تستعر المعارك في السودان بين قوات الجيش النظامي بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع شبه العسكرية بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بحمديتي، ومع دخول الاقتتال يومه الثالث، اتسعت رقعة المعارك وزادت حدتها وزادت معها ضبابية المشهد بفعل البيانات المتناقضة التي يصدرها طرفي النزاع، لكن الشرخ الذي يحفر في السودان والدماء التي تسيل لمصلحة من؟، هل للشعب والدولة السودانية، أم لصالح أشخاص اختلوا الدولة في شخوصهم. ما يعيشه السودان اليوم ما هو إلا نتيجة تراكمات بعضها يعود لمرحلة لما قبل سقوط نظام البشير، وأخرى مرتبطة بالمسارات التي عرفتها السودان ما بعد سقوط نظام البشير ونفق المرحلة الانتقالية المترنحة التي أوصلت السودان إلى ما هي عليه اليوم. ومنذ انقلاب أكتوبر 2021، يدير مجلس السيادة الحكم في السودان، يسيطر عليه قائدان عسكريان هما عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة ويشغل منصب رئيس المجلس وفي الجهة المقابلة نائبه قائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي. وانطلقت في 8 يناير 2023، عملية سياسية بين الموقّعين على "الاتفاق الإطاري" في 5 ديسمبر 2022، وهم مجلس السيادة العسكري الحاكم وقوى مدنية أبرزها "الحرية والتغيير المجلس المركزي"، بهدف التوصل إلى اتفاق يحل الأزمة السياسية. وتهدف العملية معالجة أزمة ممتدة منذ 25 أكتوبر 2021، حين فرض قائد الجيش عبد الفتاح البرهان إجراءات استثنائية، منها حل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين وإعلان حالة الطوارئ. وأثّرت خلافات الجيش وقوات الدعم السريع على توقيع الاتفاق النهائي للعملية السياسية في السودان، الذي كان مقررا في 5 أفريل الجاري، قبل إرجائه "إلى أجل غير مسمى"، ويعود مكمن الخلاف إلى تباين المواقف بين الجيش والدعم الريع حول أجندة دمج الأخيرة في صفوف الجيش، وفي الحقيقة، فإن حميدتي لا يرى نفسه منخرطا في أي هيئة نظامية، خاصة وأنه منذ إنشاء قواته في 2013 من طرف الرئيس المخلوع، عمر البشير، لم ينتسب لأي إطار نظامي ولم تحكم جهازه أية قوانين. ويرى الدكتور حسن أبو طالب، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، أن قوات دقلو "لا تلتزم بالضوابط التي تنظم عمل القوات المسلحة، ولديها حرية حركة ومقرات كبيرة منتشرة فى ربوع السودان دون أى رقابة، وهى استقلالية تعفيها من الخضوع للقوانين على نقيض القوات النظامية". مشيرا في مقال له أن هذه القوات "تُثار بشأنها تساؤلات عديدة حول مصادر تسليحها وتمويلها الملفوفة بالغموض والأقاويل، لاسيما ما يتعلق بسيطرة دقلو وأسرته على مناجم الذهب في دارفور". ويرجّح الدكتور حسن بوطالب، أن "عملية الدمج في القوات النظامية والتى هى مكوّن مهم ورئيسي فى أى عملية سياسية، تنقل السودان إلى حكم مدني دستوري كانت تسبّب لدى عناصر تلك القوات حساسية كبرى، لاسيما لدى قادتها الكبار"، الذين ينظرون "إلى الدمج النظامى أسلوبا ينزع عنهم كل الامتيازات التى يتمتعون بها، لا سيما التأثير المباشر الخفي والظاهر في الشأن السياسى العام في السودان ككل"، ويضع عليهم "قيودا ومسؤوليات ليسوا معتادين عليها، كما يقيّد حضورهم الطاغي في الاقتصاد السودانى، لا سيما مناجم الذهب التى تمثّل عاملاً رئيسياً فى الثراء الكبير لقيادة الدعم السريع، بالرغم من الأوضاع المعقّدة للاقتصاد السودانى ككل". والظاهر أن قوات الدعم السريع المشكّلة أيضا من عناصر غير سودانية، لم يكن مرحّبا بها في أوساط الجيش، خاصة وأن دمجها يدفع نحو ظهور إشكالات تتعلق بالولاء وأيضا في الانضباط. وإلى جانب كل هذه التفاصيل، فإن دقلو غير متقبّل فكرة أن يقود الجيش الذي ينضوي تحت لوائه عناصر الدعم السريع، شخصية مدنية واقترح أن يكون رئيس الوزراء، وهي الفكرة التي رفضها البرهان بشكل قاطع. ارتفاع منسوب الاحتقان بين البرهان ونائبه في مجلس السيادة دقلو، ساهم بشكل مباشر في تفجّر الوضع والانتقال من حرب التصريحات بين الرجلين إلى حرب مسلحة على الأرض تتسع رقعتها منذ يوم السبت الماضي، وترتفع معها أعداد القتلى من السودانيين. الوضع الذي وصلت إليه السودان خطير وخطير جدا لأنه مس وحدة المؤسسة العسكرية وجعل الجيش النظامي في صراع مسلح مع قوات شبه عسكرية، وبحكم أن الصراع تحركه طموحات سياسية وتغذّيه تدخلات أجنبية، فإنه من الصعب أن يجنح إلى الحل السلمي وعقدة الهزيمة ستجعل كل طرف يتمسك ببندقيته إلى آخر رصاصة ممكن، الأمر الذي يفتح الباب أمام حرب مفتوحة في الزمان والمكان شظاياها ستعصف بسلامة ووحدة الشعب السوداني وبدول المنطقة، وتجنيب السودان هذا السيناريو يحتاج إلى وطنيين في السودان وإلى حزم دولي بالضغط على طرفي النزاع، وإن كانت الإرادة الدولية ستصدم والأجندات الدولية والإقليمية التي قسّمت السودان وتسعى اليوم لتفجيره من أجل السيطرة على موارده.