يعتبر التراث الشفوي الشعبي ثقافة شعب على مرّ الأزمنة، فهو خزّان ثقافي يعبّر عن المجتمع ونظرته لمختلف أجزاء الحياة، وهو كنز لا يفنى مهما تعاقبت عليه الأيام والأزمان، بحيث يعتبر التراث الشعبي أصلا لكل الشعوب، كما يعتبر التراث اللامادي من الأمثال الشعبية، كالبوقالات والألغاز الشعبية ، جزءا من الكنوز الثمينة لمجتمعنا الجزائري والكنز الباقي والإرث الذي يحفظ الكثير من الحلقات بين الأجيال. هذه الجواهر الثمينة هي بمثابة تراث شعبي لأجدادنا وأسلافنا، هي ثقافة شعب وخلاصة تجارب مجتمع عريق في أزمنة مختلفة، ومجتمعنا زاخر بتراث لامادي كالأمثال الشعبية، البوقالات، المحاجيات والقصص الشعبية وغيرها، ورغم غزارة الموروثات الثقافية الشعبية وانتشارها في كافة أنحاء بلادنا ، إلا أنها في طريق الزوال. فمن خلال احتكاكنا بالجدات المسنات من مختلف ربوع الوطن وبعد تدويننا لهذه الجواهر الشعبية الثمينة من ذاكرة أناس حفظوها عن ظهر قلب ويتداولونها يوميا، نستطيع القول أن هذه الجواهر مستمدة من خلال التعامل بين أطراف المجتمع الجزائري، فكل شبر من العالم يحاول الحفاظ على تراثه الشعبي الشفوي ، خاصة بعد ما أصبحت التكنولوجيا تشكل حاجزا بين أفراد المجتمع ومنه استعمال الهاتف النقال وشبكة التواصل الاجتماعي وغيرها، فالثقافة الغربية طغت على الثقافة الشعبية الشفوية، فهل التراث اللامادي من أمثال شعبية وبوقالات ومحاجيات لا يزال يحتكر الساحة الفكرية في مختلف المستويات ببلادنا؟. «المساء» استطلعت آراء مواطنين من مختلف الأعمار حول الأمثال الشعبية، البوقالات والمحاجيات. فإذا كان المثل الشعبي أهم روافد الثقافة الشفهية، يعبّر عن وعي المجتمع ونظرته لمختلف أجزاء الحياة في جمل قصيرة بلغة التلميح أو التعليق عن منظر ويقال بعبارة موجزة، فهو أيضا أحد أساليب التربية والتوجيه للفرد بأسلوب بسيط ويناسب كل مقام. والمثل في تعبيره عن الحياة الاجتماعية يأتي في مقدمة أشكال التعبير الأخرى كالمحاجيات لأنه يصوّر بصفة مباشرة حالات واقعية. فهناك تشابه بعض الأمثال لدى الأمم والشعوب على الرغم من طابع الخصوصية الذي تتحلى بها الشعوب. والثقافة الشعبية لا تخلو من مثل وفي القرآن الكريم تأتي الأمثال في المقدمة، فهناك عدة آيات تشمل على الأمثال مثل: «وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون». ولأن وطننا شاسع ومتعدد اللهجات،فان المثل الشعبي له دوره في حياة الفرد والمجتمع، وهذا المَثل يمكن أن يقال في عدة مواضيع كهذا المثل الشعبي: «يا اللي تعيّط عند الباب عيّط وكون فاهم ، ما يفسّد ما بين لحباب غير النساء والدراهم» ، فهذا المثل يمكن تداوله في موضوع المال والصداقة أو الأحباب وكذا النساء. كما أن المثل يمكن تداوله في عدة مناطق من بلادنا ولكن بطريقة مختلفة من منطقة إلى أخرى في المفردات فقط ، بينما يبقى المعنى نفسه، والأمثال الشعبية الجزائرية تختلف في ألفاظها ، لكنها تلتقي في مضمونها حسب مصدرها كهذا المثل الشعبي: « من اللي كويتو ما ريتو» فهذا المثل يعبّر عن مغادرة أو فقدان الشخص أو الشيء دون رجوع. ويمكن قوله بصيغة أخرى في منطقة أخرى : من اللي دفنوه ما زاروه». وأثناء حديثنا مع الجدّات حول الأمثال الشعبية المتداولة، استنتجنا أنّ الأمثال الشعبية بمثابة حكمة وقدوة في حياتنا اليومية كالمثل: «كي كان السعد وكانت ليام كانت لصحاب تستجاب ليا، وكي راح السعد وراحت ليام عادت لصحاب دڤدڤ فيا». فهذا المثل يتحدث عن الصداقة الحقيقة وعن الحظ و النفوذ، فعندما يكون الإنسان ذا مال ونفوذ فالكل يلهث وراءه. وكذلك هذا المثل الذي يقدم نصيحة للفرد: «إذا اختالفو لديان تهلّى في دينك وإذا ختالفو الرحايا تهلّى في دقيقك»، ومثل آخر يقول: «إذا كنت زين أحفظ روحك من العين وإذا كنت شين أحفظ روحك من الفضايح» وكذلك «خوك خوك لا يغرك صاحبك». تقول سعيدة وسميرة وهما موظفتان بالجزائرية للمياه: «أصبح المثل الشعبي في حياتنا فكرة نلجأ إليها لتبرير المواقف وحل المشاكل، فهو مرجع صحيح ومتين نرجع إليه ولا نستطيع الاستغناء عنه» ويضيف زميلهما جمال:» المثل الشعبي يربي ونتعلم منه الحكمة والخصال الحميدة لأنه يضع الفرد على السكة ويبيّن له الطريق الصحيح» أما خالتي تركية وهي عاملة بالنظافة بمؤسسة ، فأكدت أن المثل ذو طابع شعبي وتستعمله في حياتها اليومية مع أفراد المجتمع باعتباره لغة البيت والشارع، فهو لغة المثقفين والأميين ،الأغنياء والفقراء، الصغار والكبار، وتضيف قائلة:» صحيح أنا أمية لكن أدبر أموري بطريقة جيدة، لأنني أستعمل المثل في حياتي الشخصية وقد ساعدني كثيرا على حل المشاكل، ولهذا فأنا أتكلم كثيرا بالأمثال الشعبية مع أولادي حتى أصبحوا يجيبون على انتقاداتي لهم بالأمثال الشعبية. البوقالات وليالي السمر في رمضان البوقالات جمع بوقالة ، وهي طقوس تراثية شائعة في بلادنا يدور فحواها حول التغزل بالأحبة، الأمل، الحظ وحتى خيبة الأمل والحزن وغيرها ،وهي وسيلة للتسلية والترفيه، وتعد البوقالة جزء من الفلكلور الشعبي الجزائري، وهي تقليد جزائري قديم بمثابة فال يقتدى به في الحياة اليومية عند أغلبية الأشخاص، وقد أخذت اسمها من كلمة بوقال وهو إناء فخاري يوضع بداخله ماء ويجب استحضاره أثناء لعبة البوقالة، وتلعب البوقالة في ليالي السمر وفي سهرات رمضان خاصة أو في قعدة حميمية، وتتسلّى بها كل الفئات البشرية ، فهي لا تحتاج إلى تركيز ذهني وإنّما مجرّد اختيار يقوم به الفرد وينوي عمّا يحس به أو ما يدور في ذهنه بأسلوب بسيط ومفعم بالفال الحسن، ومقبول للإسماع ومعان جميلة، فهي لعبة نسائية تلعب للترويح عن النفس. ويستخدم البوقال وبداخله ماء ثم تنزع كل واحدة خاتما من إصبعها وتضعه داخل البوقال ثم يغطى بقطعة من قماش وتعقد كل واحدة نيتها داخل قلبها حول شخص أو مشروع أو غير ذلك وتبدأ إحداهن في سرد البوقالة بكلمات جميلة تعبّر عن وجدان إنساني بعد ما تقول: باسم الله بديت وعلى النبي صليت وعلى الصحابة رضيت ، يا فال يا فلفال يا فاتح سبع قفال...وتبدأ إحدى الحاضرات في سرد الأبيات الشعرية بتعبير راق ، هو ذلك الفال الذي تنتظره الحاضرات كهذه البوقالة « فرشت فراشي لفة على لفة وغلقت بيباني دفة على دفة ، مصباحي شاعل ما يطفى». وعن البوقالة تقول مجموعة من طالبات في جامعة 08 ماي 45 بقالمة تخصص هندسة الطرائق ، أن البوقالات أصبحت ضرورية في الأفراح والأعراس، حيث عندما تقدم علب الحلويات للضيوف يجب إحضار البوقالة داخل العلبة، وتكون تلك البوقالة بمثابة فال صاحبة العلبة، وتضيف ريمة قائلة :»أصبحت البوقالة تسري في عروقي، بحيث اشتريت كتابا عن البوقالات وأصبحت كلما أفكر في مشروع أو شخص قريب أو بعيد ألجأ إلى البوقالة لمعرفة الفال». «المحاجيات» شكل من أشكال الثقافة الشعبية «المحاجيات» أو الألغاز الشعبية هي شكل من أشكال الثقافة الشعبية الترفيهية، ومن الأشكال التعبيرية الشعبية الأكثر رواجا ومن أبرز الفنون الشفوية وتعني الحضارة وتاريخ أجدادنا، وتناسب كل الفئات البشرية، وتعرف الألغاز الشعبية بالأحاجي جمع لكلمة «أحجية» أو «المحاجيات» التي تهدف إلى التسلية والتربية العلمية والثقافة الشعبية لأنها تعلّم الصغار والكبار وتنمي القدرات الفكرية واكتساب الشخصية المتزنة، وهي عبارة عن لعبة تحدّد الذكاء بين الناس يستخدم فيها العقل والفطنة والذكاء، وتميل عادة إلى التسلية، وتناسب كل الفئات البشرية. هي ليست علوما دقيقة، وإنما تحتاج إلى التركيز، ويمكن أن يقاس بها ذكاء الشخص، وتستغرق ممارسة المحاجيات ساعات وأحيانا أياما كاملة ويتناولها المجتمع في ليالي السمر على شكل جمل قصيرة في قالب شعري، وتبدأ المحاجيات عادة ب»حاجيتك كون ما هما ماجيتك» بعدها يعرض نص اللغز، وتكون الأجوبة عن طريق التفكير والتخيل، وبإيجاد الحل يكون نسبة ذكاء الشخص. واللغز الشعبي يمكن تداوله بصيغة مختلفة حسب المنطقة ، لكن الجواب يبقى نفسه كهذا اللغز: «وردة في الكأس دايرين بيها ميات الحراس» والجواب هو «العين» ولهذا الجواب أي «العين» لغز آخر متداول بصيغة أخرى في منطقة أخرى وهو:»تطير وما تطير وتطير فوق كل طير» وكذلك « على خالتي مرياشة والريش داير بيها تعطي زهو الدنيا وواحد ما يسبّل فيها». ونستطيع تصنيف الألغاز الشعبية إلى دينية مثل:» عيّطت عيطة حنينة ووضيت من كان نايم فطنوا قلوب الرحمة ورقدوا قلوب لبهايم» والحل هو «صلاة الفجر». وهناك ألغاز حسابية مثل:»اسمها بالسين ماهي سلاكة وماهي سكين ولادها ثناش وترابها ستين» والحل هو «الساعة». وهناك ألغاز وهمية للتعجب مثل « على سطيلة ماء معلقة في السماء» والحل هو «العنب» لما يحتويه من ماء. كذلك هناك ألغاز لها علاقة بالحروف الأبجدية وهذا لتسهيل حل اللغز كهذا: « على الميم والميم في القلب محلاها إذا غابت الميم اتكل على الله وأنساها» والحل هو» الميمة» أي «الأم». وعن المحاجيات تقول آمال طبيبة بمستشفى «أحيانا نستطيع اختبار المريض من خلال طرح بعض الألغاز لمعرفة إذا كان حقيقة معافى من المرض العقلي، فاللغز يساعدنا حتى في اختبار ذكاء الطفل وقدراته الذهنية». أما حسين في ال50 من عمره ،يقول «أنا مدمن على العاب التسلية والألغاز المطروحة في الجرائد أثناء وقت الفراغ بمكتبي، كما أحب حل الألغاز الشعبية ، إلا ان حفظة المحاجيات قليلون من الزملاء لنتقاسم اللعبة». ومن هنا نستخلص أن الشباب يحاولون الرجوع إلى ماضي الأجداد والأصالة، فالأمثال الشعبية، البوقالات والمحاجيات كانت ولا تزال تتداول بين فئات المجتمع الجزائري كله وبالرغم من أنّ بعض القنوات الإذاعية والتلفزيونية آخذة بعين الاعتبار بهذا الموروث الثقافي إلا أنّه لا يزال في طريق النسيان والإهمال، وبإمكان الجهات المعنية والمهتمة بالثقافة الشعبية الشفوية ترسيخ هذا الموروث بشكل أو بآخر عبر الأجيال كتخصيص ركن صغير في الجرائد الوطنية اليومية الناطقة بالعربية لطرح لغز شعبي أو تقديم مثل شعبي أو تقديم بوقالة يوميا مثلا، وهكذا يمكن تداول هذه المادة الخام بين أفراد المجتمع حفاظا على ثقافة أجدادنا وأسلافنا، فخير خلف لخير سلف.