تتحدث الدكتورة آمنة بلعلى، في هذا الحوار مع "الخبر"، عن قراءتها لرواية "أنا وحاييم" للرّوائي الحبيب السايح. وتقف عند مسائل التطبيع والتعايش، وكيف برزت في الفضاء الرّوائي العربي والجزائري وفي رواية "أنا وحاييم"، عقب النقاش والجدل الذي أثارته الرّواية مؤخرا، بعد أن فتحت "الخبر" النقاش حول الموضوع. هل يمكن التسليم أنّ الهرولة مجددا نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني أدى إلى تقديم قراءات تُدرج رواية "أنا وحاييم" ضمن "روايات التطبيع" عبر إبراز مظاهر التعايش التاريخية مع اليهود، أم أنّ القراءات المتأثرة بالإيديولوجيا هي التي تقف وراء هذه النظرة؟ مبدئيا يمكن القول لا هذا ولا ذاك، لأن التطبيع قد بدأ مع السادات سنة 1979، ومنذ ذلك الوقت والروائيون العرب والجزائريون يكتبون عن اليهودي وصورة اليهودي ماثلة أمام أعين القراء، دون أن يتم ربطها بقضية التطبيع، ربما ارتبطت عند كثير منهم بفكرة التعايش، وبمحاولة استعادة الصورة المثالية التي كانت تتعايش فيها كل الأجناس والديانات في الحضارة الإسلامية، والفكرة لدى البعض تعبير عن تطلع إلى مجتمع مثالي يقوم على التسامح وعدم الإقصاء، ومن حق كل روائي أن يتصور ذلك، مادام الأدب هو فن الممكن، غير أن ما سمي بالهرولة الأخيرة للتطبيع فتح المجال لعدة تأويلات، تعلق بعضها بالصورة التي يتمثل بها الرّوائي شخصية اليهودي في الرّواية، وبعضها الآخر بالتخوف من فكرة التطبيع، نتيجة الطريقة التي تدفع فيها الحكومات العربية كرها وطوعا على الاعتراف بالهزيمة، وفي هذه الحالة لا علاقة لها بالتعايش الذي هو ظاهرة تفرضها حركة التاريخ ذاتها ولا علاقة لها بالقرارات السياسية. وأعتقد أنّ المقال الذي كتبته قبل هذه الهرولة عن رواية "أنا وحاييم" التي كتبت أيضا قبلها، لم يكونا سببا في أي رد فعل من القراء، لأن ردود أفعال القراء سجّلت في حينها هنا وهناك في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، عن رواية "أنا وحاييم" سواء قبل التطبيع أو بعده، وهذا راجع في اعتقادي إلى وقع العنوان، واسم حاييم ذاته الوارد في عنوان الرّواية في نفوس القراء، فلو كان الاسم مثلا داوود أو يعقوب وغيرها من الأسماء المشتركة بين المسلمين واليهود لما أثارت هذا الخلاف أو الجدل، والدليل في ذلك أن موضوع اليهودي وفكرة التعايش وجدت في الرّواية الجزائرية قبل السايح، ما يعني أن هناك مواقف أخرى قد تكون شخصية وقد تكون إيديولوجية طبعت قراءة الرّواية وأثارت هذا الخلاف. أما القراءة الإيديولوجية فهي أيضا ليست جديدة، فقد مورست إسقاطاتها في الدراسات السياقية كلها نفسية واجتماعية، والنقد الثقافي اليوم قد يمرر هذا النوع من القراءة الإيديولوجية أو الذّاتية التي لا أعتقد أن القراءة النقدية خلت أو تخلو منها في يوم ما مثلما لا تخلو فيه النصوص من الموقف الإيديولوجي.
ألا تعتقدين أنّ حديثك عن وجود أنساق مُضمرة في الرّواية جعلت بعض النقاد يستعملون هذه الفكرة ضد الرّواية للتهجم عليها، ما حملك لكتابة توضيح عبر صفحتك على موقع "فايسبوك"؟ الأنساق المضمرة مفهوم محايد، إذا اعتبرنا أن النصوص الأدبية، أصلا، تقوم على الإضمار، لارتباطها بالرؤية المجازية للواقع وللأحداث التي ترتبط بفلسفة الكتابة الأدبية، ولا أدعي أنني صاحبة المفهوم كي أدافع عنه، وإنما هو من المفاهيم النقدية التي ارتبطت بتطور رؤيتي النقدية التي توجهها طبيعة النص، في كل مرة. أما ما اعتبرته هجوما من ناقد معيّن على الكاتب، فلم يثرها مقالي ولا تصريحي في صفحتي على الفايسبوك، لأن الجدل بين الحبيبين هو الذي نبّهني إلى القضية التي تهمّني أنا، وهي مسألة تغييب اسمي وعنوان مقالي في مقال حبيب مونسي، وهو ما اعتبرته نوعا من عدم الأمانة العلمية، لأن الاقتباسات واضحة وموضوعة بين ظفرين، ولم تكن الإشارة إلى المقال أو إلى صاحبته لتؤثر على طبيعة المقال التي ادّعى الناقد أنها لا تسمح بذلك، فالذي كان يعنيني هو قضية ترتبط بأخلاق البحث العلمي أساسا، أما أن يكون مقالي هو الذي دفع بهذا الخلاف إلى الواجهة، فلا أستطيع أن أجزم به، ولست مسؤولة عن استغلاله لهذا الأمر أو ذلك.
لماذا تعمّد الحبيب السايح وضع تبعية "حاييم" لأرسلان السارد، منذ عنوان الرّواية "أنا (أرسلان) ثم حاييم"؟ هذا سؤال متعلّق بصاحب الرواية، ولست أدري إن تعمّد ذلك أو أن الأمر جاء عفويا، وسواء كان هذا أو ذاك، فالأنساق المضمرة تشتغل على هذه المسافة بين الوعي واللاوعي وبما يسمح به فضاء الرواية، وأي تأويل واستظهار لما نعتقده نسقا مضمرا ينبغي أن يكون في النص ما يدل عليه ويسمح بالتعبير عنه، وإلا أصبح مجرد إسقاط، فنحن كقراء للنص، نكون في البداية أمام بنية لغوية، ينبغي في مرحلة أولى أن نرفع اللبس عن مفاصلها، وفي سياقها النصي، ثم نحاول استرجاع السياق بمفهومه الواسع، سواء ما تعلق بموضوع النص أو بظروف إنتاجه أو بالخلفية التاريخية التي انطلق منها الروائي وما يشترك فيها مع الناقد، وحينها سيكون منطقيا ومن خلال عمليات استدلالية أن يقوم الناقد بتأويل النص استنادا إلى معطيات السياق الخارجي لفهم الأنساق المضمرة التي تشتغل داخل النص، والتي تكون قد تسربت إلى الروائي دون وعي أو بوعي منه إلى نصه، ولذلك قد يتفاجأ الروائي أحيانا من تأويل الناقد وربما قد لا يعجبه التخريج، ولكن العمل الإبداعي حين يقدم إلى القراء يصبح ملكا لهم، وينبغي للمؤلف ألا يحاكم القارئ مثلما ينبغي للقارئ أيضا ألا يحاكم صاحب النص، حتى وإن امتلك الحق في تأويل النص الذي لا ينتهي.
ما معنى أن يتكفل أرسلان بسرد حكاية حاييم اليهودي؟ هل معنى هذا خضوع تام من قبل الروائي لفكرة الذمة التي تتحدثين عنها في قراءتك للرواية؟ من منطلق قراءتي للنص، بدا لي أن أرسلان قد رافع من أجل حاييم، حقيقة، وخاصة عندما أوكلت إليه عملية السرد، وهي استراتيجية في الكتابة من اختيار الكاتب وليس للقارئ الحق في مطالبة الروائي بجعل حاييم هو من يتكلم أو يسرد أو أن يصوغ العنوان ب"حاييم وأنا" مثلا لأنه سوف يؤول تأويلا آخر، يتجه مباشرة إلى فكرة التطبيع. الروائي اختار هذه الاستراتيجية لاعتبارات يعلمها، وربما أسمح لنفسي بأن أقول مثلا بأن وجدان الحبيب السايح لم يكن ليسمح بجعل حاييم هو صاحب السلطة الخطابية، أو أن إيديولوجيته التي تتوافق مع إيديولوجية أرسلان هي التي جعلته صاحب هذه السلطة، فبدا وكأنه أراد أن ينصف حاييم، ولكن بطريقة من ينصفه عبدا لا كإنسان جزائري على الحقيقة، وإلا أعطاه الحق في قيادة السرد، لأن هناك علاقة وطيدة بين اللغة والكينونة، ومن يمتلك اللغة والكلام يمتلك الانتماء والوجود ويمتلك أيضا التأويل ومن يمتلك التأويل، يمتلك السلطة. الوجود الهش لحاييم كما تراءى لي، هو الذي جعلني أراه ذميا انطلاقا من خلفية وجدانية ارتبطت بتصورنا كجزائريين لليهودي والصورة التي تم تكريسها في وجداننا عنه وما أمدّنا به التاريخ عنه، ونحن لم نره ولم نعايشه، ولكننا نرى أفعاله فيما يقوم به في فلسطين، وفي كل الأحوال، فالروائي اختار الاستراتيجية التي تحقق له رؤيته، وهو حر في ذلك بالتأكيد.
يشعر قارئ الرّواية أنّ هناك تناقضا في تصرفات أرسلان، فهو يساري يتعامل مع التاريخ تعاملا يقوم على البعد الاجتماعي للثورة ويبتعد عن التصورات الدينية كما ورد في مقالك، لكنه يتعامل مع حاييم تعاملا دينيا حين يعتبره من أهل الذمة، هل هو تناقض الرّوائي، أم تناقض شخصيته؟ لا أعتقد أن الروائي اعتبر حاييم من أهل الذمة، ولا أعتقد أنه فكر في ذلك من الأساس، بل هي الرواية حين تكون لها مقاصدها الخاصة بها وحين تتمرد على صانعها، فتمرر أنساقا مضمرة قد لا ينتبه إليها الكاتب، وما جعلني أراه في صورة الذمي، يختلف عما يراه به أرسلان؛ لأننا لا يمكن أن نتصور أن أرسلان الشيوعي يؤمن بفكرة الذمّية أصلا، لأنها تتناقض وموقفه الإيديولوجي والسياسي الذي يشترك فيه مع حاييم. ولعل فكرة الذمية في ذاتها هي التي دغدغت وجدان الأستاذ مونسي، فأعجب بالمقال واستلهم أفكاره دون أن يشير إليه. وأعتقد أن فكرة الذمية نفسها، ليست هي ما أثار استياء الروائي وهو يقرأ مقال مونسي إنما هي أنساق مضمرة تسيّر علاقات المثقفين الجزائريين وترتبط أساسا بطبيعة تصورهم للمسألة الثقافية، وللعلاقة بين المثقفين ومدى تأثير الإيديولوجيا في هذه العلاقة.
هل موت حاييم بعد تغييبه من قبل الروائي وتهميش أرسلان اليساري بعد الاستقلال، يعني أن فشل المشروع الوطني بدأ بتهميش المُختلف ورفض الهوية المنفتحة، ثم بتهميش النخب المثقفة؟ موت حاييم كان النهاية الطبيعية التي آل إليها مصيره، فلم يصنع له الروائي أسباب البقاء، بعد هجرة اليهود إلى فرنساوفلسطين بما فيهم حبيبته، وعدم تمكينه من الانسجام بتأسيس أسرة تؤكد وجوده وبقاء ذكره بعد موته، أما إقصاء أرسلان بعد الاستقلال من أي دور، في اعتقادي فهو تذكير بإقصاء التيار الشيوعي الجزائري من تشكيل الدولة الجزائرية بعد الاستقلال، ولا يمكن الجزم بأن إقصاءه هو إقصاء للنخبة المثقفة قاطبة، لأن أرسلان ليس سوى ممثلا لتيار واحد منا لنخبة المثقفة التي تتشكل من اليسار واليمين والوسط، وهو ما عملت جبهة التحرير الوطني على تمثيله قبل أن تنفض من حولها أطياف كان لديها تصورها الخاص للدولة الجزائرية، ففضّلت الانخراط في المعارضة، في حين بقيت أطراف أخرى، وقبلت بشروط التعايش الحزبي وحاولت إنجاح المشروع الوطني، لكن موجات أخرى داخلية وخارجية منها عدم توافق النخبة الجزائرية ذاتها هو الذي حال دون تحقيقه.
ورد في دراستك أن الحبيب السّايح يكتب في ظل هذا النسق الفكري الجديد الذي يهيمن على الثقافة العربية، وهو الاتجاه نحو التعايش، هل فعل ذلك لاستعادة الهوية في تعددها أم هناك أفكار مضمرة أخرى هنا؟ لا ننكر أنّ الرّوائي شأنه شأن باقي المثقفين يكتب انطلاقا من رؤيته الخاصة ومن فلسفته في الكتابة، لكن تلك الرؤية وتلك الفلسفة تسيّرها حركة التاريخ والتحولات السوسيو ثقافية، وقد يجد الروائي نفسه في مرحلة ما أمام إكراهات تفرض عليه الانخراط طوعا أو كرها في نتائج تلك التحولات وتفرض عليه إعادة الاعتبار في تمثلاته، واستراتيجياته في الكتابة. إن موجّهات الثقافة العالمية وانعكاساتها على المثقف العربي، بيّنة المعالم، وهي التي فرضت على بعض المثقفين الاصطفاف في توجه فكري معين، ولا شك أن القيم الجديدة التي تدعو إلى التعايش والتسامح وقبول الآخر، ونبذ العنصرية وغيرها من القيم النبيلة التي مكنت الروائيين من خلق آفاق إبداعية ورسم صور مخيالية مغايرة واستدعاء نماذج كانت مهمشة، وهويات بائدة، وإعادة قراءة التاريخ الرسمي وغير ذلك. وأن يكتب الروائي في ظل التعايش ومن أجل التعايش مطلب ديمقراطي وأخلاقي جدير بالاهتمام، وانتباه الروائي إلى هذه الفكرة في ذاتها جزء من التفكير في المسألة الثقافية والإسهام الإيجابي فيها ليست باعتبارها قضية تقنية أو نزوعا نحو التجريب فحسب، إنما هي فكرة إنسانية تعني أن نتعاون من أجل حل مشاكلنا، لكي نعيش معا في سلام، ويخطئ من يقرن بين التعايش والتطبيع الذي هو إكراه على العيش كما يريد طرف معين وهو كما يحصل الآن من الأنظمة العربية نوع من الإكراه على الاعتراف بالهزيمة الذي تمارسه إسرائيل. أما الأنساق المضمرة الأخرى، فالنص بقدر أنساقه الظاهرة يحمل أنساقا مضمرة، ترتبط أساسا بالجهد الذي يبذله القراء في عملية التأويل فكلما كان الجهد أكبر أسفرت الأنساق عن نفسها، ويكتفي القارئ الذي لا يبذل جهدا، بما يقوله النص، ويصرف ذهنه عن البعد الاستعاري للغة، والرواية يمكن عدها استعارة كبرى تشي بمقاصد تداولية شتى، لقد وظف مجموعة من الروائيين صورة اليهودي من الخليج إلى المحيط، غير أن التمثل الاستعاري لليهودي في رواية يفرض على القارئ تأويلا مغايرا عنه في الرواية الأخرى، فحميد عبد القادر في رواية "توابل المدينة" مثلا، ارتبطت صورة اليهودي لديه بحديثه عن تهميش البرجوازية الجزائرية، ومصير اليهودي الذي قتله صديقة المسلم في رواية "الخلان" لأمين الزاوي له علاقة بموضوعة الإرهاب وهكذا تختلف صورة اليهودي من رواية إلى أخرى. وهذا التمثل ينسحب على صورة المثقف والسياسي والمتدين والفقير المهمش، ولذلك ففكرة التعايش ليست تيمة تفرض وجود اليهودي كشخصية في الرواية بالضرورة، بل تقتضيها كل حالة يفتقد فيها التعايش كعلاقة الجزائريين فيما بينهم، من أجل أن يمارسوا العيش معا بسلام، وأن يقبلوا اختلافاتهم وتعددهم ويتعايشوا بما يجمعهم، ذلك أن هناك أشياء كثيرة تجمعنا كجزائريين، وإن اختلفت القناعات والرؤى التي ينبغي أن نحافظ عليها، لا أن نحاسب بعضنا بها وعليها ولا أن نجبر بعضنا على تغييرها، ولكن حين تهيمن الإيديولوجيا القاتلة يختفي كل أمل في التواصل والحوار، ولعل هذا ما نلاحظه من خلال ما أثارته رواية "أنا وحاييم"، التي كان فيها الحبيب السايح حرا في كتابتها والتعبير عن رؤيته، واختيار شخصياته بما ينسجم مع قناعاته، ولكن لكل قارئ الحق أيضا في التعبير عن وجهة نظره في الرواية وقراءتها بالطريقة التي يراها تناسب أيضا قناعاته، دون أن يفكر في إمكانية أن يعمد الروائي إلى حجب حريته في تأويلها. وحين نصل إلى هذه المعادلة سوف لن يفكر الروائي في حجب الحرية عن الناقد، بعد أن منحها لنفسه، ولا أن يفكر الناقد في محاكمة الكاتب.