عيب الإنسان الأكبر أنه لا يعرف قيمة ما يملكه حتى يفقده.. كل تلك السطورالتي ابدعت في مدحه وبكت حبرا في نعيه وأسرجت الكلمات واجتهدت في تزيين القوافي تخليد لروحه،... لم تستطع أن تفي الراحل حقه... هو الذي أدرك سر ترويض الكلام وتحويله الى رصاص يصيب في المقتل، ليس في حاجة لمن يقول فيه كلاما، لأن ما خلفه من سطور فاقت كل ما قيل وما يمكن أن يقال درويش عاش أيامه الأخيرة مودعا لمن يحب، هذا ما أكده أحد أصدقاءه المقربين على أن الراحل كثف زيارته لأراضي 48 والتقى أصدقاءه القدامى في الشهور الأخيرة بغية الوداع الأخير، وكشف عن قصائد لم تنشد بعد. وأوضح المحامي جواد بولس الذي رافق الراحل في رحلته الأخيرة لأراضي 48 قبيل سفره للولايات المتحدة للعلاج أن من تداول قضية المرض مع محمود عرف خطورة العملية الجراحية، وأشار إلى أنه كان بين نارين فالعمليةالجراحية خطيرة لكن التنازل عنها يعني ابقاء قنبلة موقوتة في قلبه كما اعتاد أن يقول. وأوضح بولس أنه في زيارات درويش المكثفة للعائلة خلال الشهور الأخيرة كانا يجولان في ربوع الجليل والساحل يوميا. وأضاف "كان يلح أن نسير ببطء فيتمتع بمشاهد الطبيعية ويقول ليس أجمل من هذه الأراض، غير أنه قالها في غبطة وغصة معا، وتساءل سؤال المتحسر هل هذه الأرض كانت لنا وكيف ضاعت؟". ويشير بولس إلى أنه يستذكر اليوم أقوال صديقه الراحل ولهفته على التهام مناظر الطبيعة في الجليل وتخزينها في مخيلته بنهم. وذكر "أقيس وعيه لخطورة عمليته الجراحية، لأستنتج أن هذه كانت زيارة وداع لا للأمكنة فحسب، فقد زار زملاء الدراسة ممن لم يرهم منذ عقود، وكانت زيارات مفاجئة لحد الدهشة، وفي ليلتنا الأخيرة أصر على السهر في حيفا ورام الله وقال لماذا النوم؟". وعن عدم زواج محمود مجددا وعن رغبته بتكوين أسرة أوضح صديقه أن هناك ما هو أكثرأهمية من هذه الجزيئية، لكن محمود إنسان حر، آثر حريته على قفص الزوجية وتحمل أي نوع من القيود. ويلفت إلى أن درويش كان يتبع نظام عمل صارما، ويقرأ عشرات أضعاف ما يكتب، وكتابة القصيدة الواحدة استغرقت قراءة مطولة جدا. وقال إن الرموز المتضمنة في قصائده ونثره مستنبطة من قراءة معمقة تكفي لوضع أطروحة دكتوراه، وهذا جزء من تثقيف النفس، والشحنات الثقافية العميقة في قصائده دليل على ذلك، واضاف طالما قال محمود لا أريد أن أخلد من خلال ذريتي، فقصائدي هي أولادي وذريتي. ولفت الى كون محمود عاشقا كبيرا للموسيقى المغناة والمجردة وأحب قديمها بالأساس، وطرب طربا جنونيا فيما كانت الكلمات الجميلة تدغدغ روحه، وتكفي الإشارةلما جاء في "أثرالفراشة" عن أم كلثوم التي عشقها فعاش الموسيقى وأحبها كحاجة يومية. ونفى بولس ما نسب لدرويش من بعد وانطوائية، وقا ان من عاشره عن قرب رأى فيه الغبطة والفرح. وأوضح أنه في الفترات الأخيرة لم يكن بمقدور محمود التجول في مكان أوارتياد مطعم ما إلا وتحول هو للحدث، وما دفعه لتردد بتلبية دعوات الزفاف من أصدقائه. وأضاف "التقينا في الجليل هذا العام بمجموعات فلسطينية على قارعة الطريق، فيصافحونه تباعا وهو يقف كالتلميد المؤدب". محمود درويش ثمّن كثيرا لهفة العامة على لقائه وعناقه واعتبرها "حبا مرهقا" لكنه لم يستطع التعاطي معه، وكشف أن بعض قصائده الجملية لم ترالنور بعد، وهي محفوظة وستنشر قريبا، لافتا الى أنه طالما كان يقول ان أبا الطيب المتنبي بالدرجة الأولى هو ملهمه الأول. وأعرب الكاتب أحمد درويش شقيق الراحل في تصريح لموقع الجزيرة نت عن هول الفجيعة المفاجئة، قائلا إن الراحل في زيارته الأخيرة جاء كمن يودع. وذكر أنه قضى الليالي الأخيرة في البلاد مع عائلته ونام في بيته في الجديدة، وقام أبناؤه بالتقاط عدد كبير من الصور فاستغرب وتساءل هل هناك ما هو جديد؟ وأضاف "لما وضع ابني هيثم الصور على الحاسوب، رفضت طلبه لمشاهدتها خوفا من أن تكون صور وداع ولا سيما أنني أحسست بسري أن هذه هي الرحلة الأخيرة.