تتجلى بسكرة بكلّ حسنها لتعيد لباريس ذاكرتها التي تعلّقت بالواحة الجزائرية وصحرائها التي سلبت عقول أكبر الرحالة والفنانين في فرنسا وكل أوروبا، فبسكرة لا تضاهيها مدينة أخرى في التراث العالمي، لا تزال مترسخة تشهد عليها الروائع المسافرة في بلاد الغرب الممتدة إلى الولاياتالمتحدة، حيث تقيم بسكرة إلى غاية 22 جانفي 2017 بالعاصمة الفرنسية، لتدغدغ المخيّلة الأوروبية المفعمة بسحر الواحة ومضارب الزيبان التي استقبلت المشاهير. المعرض بعنوان "بسكرة، سحرُ واحة جزائرية" وهو من تنظيم معهد العالم العربي بباريس، يكتسي أهمية كبيرة نتيجة ما يحتويه من تاريخ وثقافة وفنون، عائدا من خلال ذلك إلى بداية القرن العشرين، عندما كانت هذه الواحة الجزائرية المكانَ الأثير للرسامين والموسيقيين والكتاب الأوروبيين والأمريكيين، حيث لم تكن بسكرة مكان تجارة وتبادل اقتصادي فقط، بل كانت أيضا مقصدا ثقافيا وسياحيا بامتياز. لعبت بسكرة دور "العامل الكاشف في عالم الفن والأدب الأوروبي منذ عام 1900"، إنّها الواحة الفتّانة المجاورة للينابيع الساخنة، ويمكن الوصول إليها بالقطار منذ عام 1888، وأغوت الرسّامين والمصوّرين والموسيقيين والسينمائيين، ومن خلال علاقة هؤلاء بها، نرى تطوّر الأساليب والمدارس الفنية من الاستشراقية إلى المستقبلية، يوجين فرومنتان، غوستاف غيوميه، هنري ماتيس، موريس دوني، أوسكار كوكوشكا، هنري فالانسي... بقيت بسكرة مكان لقاء الطليعة العالمية ووجهة أساسية لها طوال القرن العشرين، لكن فترة الثورة التحريرية، ثم سنوات التسعينات الصعبة، غيبت اسمها من الذاكرة الفرنسية لسنوات عديدة. تصوّر وتصميم المعرض كان بالتعاون مع البروفسور روجر بنجامين، أستاذ تاريخ الفن في جامعة سيدني، لذا يعكس معرض بسكرة نظرة جديدة خالية من الأفكار التاريخية المسبقة، تكشف هذه النظرة عن صورة بسكرة كوزموبوليتانية، يطرح فيها المثقفون في أوائل القرن، لأوّل مرة، السؤال عن مكانة الجزائريين في المجتمع، يكتشف زائر المعرض تاريخ هذه المدينة الفريدة من نوعها في العالم العربي وتأثيرها على الثقافة العالمية من خلال العديد من الوثائق التاريخية. من خلال هذا المعرض، يكشف معهد العالم العربي العديد من جوانب بسكرة الفنية، لقد كانت مصدر إيحاء لكلّ الفنون، مما أدى إلى إنتاج وفير من الصور واللوحات والبطاقات البريدية والمسرح والأفلام، ولأنّ المعرض جاء ثمرة لإعارات من دول متعدّدة في العالم، فسنجد فيه لوحة غوستاف غيومي "مسكن صحراوي" التي لم تُعرض في فرنسا منذ أكثر من قرن، أمّا فيلم "جنة الله" مع مارلين ديتريش، فيسلّط الضوء على بسكرة خيالية وصلت حتى إلى هوليوود. هذه المدينة الجزائرية لا تنتمي إلى ماضيها فقط، بل تشعّ الآن بإبداعات فنانيها المعاصرين التي تغذيها هذه الذكريات الأسطورية في حوار مع مدينة حديثة تعيش بجدارة انطلاقتها الاقتصادية، ومن بين المشاهير الذين زاروا بسكرة نجد المفكّر كارل ماركس الذي قصد المنطقة في حدود عام 1882، بعدما نصحه الأطباء الإنجليز بأن شفاءه سيكون في حمّامات بسكرة، وكذلك الروائي روبارت هيتشنس الذي كانت زيارته عام 1890 وقد ألف حول حديقتها "جنان لندو" روايته الشهيرة "جنة الله"، وطبعت أكثر من عشرين مرة بالفرنسية والإنجليزية. الشاعر الفرنسي أندري جيد (1869م-1951م) صاحب جائزة نوبل في الأدب لعام 1947م، الذي ظلّ متشبثا ببسكرة، بل إن آخر كلمة تفوّه بها هي "بسكرة..الصحراء"، إلى جانب الرحالة الألماني هاينريش فون مالتسان الذي وفد إليها عام 1863 ونشر رحلته في كتابه "ثلاث سنوات في شمال غربي إفريقيا"، والرحالتان ماركايو دامريك وجورج هيرتز اللذان وفدا إلى بسكرة عام 1954م ونشرا ما شاهداه في كتيب مزدان بلوحات فنية تصور جوانب عديدة من حياة سكان المنطقة، وهناك أيضا "في بلاد النخيل" للرحالة فيلكس هاتفور و«بسكرة الزيبان" للرحالة ج. ماركايو داميريكو و«رحلة هنري دوفريي" و«رحلة في ربوع الأوراس" للرحالة هيلتون سيمبسونالى و«بلاد الأزرق بسكرة" و«الواحات المحيطة" للرحالة جون هيرابيال. يتناول المعرض جانبا من تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية للمنطقة، من خلال ما سجّله الأدباء والمستشرقون الغربيون الذين أتيحت لهم فرصة زيارة بسكرة وما جاورها من بلدات، خاصة القنطرة وسيدي عقبة ولوطاية وطولقة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، منهم من مكث فيها فترة من حياته لأهمية هذه المدينة دينيا وتاريخيا، زيادة على تميّزها بطبيعة صحراوية ساحرة، حيث تشتهر بحمام الصالحين المعدني وحديقة لندو، وهناك أيضا حديث عن مدينة بسكرة وخاصة تاريخها الثقافي. يوجد أيضا وصف مراسيم الزواج واللباس الأصيل والحركة اليومية بالسوق العربي والمقاهي الشعبية ومكانة المرأة في تلك المرحلة من تاريخها، وقد قام المعرض بتقديم لمحة عن حياة أصحاب الرحلات، والتعريف بكتاباتهم الأصلية بنشر ملخص، للاستفادة أكثر من تاريخ منطقة الزيبان والتعرّف على معالمها الحضارية وآثارها العمرانية، خاصة في أحيائها القديمة. وسيتم إحياء بسكرة القديمة من خلال معالمها الأثرية، لاسيما برج سانت جرمان وحي أولاد نايل وحديقة لندن، كما يتضمّن برنامج هذه التظاهرة معرض صور مخصّص ل«عروس الزيبان" من إنجاز بعض المصورين مثل أوغست مور، وهناك أيضا محاضرات للفنانين التشكيلين سليمان بشا وشاوية نور الدين تابحيرة حول الفن التشكيلي الجزائري، ومن المقرّر كذلك عرض مقتطفات من أفلام حول بسكرة القديمة وتسجيلات موسيقية في القصور من توقيع الملحن وعازف البيانو المجري بيلا باتروك (1881-1945).