليس شيء أكرم على الله من الدّعاء” رواه الترمذي وحسّنه وابن ماجه. ويعدّ الدّعاء من أعظم أسباب دفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله، كما أنّه سبب لانشراح الصّدر وتفريج الهمّ وزوال الغمّ، وهو مفزع المظلومين وملجأ المستضعفين، وأعجز النّاس مَن عجز عن الدّعاء. بل الدّعاء هو العبادة كما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وفي ليالي العشر الأواخر المباركة تُقضَى الحوائج؛ قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} غافر:60، ومهما سأل العبد فالله يُعطيه أكثر، عن أبي سعيد رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلاّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمّا أن تعجّل له دعوته، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة، وإمّا أن يصرف عنه من السّوء مثلها. قالوا: إذًا نكثر، قال: الله أكثر” رواه أحمد. وإذا دعا العبد ربّه فربُّه أقربُ إليه من نفسه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة:186، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (في ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدّعاء متخلّلة بين أحكام الصّيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدّعاء عند إكمال العدّة؛ بل وعند كلّ فطر كما روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “إنّ للصّائم عند فطره دعوةً ما تُرَد” رواه ابن ماجه. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “يتنزّل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السّماء الدّنيا حين يبقى ثلث اللّيل الآخر فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأعطيه؟ مَن يستغفرني فأغفر له؟” رواه البخاري ومسلم. فاحرص أخي الصّائم على الدّعاء في أيّام الدّعاء، وإن كان الدّعاء في كلّ وقت؛ لكنّه في هذه الأيّام آكِدٌ؛ لشرف الزّمان، وكثرة القيام. فاجتهد في هذه الأيّام الفاضلة فلقد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يشُدّ فيها مئزره، ويُحيي ليله، ويوقظ أهله. وكان يقضيها في طاعة الله تعالى؛ إذ فيها ليلة القدر المباركة. وعلى قدر الحرقةِ والفاقةِ تكون إجابة الدّعاء، قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: كان يُقال: “أفضل الدّعاء الإلحاح على الله والتضرُّع إليه”. والله وليّ التّوفيق.