بعث رئيس الجمهورية, عبد العزيز بوتفليقة, اليوم الثلاثاء رسالة إلى الأمة بمناسبة إحياء ذكرى استرجاع الاستقلال والعيد الوطني للشباب المصادف ل5 جويلية من كل سنة. هذا ابرز ما جاء فيها: حقا, لقد أبلى الشعب الجزائري, على مدار القرون, بلاء ما فوقه من بلاء في مقاومة لا هوادة فيها لسائر الغزاة الذين ابتلي بهم تباعا و كان آخرهم المحتل الفرنسي الذي تأتى طرده بعد 132 سنة من المعاناة والآلام بفضل تلك المقاومات التي توجتها الثورة التحريرية المباركة التي نالت إكبار العالم أجمع.
ليس في هذا التذكير بالماضي أية دعوة إلى البغضاء و الكراهية حتى وإن ظل شعبنا مصرا على مطالبة مستعمر الأمس بالاعتراف بما اقترفه في حقه من شر ونكال, فرنسا التي باشرت معها الجزائر المستقلة بناء شراكة استثنائية يجب أن تكون نافعة لكلا الطرفين شراكة لن يزيدها الاعتراف بحقائق التاريخ إلا صفاء وتوثبا.
تعد الاحتفالات الوطنية كذلك محطات مواتية نقيس فيها ما قطعته البلاد من مسافة وما العيد الوطني للاستقلال والشبيبة إلا فرصة سانحة لذلك.
إن إخواننا و أخواتنا في هذا الوطن سيكونون من الشاهدين على مدى اختلاف جزائر اليوم عنها حين استرجعت استقلالها, قبل55 سنة مضت, ولم تجد وقتذاك سوى آلاف القرى المدمرة وملايين اللاجئين والمهجرين ومئات الآلاف من يتامى وأرامل الحرب فضلا عن الخراب الذي اقترفته الهمجية الإرهابية على يد منظمة الجيش السري.
وسيتذكر مواطنونا, أيضا, تلك المسيرة التنموية الجميلة التي تم خوضها قبل أربعة عقود و تميزت على الخصوص بحركة تصنيع واعدة و تجدد فلاحي وتوسع التعليم في جميع المستويات و في كافة أرجاء البلاد. تلك المرحلة, التي حدتها, بل غذتها مشاعر الاعتزاز بالوطن و على الخصوص اعتزاز الشبيبة المتجندة, تزامنت و استرجاع السيادة الوطنية على الثروات الطبيعية للبلاد والأراضي الفلاحية والمناجم والمحروقات.
كان من الممكن أن يجعل هذا المسار الواعد حقا من الجزائر وقتذاك بلدا صاعدا لولا ما تعرض له بفعل الانحسار التدريجي لسيادتنا الاقتصادية ثم بفعل المأساة الوطنية التي خلفت عشرات الآلاف من الضحايا وما جلبته من تهديدات خطيرة على بقاء الوطن.
قبل ثمانية عشر عاما, كان لي الشرف, و يا له من شرف, أن صرت دليل خطواتكم مستمدا قوتي من ثقتكم, فأعدنا بناء ما دمر و شيدنا المزيد و جعلنا بلادنا تتقدم في شتى المجالات. و كلها بني وطني الأعزاء إنجازات حققناها معا, و أذكر بعضا منها باختصار مصداقا لما أقول.
لقد سجل اقتصادنا, خلال الثماني عشرة سنة الماضية, تقدما ملموسا انعكس من خلال ارتفاع الناتج الداخلي الخام بقدر خمس مرات.
لقد سمح الإنعاش الاقتصادي هذا الذي تدعم بالإسهام الاجتماعي للدولة بإنشاء الملايين من مناصب العمل المختلفة فتراجعت نسبة البطالة التي بلغت %30 في بداية القرن هذا إلى ثلثها.
خلال تلك الفترة ذاتها استفادت الساكنة من أكثر من 3 ملايين و 500 ألف وحدة سكنية و هو ما لبى الطلب و زيادة مع العلم أنه يجري حاليا إنجاز ما يقارب مليون وحدة سكنية أخرى.
وأما الجامعة فإنها سجلت طفرة حقيقية إذ وسعت شبكة منشآتها القاعدية بحيث شملت كافة الولايات فارتفع عدد الطلبة ليصل, عما قريب, إلى مليوني طالب.
والحركية هذه تواكب حركية قطاع التربية الذي تجاوز تعداده ثمانية ملايين تلميذ بينما قاربت نسبة تمدرس الأطفال في سن السادسة 100 % .
في المجال الاجتماعي سجلت الفترة ذاتها ارتفاع الأجر الوطني الأدنى المضمون بثلاث مرات و ذلك بالتوازي مع تحسن مداخيل كافة الفئات المهنية بينما أتاحت سياسة العدالة الاجتماعية و التضامن الوطني الفعالة إنزال درجة الفقر في البلاد.
كل هذه الدينامية التي تمخضت عنها تلك النتائج الملموسة و السريعة باتت تعترضها منذ ثلاث سنوات, انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية و تداعياتها على السوق العالمية للمحروقات.
من جراء ذلك تراجعت المداخيل الخارجية للدولة إلى ثلث ما كانت عليه بين عام 2008 واليوم الأمر الذي أحدث ضغطا كبيرا على النفقات العمومية التي تظل المحرك الرئيس للاقتصاد الوطني وتحديث المنشآت القاعدية للبلاد.
في هذه الأثناء, تشهد منطقتنا ظروفا مشحونة بالتوتر و تواجدا مخيفا لبؤر الإرهاب و شبكات المتاجرة بالمخدرات, و هو ما يستدعي منا على الدوام توخي اليقظة حفاظا على سلامة ترابنا و أمن شعبنا.
على الصعيد السياسي, تميزت السنة الجارية, بانتخاب, قبل فترة من الزمن, مجلس شعبي وطني جديد سيتولى مع الحكومة الجديدة مواصلة تجسيد التحويرات الهامة الواردة في الدستور المعدل فيما يتعلق بالتعددية الديمقراطية و تعزيز دولة الحق والقانون و مواصلة ترقية حقوق الإنسان و الحريات في كافة المجالات.
في هذا السياق, ستشهد السنة الجارية تنصيب المجلس الأعلى للشباب الذي سيمكن ممثلي الأجيال الصاعدة من صياغة تصورهم لمختلف الورشات المفتوحة في البلاد. و الشأن سواء بالنسبة للمجلس الوطني الاقتصادي و الاجتماعي المجدد هذا الذي سيكون فضاء للحوار المتواصل بين الحكومة و شركائها الاقتصاديين والاجتماعيين في ظرف يتعين على الحكومة أن تواجه فيه تحديات اقتصادية و مالية جساما.
فيما يخص الحفاظ على سلامة ترابنا و أمن مواطنينا و ممتلكاتهم دعوني أجزي, باسمكم جميعا, تحية الإكبار الواجبة للجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني على ما أبلاه و يبليه من بسالة واحترافية و روح التضحية التي بفضلها وفق بالتنسيق مع مختلف المصالح الأمنية في التغلب الكاسح على آخر بقايا الفلول الإرهابية المنتشرة عبر بلادنا المترامية الأطراف.
تواجه بلادنا في المجال الاقتصادي تراجعا كبيرا في مداخليها الخارجية واختلالا في ميزان مدفوعاتها الخارجية مع أنها تحتفظ بسيادتها غير منقوصة في قرارها الاقتصادي والاجتماعي بفضل ما جمعته من احتياطات الصرف التي بدأت تتناقص.
أمام هذا الوضع الذي سيستوقف كل واحد منا, بمناسبة هذا اليوم الذي نتذكر فيه تلك التضحيات الجسام التي بذلت في سبيل استرجاع استقلالنا, أجدد ندائي إلى شعبنا الأبي وأدعوه إلى بذل المزيد من الجهود والاضطلاع بالإصلاحات الاقتصادية الضرورية بكل سيادة.
الجزائر لا تنقصها الموارد و لا المكسبات من حيث الفلاحة والسياحة والقدرات الصناعية وموارد الطاقة التقليدية منها و المتجددة على حد سواء. وهي تتمتع بشبيبة متعلمة و بسوق وطنية هامة.
فينبغي تثمير هذه الموارد و هذه المكسبات أكثر فأكثر و ذلك بإعادة الاعتبار لقيمة العمل, و تحسين مناخ النشاط الاقتصادي, و التعجيل بتنفيذ مختلف الإصلاحات الضرورية.
إن الحكومة مجندة حول هذه المهام اللازمة لتسريع التنمية الاقتصادية الوطنية و تنويع صادراتنا.
لكن هذا الالتزام يعني كل واحد و واحدة منا علما أن الرهان يتعلق بمستقبلنا الوطني وبمصير أجيالنا الصاعدة.
قبل 55 عاما خلت شهدت الجزائر انتصار ثورة عظيمة مكنتنا من استرجاع سيادتنا الوطنية, ثورة ما يزال أثرها إلى غاية اليوم محل تقدير في شتى أنحاء المعمورة.
و قبل عهد قريب, استطعتم, بني وطني الأعزاء حفظ وطنكم من الانهيار التام جراء مأساة وطنية حقيقية و وفقتم في تجاوز تلك المحنة بفضل المصالحة الوطنية التي بات العالم يتخذها اليوم مرجعا في مواجهة انتشار الإرهاب والمآسي الكثيرة المنجرة عنه.
كل هذه دلائل على مدى قدرة الشعب الجزائري على مواجهة التحديات وتحقيق المعجزات كلما تلقى نداء الوطن.
ذلكم هو نداء الوطن الذي أبلغه, في هذا المقام, إلى كل واحد و واحدة منكم, و بوجه خاص إلى شبيبتنا, من أجل مواصلة جهود إعادة البناء التي باشرناها معا منذ عقدين من الزمن.
وأشفع لكم هذا النداء بتمنياتي لكل واحد و كل واحدة منكم بموفور السعادة و الصحة في جزائر تزداد ازدهارا على الدوام".