سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قسنطينة نموذج المدينة التي يتأصل فيها حوار الثقافات والأديان نص رسالة رئيس الجمهورية بمناسبة " يوم العلم" وافتتاح تظاهرة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015":
بعث رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة برسالة بمناسبة إحياء يوم العلم وافتتاح تظاهرة ”قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015”. هذا نصها الكامل: "بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين أصحاب المعالي والسعادة، أيتها السيدات الفضليات، أيها السادة الأفاضل، إنه ليطيب لي، أن أرحب، بالغ الترحيب، بأشقائنا العرب وضيوفنا الأكارم ببلدهم الثاني الجزائر، بالذات في قسنطينة، هذه المدينة التي أبت إلا أن تكون، على الدوام، موئلا للعلم والمعرفة. في تاريخ الجزائر أيام مجيدة زواهر نعتز بها، ورموز تقتضي منا التجلة والإكبار. ومن بينها يوم العلم الذي يتزامن إحياؤه، هذه السنة، مع يوم انطلاق تظاهرة ”قسنطينة عاصمة الثقافة العربية لعام 2015”. إننا لم نربط بين هاتين المناسبتين إلا من أجل إسداء آيات العرفان والتقدير لمن ينهضون برسالة العلم والإبداع في الجزائر. إن قسنطينة، تختلف عن أي مدينة أخرى إذ تبدو وكأنها قلعة حصينة، بل قدت من الصخر، موصولة الأطراف بجسور وأبواب شتى، بحيث قال عنها أحد المعماريين الروس: ”هي مدينة - متحف!”. وسار على منواله الشاعر نزار قباني بقوله: ”إنها مدينة طائرة”. وهي بالفعل مدينة طائرة محلقة في أجواء العلم والفكر، وفي كل ما يعنيه التمدن والتحضر. إن هذه المدينة، سواء أسميناها سيرتا أم سميناها بالتسمية التي تعرف بها حاليا، أي قسنطينة، فإنها كانت، وظلت سليلة المجد والشرف. فكيف لا تحلق عاليا، وتسمو عراقة وأصالة أو لم تكن على الدوام في عداد أقدم حواضر الدنيا التي عاصرت أعرق مدن اليونان ومصر وبلاد الرافدين وكيف لا تكون كذلك وقد درج في جنباتها عظماء ملوك نوميديا منذ القرن الثالث قبل الميلاد، أولئك الذين صنعوا، إبان الحرب البونيقية الثانية، صمود الأمازيغ الأحرار واستبسالهم، في وجه كل محتل ظلوم! إذا كانت المدن، منذ الأزمنة الأولى، تبنى لأسباب دينية أو عسكرية، فإن سيرتا هذه، ضمت المجد من أطرافه لأنها كانت مدينة روحية، وعاصمة دولة، وحاضرة علم في الوقت نفسه. فلا عجب في أن تختار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم هذه المدينة عاصمة للثقافة العربية لعام 2015. إنها عندما تبصرت في تاريخ قسنطينة أدركت ما حفلت به من أعلام الأدب والشعر والعلم والفن، وما تجملت به من سير الأبطال والبطولات في مضمار النضال. لقد ملأت المدينة هذه، صفحات التاريخ بالأمجاد والمآثر، فكانت لها اليد الطولى في الشأن الفكري بصورة عامة، بله الشأن النضالي. وكان عطاؤها سخيا أريحيا، لا تكاد تتجه بأنظارها صوب هذا المجال، أو ذلك، إلا أحرزت فيه قصب السبق، وبزت أقرانها بفضل ما انطوت، وما تزال تنطوي عليه، من عبقرية علمائها ومفكريها وفنانيها وقادتها ومصلحيها وغيرهم من نوابغها. لقد تفتقت فيها مكامن العبقرية، وشعت بأنوارها الفكرية في كل اتجاه حتى قصدها رواد الفكر والنضال من كل صوب وحدب. وليس هناك أدنى شك في أن المصلحين الأفذاذ الذين تخرجوا من هذه المدينة كانوا وراء السؤدد الذي تمتعت به دائما وأبدا، وذلك بفضل ما نشروه من أسباب الهمة والعزم في نفوس أبناء الشمال الإفريقي قاطبة، والروح الثورية التي تميزوا بها مما مكنهم من أن يجابهوا المحتل الغاصب، ويوجهوا له الضربة القاضية. كل ذلك سمح للجميع بأن يقفوا على قدم وساق لكي يخوضوا الخطوب غير هيابين كما أوصى الإمام العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس، عليه رحمة الله الواسعة. لقد آلت هذه المدينة على نفسها أن تصنع المجد على مقاسها وعلى مقاس كل من يتطلع إلى التحصيل العلمي والكسب المعرفي، وتأصيل الذات عبر ساحات النضال. وأردد مرة أخرى: هل من عجب في أن يصنع أهل العلم والفكر مآثرها، ويجعلوا منها موئلا لمكارم الأخلاق والمجد الأثيل أو لم يعمل هؤلاء كلهم على أن تتباهى مدينتهم هذه، فضلا عن جسورها المعلقة، بمساجدها التي تشهد عرصاتها على علوم الذين تداولوا عليها من كل صقع ومعارفهم أو لم يختلف إليها طلبة العلم من أجل التحصيل، والعلماء من أجل مناظرة أقرانهم في كل فن وأخيرا وليس آخرا، ألم يترك أولئك كلهم بصماتهم في كل شأن من شؤون الفكر والفقة والفن والنضال. فبارك الله في كل من أدلى بدلوه، عبر حقب التاريخ، لكي تكون قسنطينة، وتظل، اسما على علم! أيتها السيدات الفضليات، أيها السادة الأفاضل، لقد ارتأينا أن تندرج تظاهرتنا الثقافية العربية هذه في سياق احتفال الشعب الجزائري، على مدار هذه السنة، بمرور ستين عاما على ثورته التحريرية المظفرة، هذه الثورة التي كانت بمثابة المشروع التحرري للأمة العربية جمعاء، وكذا للقارة الإفريقية. وارتأينا أيضا أن تكون لحظة وفاء وعرفان لأبناء الشعوب العربية الذين كانوا خير سند لنضال إخوانهم في الجزائر. وأنتم تعلمون، حق العلم، أن هذا النضال تفاعل معه وعضده الساسة، ورجال الفكر والفن والإبداع، والتحمت معه النساء وواكبه الأطفال، وهتفت له الحناجر، إلى أن جاءت بشرى النصر المبين التي طربت لها الأسماع العربية جمعاء، من المحيط إلى المحيط. أجل، كان من حظ الثورة الجزائرية أن تتلقى الدعم من الإخوة العرب مشرقا ومغربا، وأن يمدوها بالسلاح والمال، ويتغنى الشعراء العرب ببطولاتها لحظة بعد لحظة، وينظموا مئات القصائد العصماء التي يزدهي بها جبين الأدب العربي المعاصر. إنها مرحلة فارقة في مسيرة أمتنا، ولهذا السبب بالذات أردنا أن نستحضرها معكم، أيها الأشقاء. وليس هناك أفضل من الإبداع الأدبي والفكري والفني للتعبير عن الجوانب المشرقة في تاريخ كل شعب، فما بالكم والموضوع هاهنا يتعلق بالحرية في المقام الأول! لقد تقاسمنا، بالأمس، تضحيات الثورة الجزائرية وويلاتها، وها نحن اليوم نتقاسم محنة فلسطين الصامدة الثابتة على طريق استعادة حق شعبها في دولته المستقلة التي تكون، بإذن الله، القدس عاصمتها. كما أننا نتقاسم ضروبا من الأحزان والآلام بسبب التدمير الذي طال عددا من البلدان العربية التي تمتحن في أمنها واستقرارها ووحدتها. إنها لفترة تاريخية عصيبة، تتطلب منا جيمعا مزيدا من الالتحام والتعاضد في سبيل حقن نزيف جسم هذه الأمة المنهكة وإعادة بناء الحلم العربي على أساس المصلحة العربية. فليكن العمل الثقافي على رأس جهودنا من أجل استدراك ما ضاع منها، وما أضعناه بأنفسنا، مستنيرين بالقيم الجامعة لنا من هوية وتاريخ ودين ولغة. إنه، في منظورنا، الأسلوب الأمثل والأنجع لإذكاء مشاعر الانتماء الواحد وتمتين وشيجة الأخوة التي لا تنفصم ولا تنفصل عراها، وإيجاد القدرة على مواجهة الآخر والمنافحة عن الذات، والدفاع عن الحق، والتطلع نحو مستقبل لا يمكن أن يبنى بغير عقول الأجيال العربية الصاعدة وسواعدها. أيتها السيدات الفضليات، أيها السادة الأفاضل، إن قسنطينة ما فتئت تضطلع بدور ثقافي ريادي، ذلك أن علماءها اشتهروا بغزارة التأليف في شتى العلوم والمعارف، حتى أنهم كتبوا في مواضيع لم تسبق لغيرهم الكتابة فيها، كأضرار التدخين والمخدرات، على سبيل المثال لا الحصر. كما اشتهروا بكثرة التنقل بين مدن الوطن، وبالترحال إلى المشرق والمغرب وبالانتساب إلى أقطارهما، وهو ما يعكس جوا ثقافيا وحركة دائبة للطلبة والعلماء، ويبين بوضوح أن العالم المسلم كان يحظى، أنى حل وارتحل، بالترحاب والحفاوة من قبل الملوك وحماة الفكر ورعاة الثقافة، وكأننا نرى مواطنة متجسدة ثقافيا وروحيا ولغويا. ولذلك، حين نقول، حضرات السيدات والسادة الأفاضل، إنكم تستقبلون أهلكم وذويكم، في هذه التظاهرة الثقافية، فإننا نعني حقيقة ما نقول. فلنغتنم هذه الفرصة التي أتيحت لمدينتنا هذه لجعلها تنفتح على العالم، ولعلها تكون نموذج المدينةالجزائرية التي يتأصل فيها الحوار بين الثقافات والأديان، نظرا لما تزخر به من آثار لأمم تعاقبت وتركت بصماتها واضحة المعالم، على أمل أن تعود، إن شاء الله، مفترق طرق مثلما كانت. أما جسور التواصل بيننا وبين أشقائنا من الدول العربية والإسلامية فتلك جسور ما فتئت تترسخ عبر الأجيال والأزمان، عززها الإسلام بتسامحه، والعروبة والأمازيغية بتلاحمهما وتكاملهما وتناغمهما في كنف الإسلام. أيتها السيدات الفضليات، أيها السادة الأفاضل، ما من شك في أن الأمم تتفاوت في مدارج الرقي والتحضر، وفي العمران، وفي الإبداع على اختلاف أجناسه وأشكاله. وهذا التفاوت ليس عفويا، بل هو يعبر عن مدى تبجيلها للعلماء، وتقديسها لدور العلم، والتفكير العلمي المستنير. كل ذلك على أساس من الحوار الجاد الذي ينبذ أسباب التعصب والعنف بجميع صنوفها، أي حوار يرجح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وعليه، يتعين علينا أن نعتبر بذلك، لكي نوفر المحيط المعنوي والمادي لأهل العلم والفكر في زمننا هذا. وما الذي يرتجيه العالم والمفكر والأديب والفنان اللهم سوى أن ينهمك، جسدا وروحا، في مجال اختصاصه حتى يقوى على العطاء المتميز الذي ينفع أمته. إننا إذ نورد، في هذا المقام، سيرة العلماء ومدى التأثير الذي يمارسونه في صلب المجتمع وصيروريته، لا بد لنا أن نستحضر، كما دأبنا في كل مناسبة، العلامة الجهبذ والمصلح الفذ، عبد الحميد بن باديس، رائد النهضة الحديثة في الجزائر. وخليق بنا أن نجعله قدوة نعتد بها حين يجري بنا الحديث عن العلم والتحصيل، والهوية الوطنية. إن هذا الرجل لم يتميز بعلمه وبمؤلفاته ومقالاتها الغزيرة أو بشهرته التي طبقت الآفاق فحسب، بل هناك جوانب في شخصيته أغفلها المؤرخون، ونعني بها تلك المحبة التي كان يكنها لشعبه ولأمته، ونعني بها تلك النخوة الوطنية التي ولدت فيها الإرادة والعزيمة الصلدة عند مقارعة الخطوب. كان لا يستكين للراحة، ولو للحظة واحدة، واضعا نصب عينيه النهوض بأمته، زاهدا في عرض الدنيا ومتعها. ألا ما كان أعظمه وأروعه حين خاطب رفقاءه بعد انتخابه رئيسا لجمعية العلماء المسلمين قائلا: ”كنت أعد نفسي ملكا للجزائر، أما اليوم فقد زدتم في عنقي ملكية أخرى”! وما كانت دسائس المحتل الفرنسي، والذين يسيرون في ركابه، لتنال من عزيمته أبدا. لقد عقد العزم على المضي قدما مثل سهم ينبغي أن يصيب الهدف، وقد أصابه إذ حرك الهمم وأشاع حب التعلم بين أبناء وطنه، ونبههم إلى مخاطر الوقوع في مغبة ما أراده لهم المستعمر الفرنسي من التجهيل والتخلف، فتحققت له النجاعة والجدوى في اعتنائه بالناشئة وفي تعهده بالعقول التي عشش فيها الجهل وفرخ فيها الدجل. لقد كان، مع رفاقه من جمعية العلماء المسلمين، من خيرة الهداة الذين عملوا على انتشال أبناء شعبهم من وهدة الجهل بفضل المدارس التي افتتحوها، في كل صقع من أصقاع الجزائر، وبفضل الدروس التي كان يلقيها بنفسه، والمواعظ التي يقدمها رفقاؤه لأبناء الجيل الجزائري الطالع، وبفضل طلبته الذين أدركوا حقيقة الاستعمار الفرنسي وما يرمي إليه، وتفقهوا في أمور الدين الإسلامي القويم واللغة العربية، وتمعنوا في تاريخهم المجيد. أجل، لقد أخذ عبد الحميد بن باديس وصحبه بأيدي أبناء الجزائر في ليل حالك الظلام، وأضاؤوا دونهم سبيل التحصيل المعرفي، والتأصيل الوطني، والتفتح على العالم المعاصر، مشرقه ومغربه، جنوبه وشماله، حتى يضعوا أقداما راسخة في ساحته. وما كان أصعبه من جهاد، وما كان أجمله لأنه جمع بين الحسنيين، ونعني بهما الأصالة والتفتح. وها أنذا أكررها، مرة ومرة، وألف مرة: لقد أخذ هذا المصلح الفذ بيد أمته الجزائرية وقادها في الطريق المستقيم بعدما كانت تعاني التهميش ومخاطر الانسلاخ من انتمائها الحضاري. لئن كان الأمير عبد القادر الجزائري، طيب الله ثراه، أعظم شخصية أنجبتها الجزائر خلال القرن التاسع عشر، فإن عبد الحميد بن باديس، رحمه الله، هو الشخصية التي يمكن أن نقارنه بها في القرن العشرين. أيتها السيدات الفضليات، أيها السادة الأفاضل، إن القصد من دأبنا، على إحياء يوم العلم، كل سنة، هو تأكيد وترسيخ إيماننا المشترك بضرورة جعل التحصيل المعرفي قاطرة للتنمية والتجدد، ودليل عرفان للمربين والمعلمين والمكونين والأساتذة الجامعيين والباحثين الذي لا يألون جهدا في الاضطلاع بتربية الأجيال وتكوينها وتأهيلها لمواكبة التقدم في جميع الميادين. إن وفاءنا لقيمنا ولثوابتنا يملي علينا واجب العمل من أجل صون ذاكرة الأمة، وتثمين مآثرها وأمجادها، وترقية التراث الثقافي الوطني بكل مكوناته وتنوعه وبرموزه وبعبقرية أبنائنا المبدعين، وهو المسعى الذي نتوخاه من خلال سياسة ثقافية هادفة تربي ذوق أبنائنا وتنمي قدراتهم الإبداعية، وتساير العصر دون التنكر لماضينا. فالثقافة هي قوام الأمة، والإسمنت الذي يرص بنيان وحدتنا. وعليه، يتعين تعزيزها وتعميقها والارتقاء بمختلف أشكالها وأساليبها لضمان أمننا الثقافي في خضم العولمة الجارفة، وتوفير أسباب مناعة تعصم شبابنا من أن يكون فريسة للتطرف الديني والتعصب المذهبي، وتدعوه إلى الاعتداد بكل ما هو مشرق في تاريخ أمتنا والتباهي به مع الابتعاد عن النعرات والفتن، وعن كل ما يفرق بين الأخ وأخيه، وبين الإنسان والإنسان. لذلك أضحى من الضروري بمكان إثراء منظومتنا التعليمية بالمحتوى الثقافي النابع من تاريخنا ومن إبداعات مؤلفينا وفنانينا لإيصال رسائلهم النابضة بالوطنية ومكارم الأخلاق الناصعة إلى الأجيال الصاعدة. وعليه، فنحن نجتهد من أجل النهوض بثقافة العلوم الدقيقة النافعة التي تؤهلنا لمواكبة التطورات، وتؤسس لإشاعة المنهج العلمي في التفكير والإبداع، وبالتالي تمنحنا القدرة على مواجهة تحديات العصر بعقلانية وفاعلية، وهو ما من شأنه أن يعطي بعدا حيويا للمجال الثقافي ويسمح بفهم صحيح لتراثنا الحضاري. وفي هذا المقام، أتوجه بالنداء إلى المثقفين والمفكرين والعلماء والأدباء، وأهيب بهم أن يعملوا ما استطاعوا على نشر ثقافة الاعتدال والتنوير لتكون درءا وحصنا منيعا لنا جميعا في وجه دعاة الجهالة والظلامية. أيتها السيدات الفضليات، أيها السادة الأفاضل، إن قسنطينة كانت، على الدوام حاضنة للعلم والإبداع. فتحت سمائها نشأت كوكبة من الأسماء الكبيرة التي كان بينها المختصون في الأدب وفي العلوم الدقيقة، وفي مجالات الفنون الرفيعة. لقد كان بين هؤلاء، على سبيل المثال لا الحصر، عبد الكريم الفكون، والمفكر مالك بن نبي، والأديب رضا حوحو مرورا بصاحب نجمة، الروائي والمسرحي، كاتب ياسين، والمبدع الملهم مالك حداد، والشيخ بن العابد الجيلالي، الشاعر الحفناوي هالي، وعشرات الأسماء اللامعة التي يزهو بها الأدب الجزائري من جيل الاستقلال إلى جانب رجالات الفن والموسيقي العريق، وفي مقدمتهم أحمد وعبد الكريم بصطنجي، والطاهر بن قرطوسة، وعمر شقلب، وعبد القادر تومي، ثم حمو الفرقاني والحاج محمد الطاهر الفرقاني وكذا الحاج قدور الدرسوني وعبد المومن بن طوبال، وغيرهم من رموز الفن الموسيقي الذين تعزز بهم المالوف الأصيل في بلادنا. أيتها السيدات الفضليات، أيها السادة الأفاضل، إدراكا منها أن الوسيلة الأنجع لمواجهة التخلف، هي العمل الثقافي، عمدت الجزائر إلى دعمه، وتمكينه من أدوات التعبير اللازمة، لأن الإبداع سليل الفكر السليم، ومنطلق الرؤية الصائبة. خلال نصف القرن ونيف الذي مر على استرجاع سيادتها، تمكنت الجزائر من أن تبني لنفسها من جديد دورا ثقافيا وفكريا وأدبيا أخذ في العطاء الطيب الواعد بالمزيد من الجيد الرفيع. وتحقق لها ذلك لأنها وفرت للثقافة وسائل وفضاءات التعبير والإنتاج الفني، وأنشأت، وما زالت تنشئ، المزيد من الهيئات والمؤسسات والمرافق والمهرجانات لتستجيب لحاجة المجتمع. وشجعت المبدعين في النشر والسينما والمسرح وإحياء التراث. وانخرطت في مسار ثقافي وطني بتنوعه وثرائه، واحتضنت تظاهرة الجزائر عاصمة للثقافة العربية، وللمرة الثانية نظمت المهرجان الثقافي الإفريقي، ووسعت دائرة دعم العمل الثقافي على الصعيد الإسلامي باحتضان تلمسان لتظاهرة عاصمة الثقافة الإسلامية، ضف إلى ذلك شتى الأسابيع الثقافية في مختلف البلدان العربية، ومعرض الكتاب السنوي الذي يروج فيه للملايين من الكتب التراثية والحديثة، العربية وغير العربية. ومن محاسن الصدف أن يتم، قبل افتتاح تظاهرتنا هذه بأيام قلائل، إطلاق فعاليات ”السنة الدولية للضوء 2015” بعاصمة بلادنا وبحضور المديرة العامة لليونيسكو، السنة التي كرست احتفاء بالعالم الموسوعي العربي، أبي علي الحسن بن الحسن بن الهيثم صاحب كتاب ”المناظر” ومؤسس علم البصريات، بمناسبة مرور ألف عام على وفاته. وهاهي قسنطينة اليوم تمد جسورها لكم، لتعبروا إليها أحبة أشقاء، ولتحتفوا معها بالثقافة العربية في أبهى صورها، وفي ظروف تتسم بكثير من التحديات. وفي هذا السياق نهيب بأبناء هذه الأمة أن يجابهوا النزعات الهدامة بكثير من الإبداع، وبالفكر المستنير، واستعادة أمجاد هذه الأمة، وكسب مودة الآخر، وترقية قيم التسامح والمصالحة والوئام، والتمسك بالوحدة الوطنية في كل النزاعات العربية، لا باعتبارها مقتضيات سياسية فحسب، بل باعتبارها قيما ثقافية وحضارية إنسانية في المقام الأول. إنني على يقين من أن إيجاد مكانة لنا تحت الشمس في هذا العالم المعولم، يحتاج إلى اقتصاد قوي وإلى نظام تربوي محكم متطور. لهذا نسعى ونعمل على أن يأكل أبناؤنا مما تخرجه أرضهم، ويلبسوا مما تنتجه مصانعهم، ويبدعوا ويتخذوا ثقافتهم مرجعية للتفكير والحياة. وإننا نعمل من أجل أن تكون المنظومة التعليمية الوسيلة المثلى لترسيخ هوية أبنائنا، وذلك من خلال تقوية مداركهم وتفتيق ملكاتهم وتفتحهم على الثقافات واللغات العالمية، لاسيما منها لغات الأنترنت والعلوم والتكنولوجيا. يجب على أجيالنا الناشئة ألّا تحيد أبدا عن درب المعرفة والعلوم لأنه السبيل الوحيد الذي يضمن لها بناء مستقبلها، ويسمح لها بإدراج بلادها في حركية الرقي العالمية، ويمكنها من أن تتبوأ مكانة مرموقة في محفل الأمم. إننا إذ نحتفل بيوم العلم، لا يسعنا إلا أن نرفع نداءنا عاليا إلى بنات الجزائر وأبنائها، داخل البلاد وخارجها، ليجعلوا من أيامهم كلها احتفالا بالعلم وسعيا وراء كل جديد في مضمار المعرفة والإبداع والتنكولوجيا. فأتوجه خاصة إلى نخبتنا المثقفة العالمة، لأقول لها: إننا سنواصل العمل بإصرار على توفير الظروف المشجعة لها، حتى تجد مكانتها المستحقة في بلدها. وفي كل الأحوال، ستتاح لهؤلاء كلهم فرص المشاركة إيجابيا في النهوض بجزائرهم الغالية العزيزة، كما أحث بنات الجزائر وأبنائها على التحلي بفضيلتي العلم والوطنية. إني أحب أن أرى فيكن وفيكم جميعا، أيها الشباب الجزائري الصاعد الواعد، مشاعل سلام وتنوير وحضارة وإنسانية، وحملة الأمانة وحماة الرسالة، رسالة الذين ضحوا من أجل انعتاق الجزائر وعزتها وسؤددها. أصحاب المعالي والسعادة، أيتها السيدات الفضليات، أيها السادة الأفاضل، سنحرص كل الحرص على نجاح هذه التظاهرة الثقافية بتفاعلنا الإيجابي مع مساهمات كل البلدان العربية الشقيقة التي ستدلي بدلوها فيها والاستفادة منها، ونهل ما سيعين القائمين على قطاعنا الثقافي على مواصلة تفتيق القرائح في جميع المجالات الثقافية. وفي الختام، أجدد ترحيبي بكم، أشقاءنا الأعزاء، في وطنكم الجزائر، وفي قسنطينة الحاضرة التي لا يمكنها إلا أن تفتح أحضانها لكم، وقد استشعرت دفء محبتكم. فمرحبا بكم، وطاب مقامكم بين ظهرانينا، ومزيدا من التألق للثقافة العربية. أما بعد، فإني على بركة الله، أعلن رسميا افتتاح تظاهرة - قسنطينة، عاصمة الثقافة العربية لعام 2015-”.