تشهد قسنطينة، خلال هذه الأيام، توافدا كبيرا لربات البيوت على عادة طالما توارثناها عن الأجداد منذ مئات السنين وتعاقبت عليها العديد من الحضارات، حيث نفضت سيدات قسنطينة الغبار عن آلة القطار النحاسية من أجل تقطير ماء الورد أو الزهر، خاصة خلال فصل الربيع، حين تشرق البساتين بالزهور والورود. تعبق أزقة مدينة قسنطينة القديمة، على غرار السويقة، رحبة الصوف والرصيف، برائحة ماء الورد خلال هذه الفترة من السنة، حيث تعمد العديد من الأسر القسنطينية إلى تقطير نبتات الزهر، الورد وحتى نبات العطرشة الفواح. ورغم تناقص العائلات التي تقوم بتقطيرها بسبب غلاء المواد الأولية من جهة، وآلة التقطير التي تسمى "القطار" من جهة أخرى، حيث يصل ثمنها إلى 3 ملايين سنتيم، وكذا رحيل العديد من العائلات القسنطينية من وسط المدينة القديمة التي كانت تضم فناء كبيرا أو ما يعرف بوسط الدار، وتحافظ على العديد من العادات، منها تقطير الزهر والورد نحو سكنات جديدة بمدينة علي منجلي، من نوع شقق صغيرة وضيقة، إلا أن عادة التقطير تبقى تصارع الزمن بعاصمة الشرق الجزائري وتأبى الاندثار. المتجول في قسنطينة خلال هذه الأيام، خاصة بوسط المدينة وبساحة ناصر، أين يقبع معرض النباتات منذ أيام خلف البريد المركزي، يلاحظ إقبالا كبيرا للنساء والرجال على اقتناء نبتات الزهر المستعملة في صناعة ماء الزهر وكذا الورد الوردي المستعمل في تقطير ماء الورد، حيث تفضل بعض العائلات اقتناء المواد الأولية من الباعة القادمين من بساتين حامة بوزيان وصالح باي (الغراب)، أن تتم عملية التقطير داخل المنزل، ونظرا للتحولات التي شهدها المجتمع الجزائري في السنوات الأخيرة، تلجأ بعض ربات البيوت إلى اقتناء ماء الزهر أو ماء الورد جاهزا، حيث تغتنم فرصة تنظيم المعارض الشهرية الخاصة بنباتات الزينة في قسنطينة وبعض البلديات الأخرى، على غرار الخروب، عين السمارة وحامة بوزيان، لتقترب من صانعي هذه السوائل العطرية، الغذائية والصحية وتقتني ما تحتاجه من ماء الورد الذي يقطر أمامها على المباشر، ويتم بعدها وضعه في قنينات زجاجية ذات أحجام مختلفة من 125 سنتيلترا إلى 1 و1.5 وحتى لترين. يرتكز التقطير الذي يعد من الوسائل الصناعية الأكثر رواجا في تحضير المواد الغذائية والذي برع في استخدامه علماء الكيمياء العرب والمسلمون في القرون الوسطى، على تعريض أوراق الزهرة أو الوردة إلى بخار الماء الذي يحمل معه المواد العطرية وبعض المواد من مكونات الزهر والورد، وخلال تعريض هذا البخار إلى درجة حرارة منخفضة، يتكثف عند نقطة معينة، ليتحول من طبيعته الغازية إلى سائل، وبذلك يتم استخلاص أهم المواد الطبيعية من هذه الأوراق. ويختلف ثمن ماء الزهر عن ماء الورد، حيث يكون الأول عادة أقل تكلفة من الثاني ويتراوح سعره بين 1200 دج و1400 دج، حسب عملية التقطير وتركيز السائل، إذ يكون دائما السائل الأكثر تركيزا أو ما يعرف براس القطار أكثر ثمنا من الأقل تركيز، بينما يتراوح سعر ماء الورد بين 1400 دج و1800 دج حسب التركيز، ويعرف عادة نوع الماء المقطر من الذوق والعطر الذي يفوح به ويكون قويا عادة في الأنواع الجيدة. إلى جانب استعمال ماء الزهر والورد في تحضير الأطباق القسنطينية التقليدية الشهية، على غرار طبق "طاجين العين" (مرق البرقوق) أو طبق "طاجين الشباح" (مرق حلو بعجينة اللوز)، يستعمل ماء الزهر في تعطير فنجان القهوة الذي يكتسي ذوقا مميزا، كما يستعمل هذا السائل في صناعة العديد من الحلويات التقليدية القسنطينية، على غرار "البقلاوة"، "القطايف"، "المقروط" ويستعمل ماء الورد في صناعة حلويات "طمينة اللوز" ومختلف أنواع المربى. كما تستعمل العائلات القسنطينية ماء الزهر أو الورد في الاستطباب المنزلي، حيث يستعمل ماء زهر في تخفيض الحمى لدى المريض، خاصة عند الأطفال عندما يخلط بالكحول ويدهن به رأس وجسم المريض، كما يستعمل ماء الزهر عند ضربات الشمس، حيث يوضع على الرأس وستعمل أيضا إلى جانب ماء الورد في علاج بعض أمراض العين، على غرار التهاب العين والرمد، حيث يقوم بتنقية العينين من الشوائب والجراثيم. وبغرض الحفاظ على هذا الموروث، تقدمت الجزائر خلال سنة 2014، عندما كانت تحضر لاحتضان تظاهرة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015" بملف مدعما بفيلم وثائقي ووثائق من كتب ومقالات حول العنصر الثقافي المتمثل في عادة تقطير الورد بعاصمة الشرق، في خطوة للحفاظ على التراث المادي واللامادي داخل المجتمعات المحافظة، وقد حرص على تقديم هذا الملف المجتمع النسوي القسنطيني، المتمسك بعادات أجداده، في خطوة لتصنيف عادة تقطير الورد ضمن التراث اللامادي العالمي وفق الاتفاقية الدولية لحماية التراث اللامادي لسنة 2003، والذي كانت الجزائر من الدول الأوائل التي صادقت عليه.