من البديهي أن ينصف التاريخ من ساهموا في الثورة التحريرية ورفعوا مشعلها على مر سنين من المعاناة، دفاعا عن القضية الوطنية وبحثا عن استرجاع السيادة والهوية الوطنية التي أراد المستعمر أن يدوسها ومحو آثارها... لكن شتان بين حلم المستعمر وإرادة المظلوم التي لا تقهر طال الزمن أو قصر، هي وصلات متتالية لثورة ترن كلما اقترب موعد الذكرى، لتدغدغ فينا الشعور للافتخار بمنجزات أجدادنا وعظماء الثورة المظفرة، التي تروي تفاصيلها منذ بداياتها الأولى إلى فجر الاستقلال تلك المعارك الطاحنة التي كبد فيها جيش التحرير الوطني المستعمر البغيض خسائر فادحة بحشود جنوده. المجاهد بلقاسم شاطري الذي يعاني من المرض في الآونة الأخيرة، هو إحدى العينات الشاهدة لهمجية الاستعمار، كما يعرف أنه أحد صانعي معركة "جار الله" التي تعد امتدادا لثورات الجزائر ككل والأوراس بالأخص، وثورات من صنع الأوراس قادها الصادق أو الحاج ببوهقنوشت "بوبرمة" سنة 1798، وتعد من أبرز الثورات الشعبية التي شهدتها منطقة الأوراس في القرن التاسع عشر وبوابة لدخول المعارك من التاريخ. وما يرويه عن تفاصيل معركة "جار الله" بتكوت التي وقعت قبل أكثر من نصف قرن، وتم خلالها القضاء على أزيد من 250 جنديا فرنسيا، مقابل استشهاد قلة من الشهداء لا تتعدى العشرات، ما هو إلا ألبوم لا ينمح من ذاكرته التي تحتفظ بصورة حيه لهذه المعركة التي عايشها. تبعد هذه القرية عن مقر الدائرة بنحو 15 كلم وتحتضن ضريح الولي الصالح سيدي عيسى الشهير. وقد جرت هذه المعركة خلال المرحلة الثالثة من الثورة التحريرية، وبالضبط في 29 ماي 1959، وهي المرحلة التي تميزت بالإبادة الجماعية بعد حلول الجنيرال ديغول في الجزائر. شهادة المجاهد بلقاسم شاطري تغني عن كل زيف للتاريخ، باعتباره حضر المعركة التي وصفها بالشرسة، خصوصا بعدما انكشف الأمر ووقعت في يد السلطات الفرنسية رسالة كان قد وجهها الملازم مدوري اسماعيل إلى المسؤول السياسي في قسمة تكوت الهادي هلالي، بواسطة المبعوثين خادمي بلقاسم والطيب غرابي اللذان لم يتمكنا من تبليغ الرسالة للمسؤول السياسي، فتسلمها نائبه عبد السلام محمد العيد، وتتضمن دعوة القيادة العسكرية للناحية الرابعة لمسؤولي قسمة تكوت من أجل عقد لقاء تشاوري وتقييم مسيرة الثورة بالناحية الرابعة، خصوصا بعد الزج بسكان تكوت "لقصر وشناورة" في المحتشدات الفرنسية. ووقعت الوثيقة بين أيدي السلطات الفرنسية بعد استشهاد محمد العيد عبد السلام رفقة يحيى بلقاسم، في كمين نصب لهما من طرف القوات الفرنسية في مكان يسمة "زيمبا لمزارث"، بعد اشتباك بين الطيب غرابي وبلقاسم خادمي مع جنود المستعمر ب«هالة هني" يوم 27 ماي 1959، ليقوم العدو بحشد قواته وضرب الحصار على قرية شناورة في منتصف ليلة 28 ماي 1959، وكانت الأحداث تتوالى في غياب المعلومة عن قيادة الكتيبة التي كانت متواجدة ب«رأس السرا"، وفي تلك الليلة، يروي المجاهد بأنه سمع طلقات نار واتضح فيما بعد أنها طلقات للمجاهد يوسف وهابي القادم من ناحية سطيف، وكانت ضمن مخططات القوات الفرنسية التي تحاشت الرد عليه حتى لا ينكشف الأمر، وتمكنيها من فرض الحصار الذي تم في صبيحة المعركة، فاستخدم المجاهدون الخنادق باعتبار أنه لم يبق لهم سوى خيار المواجهة وتوزعوا عبر الخنادق وأسفل الوادي المحاذي... ولهول المعركة التي دامت يوما كاملا، استعمل العدو مختلف الأسلحة الثقيلة والطائرات المروحية والغازات الحارقة و«النبالم"، بعدما تأكد من صعوبة المهمة والتقدم. وكان أول شهيد سقط في ميدان الشرفة في هذه المعركة؛ بلقاسم مسوحي، واستمرت المعركة إلى غاية العاشرة ليلا بشهادة المجاهد الذي أكد خبرة المجاهدين وصبرهم في التصدي لهذه القوة، إلى أن حلت كتيبة من عين البيضاء لجنود جيش التحرير الوطني تحت قيادة صالح شانخلوفي، ودخلت في اشتباكات عنيفة مع العدو في الجهة الشرقية لمنطقة "جار الله" وتمكن المجاهدون من الانفلات والانتشار في اتجاه عين البيضاء وغابة "مزيال". وفي هذه المعركة سقط في ميدان الشرف 10 مجاهدين وجرح اثنان، في حين كبد المجاهدون الجيش الفرنسي خسائر معتبرة في العدة والعتاد وبلغ عدد قتلى الجنود في صفوف العدو أكثر من 250 جنديا. وما يجدر ذكره، أن منطقة "جار الله" حسب روايات مجاهدي المنطقة، احتضنت العديد من الأحداث، على غرار انتفاضة قبائل الأوراس التي قادها يوم 30 ماي 1879؛ محمد الصغير بن جار الله، مؤكدين على روح المقاومة التي أظهرها ابن جار الله الذي كان يدعى "بوقنوشت" وتمت المحافظة عليها. وأضاف المجاهد بلقاسم شاطري أنه بمناسبة الاحتفالات المخلدة للذكر ال«58 لاندلاع الثورة التحريرية"، وجب التعريف بها لجيل الاستقلال والأجيال القادمة للإشادة بعظمة الثورة، "وهو بحسبه، مايعكس حماس وإرادة شباب المنطقة للحفاظ على ذاكرة الكفاح الشعبي.