لم نكن نعرف عن التهريب وما يحدث على طول الحدود المغربية، أو كما يسمى (الحدادة) سوى روايات من هذا وذاك، لكن مرافقتنا لبعض من يسمون أنفسهم ب"الحلابة"، سمحت لنا خلال 4 أيام متتالية من هذا الاستطلاع بالكشف عن المستور والولوج إلى عالم التهريب والمهربين وإماطة اللثام عن حقائق كنا نجهلها... وتأكدنا فعلا أن (الحدادة) معبر لسموم المخدرات والممنوعات من المغرب إلى الجزائر، وفي المقابل تهريب الوقود، وأن العديد من المهربين الذين يتحججون دائما في الاستمرار في استنزاف خيرات بلادهم بالوضعية الاجتماعية والبطالة وما إلى ذلك، يطالبون بعمل قار للابتعاد عن هذه الآفة الخطيرة. بدأنا مغامرة اكتشاف عالم التهريب والمهربين على طول الحدود الجزائرية المغربية مباشرة بعد الخروج من مدينة عين تموشنت باتجاه منطقة مغنية الحدودية، وأوّل ما لمسناه في بداية استطلاعنا هذا، هو أن أزمة البنزين تبدأ من هنا، والعارفون بخبايا الأمور وأسرار الحدود يقومون بملء خزانات سياراتهم وشاحناتهم قبل الدخول إلى ولاية تلمسان، وإلا فإنهم يضيعون أوقاتا طويلة في زحام الطوابير اللا متناهية للمركبات المصطفة أمام محطات الوقود، خاصة تلك الواقعة على تراب بلديات الحدود التي غالبا ما ينفد مخزونها من الوقود بعد ساعتين أو 3 ساعات من مرور شاحنات التموين التابعة ل(نفطال). حركة غير عادية بمحطات البنزين و"حلابون" يتحججون من خلال الحركة غير العادية التي تتميز بها كل محطات البنزين ببلديات باب العسة، سيدي بوجنان، السواني والزوية بشكل كبير، يصطدم المارة في هذه المناطق بالطوابير الطويلة من السيارات والشاحنات المتراصة قبالة المحطات لملء خزان الوقود كليا بمادة البنزين أو المازوت، حسب نوعية السيارات التي يستقلونها، يخيل للزائر أن البلد يعاني أزمة وقود. ويتحجج بعض الشباب ممن التقتهم "المساء"، وامتهنوا نشاط التهريب بالظروف الاجتماعية الصعبة والبطالة المتفشية في أوساط الشباب... كلها أسباب تجعلهم لا يأبهون بالعقوبات القانونية والقاسية، إضافة إلى المناخ الملائم الذي شجعهم على عملية التهريب، كقرب المسافات والدراية بكل المسالك والطرق. ونحن في طريقنا إلى باب العسة، استوقفنا طابور طويل من السيارات المصطفة على الطريق قرب محطة توزيع البنزين القريبة من قرية السواني، أكثر من 100 سيارة كانت تنتظر وصول شاحنة التموين...أصحابها كانوا جالسين في حلقات على حافتي الطريق يتجاذبون أطراف الحديث، اقتربنا من (محمد 49 سنة)، كان جالسا بمفرده وسألناه عن عمله، فقال بأنه يعيل 5 أطفال ببلدية السواني الحدودية ويمارس هذه المهنة غير المشروعة مجبرا منذ أكثر من 15 سنة، بسبب غلاء المعيشة والبطالة التي يواجهها، وأنه - حسب رأيه - لا يشتغل في الممنوعات مثل (الزطلة) والأقراص المهلوسة والمشروبات الكحولية... وغيرها. وراح محمد يسرد علينا بعض محاولاته في سبيل الحصول على عمل قار، قائلا بأنه شارك في عدة مسابقات توظيف، لكن الحظ لم يسعفه وليس له - كما قال- (معارف)، مفيدا أن مصالح الدرك الوطني حجزت 3 سيارات يملكها، إلا أنه لا يزال مصرا على مواصلة تهريب الوقود، وأن ربحه الصافي من هذه العملية يتراوح يوميا بين 700 و1200 دينار، حيث يضطر يوميا إلى التنقل إلى محطات البنزين في حدود الساعة الرابعة صباحا، وفي بعض الأحيان إلى خارج الولاية، "وحتى أرفع من ربحي الصافي، قمت بإجراء تعديلات على مستوى خزان سيارتي من نوع "مرسيدس" الذي أضحى يسع اليوم ل90 لترا عوض 75 لترا"، قال محدثنا. وحسب عمي عبد العزيز القاطن في بلدية مغنية الحدودية، متقاعد في سلك التعليم، بعدما كان يشغل منصب عون إداري، لجأ إلى هذا النوع من التهريب، لإعالة أسرته بعد ما أحيل على التقاعد بأجر زهيد، خاصة أنه يستأجر مسكنا ب13 ألف دينار شهريا، الأمر الذي جعل أجره لا يفي حاجيات ومتطلبات العائلة. "حلابون" يتعهدون بالإقلاع عن التهريب في حال تشغيلهم خلال الزيارة الميدانية التي قادتنا إلى مناطق سيدي بوجنان وباب العسة والزوية وغيرها من المناطق المتاخمة للشريط الحدودي، على غرار أولاد ملوك والزريقة والعثامنة التي لا تفصلها عن نقطة الحدود إلا بضعة أمتار، التف بنا سكانها الذين تحفظوا في البداية عن التحدث إلينا، لتلتحق بنا بعدها مجموعة من الشباب البطالين الذين أكدوا أن قراهم ودواويرهم من المناطق الفلاحية الرائدة، لكن التهريب يطال كل شيء من وقود ومواد غذائية ومواش.. والتواصل مع المغاربة يكون بشكل مستمر، كما أن عمليات الكر والفر مع حرس الحدود لا تنتهي، وبرر العديد من هؤلاء الشباب أنه في حالة حصولهم على مناصب شغل، سيقلعون عن ممارسة تهريب البنزين والمازوت وغيرها من المواد الأخرى المهربة، أما في قرية بن زيان، بالجهة الشمالية للحدود، وأولاد قدور والزوية، وخلال تحرياتنا التي قمنا بها والمعلومات المستقاة، اتضح لنا أن جل المهربين يعتمدون بالخصوص على سيارات من نوع (مرسيدس) من الطراز القديم، وبعد استفسارنا بمالكيها عن سبب تفضيلها وامتلاكها، أكدوا لنا أن هذه المركبات مزودة بخزانات تفوق سعتها 90 لترا، كما تعد سيارات ميدانية قادرة على مقاومة وعورة المسالك، الشيء الذي يسهل لهم عملية التهريب، فضلا عن ذلك حسبهم- يمكنهم الإفلات من قبضة مصالح الأمن، فيما تلجأ بعض الفئات الأخرى من المهربين إلى استعمال قاطرة الشاحنات التي تحتوي على خزانين بسعة 500 لتر للواحد، والبعض الآخر يلجأ إلى الإمكانيات البدائية العادية، كاستعمال صفائح بلاستيكية ب30 لترا للواحدة مخبأة داخل سياراتهم، غير أن أفرادها مجازفون ومعرضون للتوقيف. المراقبة تطيح ب500 "حلاب" وتحجز أكثر من مليون لتر من الوقود الإجراءات التي اتخذتها السلطات الولائية والأمنية خلال صيفي 2012 و2013، والقاضية بتسقيف التموين في محطات التوزيع على مستوى تراب ولاية تلمسان، والتي رخص فيها للسيارت بملء خزاناتها بقيمة لا تتجاوز 500 دج و2000 دج بالنسبة للشاحنات والحافلات، سمحت أيضا بالحد من تهريب مادة الوقود بشكل كبير، حيث كان لها أثر إيجابي، بعدما شهدت معظم محطات الوقود تراجعا في طوابير سيارات التهريب المعروفة لدى "الحلابة"، ممثلة في "رونو21" و"رونو25" و"مرسيدس"... وغيرها من المركبات الملقّبة ب"المقاتلات"، بعد أن ثبت ضلوع العديد من أصحابها في إحداث تغيير على مستوى خزّاناتها من خلال توسيعها بطرق منافية للقوانين، إذ جاءت عملية اكتشافها بعد عرضها على مهندسي قطاع الطاقة والمناجم ومختلف الأجهزة الأمنية للمعاينة الدقيقة، إذ تشير الإحصائيات التي استقيناها من مختلف الأجهزة الأمنية، تزامنا مع الإجراءات المطبقة منذ سنتين، إلى إفشال محاولات تهريب ما لا يقل عن 40 ألف لتر خلال شهري جانفي وفيفري من السنة الجارية بعدة مناطق من الشريط الحدودي لتلمسان، من طرف مختلف الفرق التابعة لمديرية الجمارك في الولاية، كما كشفت حصيلتها السنوية في إطار مكافحة التهريب خلال السنة الفارطة، في بيان صحفي تسلّمت "المساء" نسخة منه؛ عن 769 عملية حجز، أي بزيادة 243 عملية بالنسبة لسنة 2013، وهذا يعود إلى تكثيف العمل الميداني للفرق، الذي أصبح ممكنا بعد الدعم المتواصل بالعتاد (منه السيارات رباعية الدفع) والأفراد (الأعوان الجدد المتخرجون من المدارس الجمركية) من طرف المديرية العامة، حيث أسفرت هذه العمليات في مجال مكافحة تهريب الوقود عن حجز 290835 لترا من الوقود، أي بزيادة 115000 لتر عن سنة 2013، وحجز 135 سيارة استعملت لتهريب الوقود، وعدد من الأحمرة و406 مركبات، استعملت كوسيلة نقل، منها 39 شاحنة، حيث يتم تحطيم كل المركبات التي بها شائبة قانونية (مهيأة للتهريب أو الرقم التسلسلي محطّم) بعد مصادرتها من طرف العدالة. وقد قدر عدد السيارات التي تم تحطيمها السنة الفارطة 298 سيارة، وعلى عكس سنة 2013، حجزت نفس المصالح سنة 2012، تزامنا مع تطبيق الإجراءات الجديدة، أكثر من 175 ألف لتر من الوقود في 188 عملية، مما أسفر عن توقيف 35 شخصا وحجز 41 سيارة وشاحنتين و4 أحمرة. كما كشفت المجموعة الولائية للدرك الوطني في ولاية تلمسان، في حصيلتها السنوية لسنة 2013، عن استرجاع ما لا يقل عن 467 ألف لتر من الوقود في 1352 قضية، تمت معالجتها، تتعلق بالتهريب عبر الحدود الغربية، وأسفرت العملية عن توقيف 452 متهما في هذه القضايا وحجز 848 مركبة، حيث قفز حجم الوقود الجزائري المهرب خارج الحدود الغربية، أي نحو المغرب، والذي تم حجزه، إلى الضعف هذه السنة، حسبما صرّح به قائد الدائرة الجهوية الثانية لحرس الحدود بوهران، حيث ارتفعت الكميات المحجوزة من 450 ألف لتر في 2013 إلى 900 ألف لتر هذه السنة، وقد حجزت وحدات حرس الحدود بولايتي النعامة وتلمسان خلال السنة الفارطة 2374 دابة محملة بالوقود وفي مرات قليلة بالمخدرات، بينما لم يتعد عدد الدواب المحجوزة سنة 2013 حدود 450 دابة مستعملة في هذا المجال. تساؤلات عن ثراء فاحش؟! أحصت مصالح أمن تلمسان في هذا الإطار وجود 800 مسكن راق بالمنطقة بنيت وشيدت بأموال التهريب بكل أشكاله، وفي مقدمتها الوقود والمخدرات، الظاهرة المتنامية بشكل رهيب، رغم الإجراءات الردعية المتخذة من طرف الدولة الجزائرية، إذ خلصت تحريات دقيقة إلى امتلاك عشرات شباب المنطقة الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة لعدد من هذه الشقق الفاخرة، إلى جانب الأراضي والعقارات والسيارات والشاحنات، كما كشف التقرير الأمني المبلغ من طرف والي ولاية تلمسان إلى السيد وزير الداخلية والجماعات المحلية، عن أن مدينة تلمسان تعد من أكبر الولايات استهلاكا للوقود والمواد الطاقوية بفعل استفحال ظاهرة التهريب على الحدود الغربية المقدر طولها ب170 كلم والمستغلة من طرف شبكات التهريب، حيث أكد التقرير أن الولاية تتزود شهريا ب17.02 مليون لتر من البنزين و38.1 مليون لتر من المازوت، أغلبها يهرب نحو البلد المجاور، حيث يتفاجأ السكان والزائرون لمدينة تلمسان لغياب الوقود في أغلب الأوقات، لأن الكميات المزوّدة تجفف بعد ساعة من وصولها إلى محطات توزيع الوقود، إذ يتم تخزين هذه الكمية قبل تهريبها بوسائل خاصة أو أحمرة في مئات المستودعات السرية. وفي حديثهم لنا، أكد العديد من السكان أن هذه التعليمة كانت نقمة على بعض قاطني الولاية الذين وجدوا أنفسهم محاصرين أمام "الحلابة" في محطات توزيع الوقود بسبب تواطؤ بعض عمالها مع المهربين، ولم تلق آذانا صاغية من قبل بعض المهربين الذين لم يتضرروا من إجراءات التسقيف، حيث تم اكتشاف، مؤخرا، أن بعض المحطات لم تطبق التعليمة بعد ثبوت تواطؤها مع المهربين و"الحلابة" وعدم احترامها لقرارات وتعليمات التسقيف، مما عرضها إلى عملية الغلق، بسبب إهمالها للتعليمة الصادرة عن السلطات الولائية ومختلف الأجهزة الأمنية، فيما تحولت هذه التعليمة بعد ذلك إلى أزمة مخلّفة مناوشات ونشوب اشتباكات بين سائقي (التاكسي) و"الحلاّبة" بسبب التجاوزات والخروقات في الطوابير أثناء عملية التزود، وامتدادها إلى عشرات الأمتار وعدم تمكنهم من التزود بالوقود وتعطل مصالحهم وحركة النقل والمواصلات أمام محطة وقود بمنطقة الشبيكية، ومنطقة بني بوسعيد...وغيرها. خنادق مجهزة وفرق متنقلة للحد من آفة التهريب وأثرت الظاهرة بشكل كبير على المغتربين العائدين إلى أرض الوطن خلال فصل الصيف، حيث تزداد حدة الأزمة بسبب الطلب المتزايد على هذه المادة، مما دفع ببعضهم إلى الامتناع عن العودة أو تأجيلها إلى ما بعد فترة الصيف، وموازاة أيضا مع هذه الإجراءات المتخذة ولتضييق الخناق أكثر على المهربين، تواصل الجهات الأمنية، ممثلة في عناصر من الجيش الوطني الشعبي، في وضع اللمسات الأخيرة لعملية حفر الخنادق، من خلال الاعتماد على تجهيزات وتقنيات هندسية، على طول الشريط الحدودي البالغ 170 كلم، انطلاقا من الحدود البرية البحرية شمالا عند نقطة مرسى بن مهيدي إلى الحدود الإدارية مع النعامة ومع المغرب جنوبا، مع ترك ممرّات في عدة نقاط لملاحقة المهربين عند الضرورة والحد من مرور المركبات بطرق غير شرعية بين الجانبين المغربي والجزائري، وفضلا عن ذلك، رافقت عملية الانتهاء من حفر هذا الخندق الفريد من نوعه والذي أشرفت على إنجازه الناحية العسكرية الثانية التي مقرها مدينة وهران، إجراءات أمنية مشددة، بتعزيزه ب23 مركز مراقبة ثابت إضافي، مدعّمة ب20 فرقة مراقبة متنقلة مع إطلاق وحدات وخلايا جديدة لمحاربة ومكافحة التهريب بأنواعه، تضم قوات أمنية مشتركة من الجيش والدرك والجمارك، خلف الخندق، كمرحلة ثانية من هذا المخطّط الأمني، حيث تدخل ضمن إستراتيجية الجزائر في مكافحة التهريب وحماية حدودها البرية، خاصة على مستوى الشريط الحدودي مع المغرب. وخلال جولتنا الاستطلاعية إلى بعض هذه المناطق الحدودية، ونحن بصدد إجرائنا لهذا التحقيق، صرّح لنا أحد حرس الحدود الذي طلب منا عدم الإفصاح عن هويته (لأنه ليس الشخص المخول له بذلك)، أن مصالح الدرك الوطني أوقفت مؤخرا حوالي 14 شخصا، و"بارونا" متهما بتهريب المخدرات، يحملون جنسية مغربية، حاولوا إغراق الجزائر بكمية معتبرة من هذه السموم التي تصدّت لها الأجهزة الأمنية، كما كشف لنا عن خطط استحدثها مهربون مغاربة بالتنسيق مع مهربين جزائريين للهروب من قبضة العدالة الجزائرية من خلال تمكين بارونات تهريب في الجزائر من الحصول على وثائق وبطاقات هوية مغربية، لاسيما في المناطق الحدودية الغربية لولاية تلمسان كمغنية، باب العسة، مرسى بن مهيدي، السواني، بوكانون...وغيرها.