تُعد ذكرى إضراب الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين في 19 ماي 1956تُعد ذكرى إضراب الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين في 19 ماي 1956، محطة فاصلة في تاريخ البلاد،كونها عززت الكفاح المسلح الذي التحقت به مختلف شرائح الوطن، وإذا لم يكن من الهيّن على الطلبة التخلي عن القلم والتضحية بطموحاتهم العلمية ومغادرة مقاعد الدراسة، فإن الاستجابة للواجب الوطني كان أقوى أمام سياسة التقتيل والتجهيل التي أصر المستعمر الغاشم على ممارستها في حق الشعب الجزائري. وإذ تُعد الذكرى بمثابة تجرد من الذاتية وتقديم أفضل صور التضحية من أجل خدمة القضية الوطنية، فإن هذا الإضراب كان رسالة قوية للرأي العام العالمي بمدى الالتفاف الكبير لمختلف شرائح المجتمع ومستوياته حول الثورة التحريرية ومن ثم تفنيد أكاذيب المستعمر وادعاءاته أن "الثورة لا وجود لها في الواقع، وأن ما يحدث لا يعدو أن يكون سوى أعمال شغب وإرهاب تقودها بعض المجموعات الطائشة وقطّاع طرق". كما إن هذا الإضراب كان ردا سريعا وقاسيا على فرنسا الاستعمارية، وفضحا لممارساتها التعسفية، ليشكل ذلك محطة تاريخية ثالثة في مسيرة الثورة التحريرية بعد أول نوفمبر وأحداث 20 أوت 1955. ولا بد من الإقرار بأن ظهور التنظيم الطلابي ليس وليد العدم، بل إن أصوله وجذوره تعود إلى سنوات العشرينات بفضل جهود الطلبة الأوائل الذين ترعرعوا في أحضان الحركة الوطنية، وتشبّعوا بأفكارها، وآمنوا بمبادئها. فالضغوط التي كان يفرزها الواقع الاستعماري لم تمنع الطالب الجزائري من التفكير والتطلع لتغيير وضعيته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ومحاولة فرض وجوده من خلال تأسيس جمعيات وتنظيمات تمكّنه من إظهار إمكانياته وطاقاته وإيصال طموحاته ورؤاه المستقبلية. وقد تزامن إضراب الطلبة مع الظروف المضطربة التي كانت تمر بها البلاد؛ حيث تم التحضير له بعقد اجتماعين في أجواء من الديمقراطية. كما تَقرر على مستوى فرع جامعة الجزائر لاتحاد الطلبة الجزائريين بعد اجتماعات مكثفة لقيادته، ليتم الاتفاق على شن الإضراب بعيدا عن أية وصاية سياسية، بهدف إبراز مدى ارتباط النخبة الوطنية بالثورة التحريرية لاسترجاع السيادة الوطنية. وتفاجأ المستعمر بهذا الإضراب؛ كونه يمثل تطورا نوعيا للثورة التحريرية؛ مما عزّز موقع جبهة التحرير الوطني، وفتح الباب على مصراعيه لأفواج جديدة من المناضلين الذين أعلنوا انخراطهم في الثورة المجيدة، وفضّلوا الشهادة في ميدان الكفاح المسلح على الشهادة الدراسية. فبدخول الطلبة معترك الحياة السياسية للبلاد، يكون المستعمر قد خسر رهان نزع الشرعية عن الثورة التحريرية المظفّرة، حيث لم يتوقف الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في فضح جرائم العدو المرتكبة في حق الطلبة الذين تحمّلوا المضايقات والمتابعات التي مست العديد من عناصره. ويُعد إضراب الطلبة والتحاقهم بجيش التحرير الوطني وبمنظمته السياسية جبهة التحرير الوطني، بمثابة الخطوة الأولى التي تلتها خطوات عديدة تدعيما للنضال الثوري، إذ بعد أيام قلائل من إضرابهم عن الدروس والامتحانات، التحق أكثر من 157 طالبا بصفوف جيش التحرير الوطني في الولاية الرابعة. وبذلك تكون الثورة التحريرية قد تدعمت بالعديد من الطاقات الفكرية والعلمية من الطلاب للعمل معها في صفوف جيش التحرير الوطني، كمجنّدين وصانعي قنابل وأطباء وممرضين، إضافة إلى ميادين أخرى كالدعاية والإعلام لتنوير الرأي العام العالمي والفرنسي بصفة خاصة، ونقل أخبار الثورة الجزائرية وتطوراتها بواسطة المناشير والمقالات الصحفية المختلفة؛ قصد إسماع صوت الثورة الجزائرية على الصعيد الدولي والتحسيس بالقضية الجزائرية الهادفة إلى تحقيق الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية. ويكفينا فخرا أن نذكّر بأن الإطارات الأولى لسلك الدبلوماسية الجزائرية في عهد الاستقلال، كانت من فئة الطلبة الذين لبوا نداء الثورة والتحقوا بصفوفها. وعليه فقد ساعد التحاق الطلبة بالثورة على إعطاء بعد سياسي وإعلامي للقضية الجزائرية التي كانت تحتاج إلى رجال من ذوي الكفاءات العلمية والإدارية والتنظيمية لقيادتها، مما مكّن من تحقيق الأهداف المرجوة، لا سيما إيصال صوت الجزائر إلى المحافل الدولية، من خلال تعيين ممثلين عن الطلبة الجزائريين في المهجر في عدة منظمات دولية وإقليمية، وساهم نشاطهم في التعريف بالقضية الجزائرية وكسب المزيد من الدعم الدولي. ويمكن الاستشهاد في هذا الصدد، بالندوة العالمية السادسة للطلاب في كولومبو، والتي قبلت الاتحاد عضوا منتدبا فيها. كما افتك الاتحاد الاعتراف به وقبول عضويته في المنظمة العالمية الشرقية. ولم تتوقف جهود الاتحاد عند هذا الحد، بل راحت لتشمل الاتحاديات الطلابية العالمية في كل من سويسرا، هولندا، ألمانيا، إيطاليا، الصين، أمريكا وفي العواصم العربية، من أجل شرح القضية الجزائرية في هذه الدول والعواصم لكسب تعاطفها ومساندتها. وبذلك تُعد محطة 19 ماي 1956 بمثابة ملحمة تاريخية في كفاح الشعب الجزائري؛ إذ ساهم هؤلاء الشباب بفضل تكوينهم الفكري والعلمي، في تحويل حرب الجزائر من أجل الاستقلال السياسي إلى ثورة وطنية حقيقية، تصبو إلى تحديث المجتمع الجزائري وتهيئته لاستيعاب روح العصر بعد استرجاع سيادته وحريته.