Getty Images قد يكون تطبيق "تيك توك" الذي يعد أحد التطبيقات الأسرع انتشارا في العالم، بمثابة المبشر بعهد تكنولوجي جديد، تستلم فيه آسيا، وليس وادي السيليكون، قيادة صناعة التكنولوجيا في العالم، في ما يمكن وصفه بالنقلة التحولية الهائلة. على مدى أكثر من ثلاثة عقود، كان وادي السليكون، الذي يحتل مساحة تبلغ نحو 45 ميلا مربعا (116 كلم مربعا) يستأثر بموقع القيادة في التأثير على حياتنا بشكل عام، سواء في العمل، أو عند ممارسة الألعاب الإلكترونية، أو استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. فمواقع الإنترنت التي نتسوق عبرها، والمنصات التي تنشر الفيديوهات التي نشاهدها، والشركات التي تزودنا بالبريد الإلكتروني، جميعها تقريبا توجد مقراتها في تلك البقعة من الولاياتالمتحدة. لكن ظهور تطبيق "تيك توك"، الذي طورته شركة "بايت دانس" الصينية، كان ضربة في الصميم للتفوق الذي طالما تمتع به وادي السيليكون. ومن المتوقع أن يتمكن تطبيق "تيك توك"، مع منتجات رقمية صينية أخرى، من إعادة تشكيل مستقبل التكنولوجيا في العالم، وهو مستقبل سيتاح فيه للثقافة والاهتمامات السائدة في شنغهاي أو بكين لعب دور كبير على مستوى العالم، يفوق ما قام به خليج سان فرانسيسكو، حيث يقع وادي السيليكون، حتى الآن. وسيكون التغيير جليا بحيث لا يمكن القول إن توقعه كان ضربا من المبالغة. تقول إيلين جينغ تشاو، المحاضرة في كلية الفنون والإعلام في جامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا: "كان الحديث يدور سابقاً حول ابتكار الصين إصداراتها الخاصة من المنتجات الرقمية (الغربية)، أما في أيامنا هذه، فتحول الحديث إلى الكيفية التي تتعلم فيها منصات وسائل التواصل الاجتماعي الغربية من منصات وسائل التواصل الاجتماعي الصينية". وبالفعل، التطبيقات والمنصات والخدمات الصينية حاليا تختلف بشكل كبير عن تلك الموجودة في الغرب. صعود التكنولوجيا الصينية ويعد التطبيق الصيني الأشهر بالطبع هو "تيك توك"، الذي لديه 690 مليون مستخدم نشط حول العالم شهرياً، منهم 100 مليون مستخدم في الولاياتالمتحدة، و100 مليون آخرين في أوروبا. وعلى غرار التطبيقات الصينية الأخرى، تحرص الشركة المالكة لتطبيق "تيك توك" على التقليل من أهمية خلفيته الجغرافية وكونه منتجا صينيا بالأساس. وعن هذا الأمر يقول جيان لين، الأستاذ المساعد في جامعة خرونينغن في هولندا، وهو مؤلف عدة كتب عن منصات الصناعة والتكنولوجيا الصينية المؤثرة: "إنهم حريصون على أن يعطوا للمستخدمين في أنحاء العالم انطباعاً بأن هذه المنصات ليست صينية، وإنما عالمية" مثلها مثل باقي المنصات. ويعود سبب هذا الحرص إلى الموقف المتشدد الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واتهامه التطبيق، من دون تقديم أدلة حقيقية، بأنه يشكل خطرا على الأمن القومي الأمريكي. ومن الدول الأخرى التي تعارض تطبيق "تيك توك" أيضا الهند، التي أصدرت قرارا بحظر استخدامه في يونيو/حزيران عام 2020، وباكستان التي حظرته لمدة 10 أيام خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي. لكن حسب اعتقاد لين، فمن غير المرجح أن تنجح هذه التحديات في ثني شركات التكنولوجيا الصينية الأخرى عن السير على نهج "تيك تيك"، ويؤكد ذلك قائلا "أعتقد أن الشركات الصينية ستزداد طموحاً وقوة في السنوات القادمة". كما يتوقع لين أن ترفع هذه الشركات مستوى طموحاتها العالمية: بما أن سوق التكنولوجيا في الصين تشهد حالة من الإشباع، ومع وجود منافسة قوية، فقد ترى الشركات الصينية أن الفرص المتاحة تأتي من الأسواق الخارجية. تغيير التكنولوجيا الغربية أثبتت التطبيقات الصينية أنها، وبسبب طرق تفاعلها مع المستخدمين والخدمات التي تقدمها، بدأت بالفعل بالتأثير على المنصات الغربية، وأحد الأمثلة على ذلك هو رواج مفهوم التطبيق الشامل متعدد الاستخدامات الذي يسمى "سوبر آب". وبحسب فابيان أويهاند، مؤسس وكالة "ميني" الهولندية للتسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتي تقدم المشورة للشركات والأشخاص المؤثرين بخصوص استخدام تطبيق "تيك توك" ونسخته الصينية "دوين"، فإن "التطبيق الشامل رائج جدا في الصين، بحيث يتاح للمستخدم القيام بأشياء عديدة مختلفة بواسطة تطبيق واحد". ولربما يكون الجمع بين التواصل الاجتماعي والتجارة الإلكترونية هو الأكثر شعبية. ويقول لين "اعتاد الناس في الصين على النسخ المناسبة للاستخدام في التجارة من تطبيقات التواصل الاجتماعي والترفيه، وهم يمارسون الكثير من التجارة الإلكترونية والأعمال عبر تطبيقاتهم". وعلى سبيل المثال، يتيح "دوين" للمستخدمين في الصين شراء المنتجات من خلال التطبيق مباشرة وأثناء مشاهدتهم لمقاطع فيديو التسويق القصيرة، وقد حذا حذوه تطبيق "تيك توك" في الغرب بعد تشاركه مع منصة "شوبيفاي" للتجارة الإلكترونية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2020. والمثال الثاني هو تطبيق "وي تشات"، الذي يوصف عادة بأنه مجرد تطبيق محادثة، إلا أنه أكثر من ذلك بكثير، فهو يتضمن ميزة الدفع عبر الجوال، علاوة على كونه وسيلة للتواصل مع الأصدقاء والاطلاع على آخر أخبارهم. وتعود الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها ما يطلق عليه وصف التطبيق الشامل أو "سوبر آب" في الصين، كما تقول إيلين جينغ تشاو إلى أن "الناس يرتاحون لفكرة تنظيم كافة جوانب حياتهم بواسطة منصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات الشاملة". وتضيف: "من التبضع عن طريق الإنترنت، إلى طلب تاكسي، إلى التواصل مع الأصدقاء أو التعرف على أشخاص جدد، كل شيء يمكنك القيام به عبر تطبيق واحد". ويتطلب التطبيق الشامل تقديم المستخدم المزيد من بياناته الشخصية ليتمكن من ربط عدة أنظمة مختلفة في مكان واحد فقط، ويوفر بذلك استخداما سهلا وملائما، الأمر الذي قد لا يرتاح له الجميع. إلا أن خبراء يعتقدون أن التركيبة العمرية للمستخدمين تقف إلى جانب مطوري التطبيقات. ويقول فابيان أوبيهاند: "الأصغر سنا سيقبلون ذلك بشكل أسرع من الأجيال الأكبر، والتي تكون عادة حذرة قليلاً". ويضيف "إنهم (الأصغر سنا) يعتبرون الراحة أهم من الخصوصية". وقد بدأت الشركات الغربية تأخذ مفهوم التطبيق الشامل بالاعتبار، فمنصة فيسبوك مثلا، باشرت تقديم مزايا وخدمات مختلفة تحت مظلة واحدة، وخلال السنوات الأخيرة أضافت ميزة مشاهدة مقاطع الفيديو (فيسبوك واتش) والتسوق (فيسبوك ماركيت بليس) إلى صميم شبكتها للتواصل الاجتماعي. تطبيق إنستغرام أيضا، الذي يملكه فيسبوك، أضاف خلال الأشهر الأخيرة ميزة نشر مقاطع فيديو قصيرة للتسويق مشابهة لتلك الموجودة على "تيك توك"، تحت اسم "إنستغرام ريليس"، كما أصبح لديه ارتباط مع "شوبيفاي" بحيث يمكن لمتابعي الأشخاص المؤثرين شراء المنتجات المفضلة لديهم عبر التطبيق مباشرة. وتقول روي ما، وهي خبيرة صينية في التكنولوجيا تعمل في وادي السيلكون: "أرى أعدادا متزايدة من الشركات تحاول إضافة مزيد من الميزات إلى تطبيقاتها". وتضيف: "ربما هذا هو التحرك الأكبر والأوضح الذي يقترب قليلا من عالم التكنولوجيا الصينية". لكن، خلف الكواليس، هناك عوامل واختلافات أخرى من شأنها إحداث تغيرات مهمة على التطبيقات الجديدة. تعرّض تطبيق "تيك توك" لانتقادات بخصوص تعامله مع مقاطع الفيديو التي يظهر فيها أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة أو أصحاب الوزن الزائد، على خلفية مزاعم بأن هذه المقاطع لا تحصل على فرصتها بالعرض بسبب مظهر صانعيها، وذلك تبعاً لسياسات إداراة المحتوى التي وضعها المشرفون على التطبيق في الصين. لكن يقول التطبيق إنه منذ ذلك الحين أعاد رسم سياساته في إدارة المحتوى بحيث تلائم الذوق والثقافة في الغرب الأكثر انفتاحا والأقل خضوعا للرقابة. يقول لين: "ما نعرفه استناداً إلى تقارير إعلامية يشير إلى أن تطبيق تيك توك لديه إرشادات واضحة جدا من داخل الشركة المصنعة له بخصوص نوع المحتوى الذي يجب الترويج له، ونوع المحتوى الذي يجب حذفه أو إخفاؤه عن المستخدمين الآخرين". ومع ذلك، وعلى الرغم من تعديله لسياسة إدارة المحتوى لتتماشى مع بلد الاستخدام وهو ما يسمى بالأقلمة، فإن التحرك الاستباقي لدى تطبيق "تيك توك" ما زال شديدا مقارنة بمنصات التواصل الاجتماعي الغربية حين يتعلق الأمر بالتدخل في محتوى يرى فيه احتمال التسبب بإزعاج. ويُظهر تقرير الشفافية الصادر عن الشركة في سبتمبر/أيلول عام 2020 أن 104 ملايين مقطع فيديو تم حذفها من "تيك توك" خلال النصف الأول من العام، وقد حذف 90.3 بالمئة منها قبل أن تحظى بأي مشاهدة، في حين حذفت 96.4 بالمئة منها بواسطة التطبيق نفسه، وقبل وصول أي تنبيه بانتهاك المحتوى من قبل مستخدم آخر. ويمكن مقارنة ما سبق مع سياسات إدارة المحتوى الخاصة بتطبيق مثل يوتيوب على سبيل المثال، والذي كان يحتل مرتبة أدنى بقليل من "تيك توك" من حيث عمليات الإزالة الاستباقية لمقاطع الفيديو، إلى أن أجبرته جائحة فيروس كورونا على الاعتماد بشكل أكبر على إدارة المحتوى آلياً بدلاً من التدخل البشري. وأظهرت أحدث البيانات المتوفرة لتطبيق يوتيوب، وهي الخاصة بالأشهر الثلاثة من أبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران من عام 2020، أن 95 بالمئة من مقاطع الفيديو المحذوفة أزيلت عن طريق "الإبلاغ الآلي"، وأن 42 بالمئة منها فقط حُذفت قبل أن تحظى بأي مشاهدة. اقتراحات خوارزمية النقطة الأخرى التي تظهر فيها تأثيرات منصات وسائل التواصل الاجتماعي الصينية على المنصات الغربية هي كيفية تقديم المعلومات وفلترتها. في حين أن فيسبوك وتويتر يقترحان عليك منشورات بناء على ما ينشره أصدقاؤك ويشاركوه على "آخر الأخبار" (نيوز فييد)، فإن "تيك توك" والتطبيقات الصينية الأخرى المشابهة له، تحاول أن تعرف عنك أكبر قدر ممكن من المعلومات، ثم توجه إليك المحتوى الذي تعتقد أنه سيعجبك. ويقول أوينهاند: "في الصين، ترى ظهور الكثير من المنصات المختلفة الجديدة التي تركز بشكل أكبر على الاستكشاف، ويوجد الكثير مما يكتشف في دائرتك الاجتماعية". ويعتمد النموذج الصيني على فهم نوعية اهتمامتنا وما نفضله بناء على السلوك السابق تجاه مقاطع الفيديو التي شاهدناها، بدلاً من افتراض نوعية اهتماماتنا بناء على الأشخاص الذين نتفاعل معهم أو عبر عمليات البحث السابقة التي قمنا بها. والفرق بين الأسلوبين مهم ويؤثر بطريقة استهلاكنا للمعلومات ويغير اقتصاديات منشئي المحتوى. وبموجب النموذج الصيني الخوارزمي للاستكشافات والاقتراحات، يكون المستخدمون أقل ارتباطا بمنشئي المحتوى من الأفراد المؤثرين الذين يتابعونهم عادة على مواقع مثل يوتيوب، وهم أشخاص لديهم عدد كبير من المتابعين، وأصبحوا مشاهير بسبب قدرتهم على بناء قاعدة جماهيرية مخلصة. لكن على "تيك توك"، يمكن لأي شخص أن يصبح نجما بين عشية وضحاها بسبب مقطع فيديو واحد يثبت شعبيته بالنسبة للآلية الخوارزمية التي يعتمدها التطبيق. لكن يمكن لهذه الشهرة أن تختفي بالسرعة نفسها تقريبا عندما يأتي دور عرض الفيديو التالي الذي يحقق مواصفات النجاح وفق التطبيق. ونظراً إلى الشعبية الكبيرة التي تحظى بها مثل هذه الاستراتيجية والمعتمدة من قبل "تيك توك"، فيمكن اعتبارها مؤشرا إلى تغيير أوسع سيشمل منصات التواصل الاجتماعي الأخرى أيضا. مستقبل التكنولوجيا إذا واصلت الشركات الصينية لعب دورها، واستمر تأثيرها التكنولوجي يتزايد باضطراد، فإن عالم الإنترنت سيبدو مختلفا تماما عما نعرفه اليوم مع حلول عام 2030. وهو أولاً، سيكون أكثر تنوعا بكثير من معايير وادي السيليكون، التي ما زالت الآن حاضرة إلى حد كبير. وفي حين أن التطبيقات الصينية هي الأشهر في الوقت الحالي، فإن هذا يمكن أن يتغير أيضاً. وتقول تشاو: "إنها ليست شركات صينية فحسب، بل شركات أخرى في آسيا، وقد ترغب هذه الشركات الإقليمية العملاقة في الحصول على قطعة من كعكعة السوق العالمية. نحن نشهد منافسة بين فيسبوك وغوغل للفوز بقطعة من كعكعكة السوق الآسيوية، لكن في الوقت نفسه فإن الشركات الآسيوية المحلية العملاقة تدخل السوق الأمريكية أيضا". كما يمكن أيضا أن نرى تطبيقات تركز بدرجة كبيرة على الأقلمة وتجري تعديلات لتكون ملائمة لشروط بلد الاستخدام، وهو شيء رأيناه بالفعل مع تطبيق تيك توك. وتؤكد تشاو الفكرة قائلة: "إذا كنت ترغب في أن تكون شركة عالمية، هذا يعني أن تقدم خدماتك لمستهلكين مختلفين بأذواق وثقافات مختلفة". كما سنرى منتجات غربية تتبنى استراتيجيات أو خدمات ناجحة من الصين، وبقية آسيا. ويقول أويهاند: "هذا هو الموضع الذي سيقوم فيه الغرب بالكثير من التقليد، أي ما يتعلق بالوظائف وتوسيع تطبيقاتهم الخاصة بحيث يمكنها القيام بالمزيد". لا بد أن مستقبل التكنولوجيا في العقد المقبل سيكون أقل شبهاً بكثير بالمثل الأعلى الذي وضعه وادي السيليكون، واعتدنا عليه خلال العشرين عاما الماضية. لكن يبدو أن التطور سيحدث على الأرجح وفق خطوات صغيرة وتأثيرات طفيفة، كما يتضح من الطريقة التي يختلف بها تطبيق "تيك توك" عن نظيره الصيني "دوين"، وكما تشير التغيرات البطيئة التي تحدث في النسخة الصينية من التطبيق، والتي تشق طريقها إلى النسخة الغربية. في النهاية، هذه هي الطريقة التي يسير بها العالم المعولم، كما تقول تشاو، التي تفسر ذلك قائلة "إن هذا مثال على التلقيح المتبادل. القيام بأعمال تجارية يتطلب دائما أن يكون كلا منا مصدر إلهام للآخر". يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Future &