عقدت الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية في الفترة الأخيرة بفندق "الشاطئ الأزرق"، مؤتمرها السادس تحت شعار "العيش المشترك"، وفي هذا السياق، اقتربت "المساء" من رئيسها الدكتور عمر بوساحة ومشاركين اثنين، وهما الدكتور أحمد دلباني والدكتورة حورية منصوري معيز، وطرحت عليهم مجموعة من الأسئلة من بينها: هل تغير مفهوم الفلسفة في العصر الحديث؟ هل استطاعت الفلسفة التنصل من اتهامات التيارات الدينية بالتضليل؟ ما دور الفلسفة في تحقيق العيش المشترك ، فكان هذا الموضوع: الدكتور عمر بوساحة:الفلسفة تؤمن بالنسبية أكد الدكتور عمر بوساحة ورئيس (الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية)، تغير مفهوم الفلسفة في عصرنا، باعتبار أن لكل عصر موضوعاته التي تخصه فلسفيا، مضيفا أنه قديما كان الفكر الوجودي موجود في الفلسفة اليونانية والرومانية، في حين أنه في العصور الوسطى، أصبح الدين مركزيا وبرزت إشكالية التوفيق بين الفلسفة والمسائل الدينية، ومن ثمة برز في الحداثة مفهوم الإنسان الذي يسطر على الطبيعة والكون وغيرهما، لكن بعد التيقن بخطر هذه السيطرة على الإنسان نفسه تحولت الفلسفة الآن إلى منهج نقدي للحداثة نفسها، وظهرت مفاهيم ما بعد الحداثة وغيرها، لتنتقل الفلسفة في الوقت الراهن نحو (الكونية) في التفكير، أي بمعنى الخروج عن المركزيات التي تعتقد أنها صاحبة الحقيقة، ومن ثمة المطالبة بالانفتاح على ثقافات العالم، وبالأخص على ثقافات الشعوب بالمستعمرات القديمة. في المقابل، اعتبر الدكتور أن "التيارات الدينية تحاول أن تمسك بالحقيقة وتدعي بأنها المصدر الوحيد لها، هذا الذي يجعل من التيارات الدينية تحارب انفلات المسألة من يدها، مضيفا أن الفلسفة مرتبطة بالإنسان، لهذا تعمل على وضع الحقيقة في الإطار النسبي، أي أن لكل شخص أفكاره الخاصة ويحاول أن يجد توافقا بينه وبين الأطراف الأخرى، أي توزيع الحقيقة بين الجميع، باعتبار أن إمكانيات البشر ليست مطلقة كما يعتقد الذين يحتكرون الدين ويتاجرون به"، ليؤكد الدكتور أن الفلاسفة ليسوا ضد الدين، لكن ضد من يحتكر حقيقة الدين، كما أننا إذا أعدنا الحقيقة إلى الإنسان نصل إلى ما يسمى ب"النسبية" التي تعتبر منهج الفلسفة، ليؤكد أن النسبية هي الحقيقة التي نسعى إليها جميعا، كما أن الفلاسفة لا يدعون امتلاك الحقيقة النهائية، مثلما يدعيه رجال الدين، -حسب الدكتور- قبل أن يستدرك أن الكلام المسوّق بأن الفلسفة تدعو إلى الإلحاد، كلام كله من أجل الإبقاء على أيدي رجال الدين ماسكة بالحقيقة. أجاب بوساحة على سؤال (المساء) حول اعتقاد المسلمين بحقائق مطلقة، مثل وحدانية الله، بالتالي ليست كل الأمور نسبية، حسبما تقول به الفلسفة، فقال إن الفلاسفة لا يناقشون مثل هذه المسائل، بل الحقيقة التي يدعيها الإنسان، فحينما يدعي الإنسان أنه يمتلك الحقيقة، هنا يتحاورون معه، مضيفا أن الله حقيقة مطلقة، لينتقل إلى الأشخاص الذين يلقون خطابات حسب قراءاتهم للدين ويدعون أن ما يفهمونه هو الحقيقة، فتحدث الحروب والصراعات، ليؤكد أننا جميعنا نتفق بأن الله حقيقة مطلقة، لكن يبقى أنه حقيقة فوق هذه النزاعات الفكرية الموجودة بين مختلف الأطراف. أما عن موضوع الملتقى السادس للجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، فقال الدكتور بوساحة، إنه ذكر في الافتتاح الرسمي لهذه الفعاليات بأننا مختلفون بالطبيعة، وأن هذا الاختلاف ليس خطرا، مضيفا أن هناك في الجزائر من يعتقد أن التنوع الثقافي الموجود بيننا هو اختلاف في الهوية وغيرها، لينفي هذه المزاعم ويؤكد ضرورة وجود هذا التنوع، وأنه علينا في هذا النطاق أن نسعى إلى إيجاد طرق تسيير هذا الاختلاف، وهو الموضوع الذي نسميه العيش المشترك، أي كيف نجد آليات لنعيش حياة هادئة مستقرة ونستفيد من اختلافاتنا، ليختتم حديثه بأهمية هذه الاختلافات التي من دونها لا يمكن أن يتحرك المجتمع، فآراؤنا المختلفة هي التي تصنع حركية النقاش والحوار، والدولة التي تحتضن هذا الاختلاف هي التي تحقق العيش المشترك الذي يعتبر من صميم الموضوعات التي تناقشها الفلسفة. الدكتور أحمد دلباني:ليس على الفلسفة تبرئة نفسها اعتبر الدكتور أحمد دلباني أن الفلسفة لم يتغير مفهومها كثيرا بقدر ما تغيرت مهامها عبر التاريخ، مضيفا أنه عبر حقب التاريخ التي شهدت ميلاد وازدهار الفكر الفلسفي، كانت للفلسفة مهام كثيرة، وكانت تحاول الاستناد إلى العقل، مؤكدا في السياق نفسه، استقلال هذا العقل في مواجهة قوى أو مؤسسات أخرى، تحاول أن تفرض نظاما للفكر أو الحياة، يتجاوز حدود العقل الإنساني والإرادة الإنسانية. كما أكد الدكتور ارتباط الفلسفة بالإبداع، وبالعقل، وبالحرية وبالمنطق، وبالتالي كانت دائما تبحث عن المعقولية وأن تُعقلن العالم، حتى في العصور الوسطى عندما كانت الفلسفة أحيانا تخضع لقوة قاهرة، قصد بها المؤسسات الدينية وهيمنة الإيمان الديني، إلا أنها انتفضت فيما بعد وحققت نوعا من الاستقلال عن الدائرة الدينية، وهذا يمثل دائما شغف الفلسفة، ومهمتها الأساسية، ليضيف أن الفلسفة هي الممثل الدائم للعقل والإبداع الإنساني ولمركزية الإنسان في الفهم والمعرفة والفعل التاريخي. في رده على سؤال "المساء"، حول قدرة الفلسفة على التنصل من اتهامات التيارات الدينية بالتضليل، أجاب الدكتور دلباني أنه ليس من مهام الفلسفة أن تبرئ نفسها أمام أية جهة كانت، مضيفا أن الدين بالنسبة للفلسفة ليس سلطة تطاع، وعلى الدين أن يحترم نفسه باعتباره إيمانا، لكن الفلسفة تحاول أن تبني المعرفة وأن تقرأ العالم باعتباره شيئا يستطيع العقل أن يكشفه وأن يضيئه"، ليضيف أيضا أن الفلسفة ليست مطالبة بأن تبرئ نفسها، بالعكس، على السلطات الأخرى التي تستند إلى اللامعقول واللامنطق أن تبرر نفسها أمام الفلسفة. أما عن علاقة الفلسفة بموضوع الملتقى (العيش المشترك)، اعتبر الدكتور أن الفلسفة يمكنها أن تؤسس لعلاقة إنسانية راقية بين الإنسان والآخر، من خلال تركيزها على منطق الحوار واستنادها إلى مفهوم عميق، وهو نسبية الحقيقة، مضيفا أن هذه النسبية تعني أننا لسنا مركز العالم، وأن الآخر طرف ضروري من أجل الوجود والمعرفة والتكامل الإنساني. مؤكدا أن هذا أبرز ما يمكن أن يؤسسه الفعل الفلسفي، رغم الصعوبات الكثيرة التي يلاقيها في عالمنا اليوم، حيث إرادة الهيمنة وطغيان الأصولية وانفجار العنف، كل هذا يبين أن الفلسفة مازالت تعاني من غياب الصوت، وغياب التأثير في مجتمعاتنا. يعود الدكتور ويؤكد أن الإيمان بحقائق مطلقة ليس مشكلة الفلسفة، فالفلسفة تؤمن بالنسبية، لأن الفلسفة بحث دائم، مضيفا أن "الفيلسوف في الوقت الراهن، لا يمكن له أن يعتقد أنه يمتلك مفاتيح الحقيقة المطلقة، خصوصا أنه منذ أكثر من قرن، تعيش الفلسفة عهدا كبيرا دشنته فلسفات الشك والتفكيك، هذا التفكيك يبين أن كل ما نقوله هو تأويل وأنه لا يوجد أساس نهائي للأشياء، إذن ليست هناك حقائق مطلقة، الفلسفة الآن لا تؤمن بالمطلق، إنما كل شيء نسبي، هذه الفلسفة، أما إن كانت هناك اتجاهات أو أصوليات أو سلطات، فتلك مشكلتها وليست مشكلة الفلسفة". الدكتورة حورية منصوري معيز:لا حدود للفلسفة أشارت الدكتورة حورية منصوري معيز من جامعة تيزي وزو، إلى حدوث تغيير في طرق تدريس الفلسفة، حيث أصبح الأستاذ يحفز الطالب للاهتمام بالدارسات الفلسفية التي تعنى بما يعيشه الفرد والأسرة، سواء داخل أو خارج الوطن، مضيفة أن الاهتمام بالفلسفات القديمة شيء جميل، لكن الأجمل أن ترتبط الفلسفة بالمشاكل التي يعاني منها الإنسان، وأن تحثه على التساؤل والتفكير، ومن ثمة محاولة إيجاد الإجابة، لتؤكد أن مثل هذه الموضوعات لا تهم دارس الفلسفة فحسب، بل تعني كل شخص مهما بلغت درجة تعلميه ومهما تقدمه في السن، خاصة أننا نعيش في زمن التغيرات الكبيرة والتطورات السريعة. طالبت الدكتورة بضرورة التساؤل من دون أية محظورات، لذا يمكننا أن نجد حلولا لمشاكلنا، منوّهة بأهمية أن يتحاور الإنسان مع الطرف الآخر، باعتبار أن طرح السؤال مسألة مهمة، فعندما "نتساءل، لا بد أن يكون أمامنا شخص آخر، فيمكن أن نطرح أسئلة لأنفسنا، لكن ما يهمنا هو تجاوز أنفسنا وطرح الأسئلة للآخر والعكس صحيح، حتى نثري أفكارنا ومجد حلول لمشاكلنا". في المقابل، قالت الدكتورة إن المجتمع الجزائري يخشى الفلسفة، لأنه يعتقد أن الفلسفة هي التساؤل في أمور الدين، وكذا حول الأمور الميتافيزيقية، لتؤكد أن الفلسفة تتناول جميع المواضيع بدون طابوهات وبدون حدود. في حين أكدت قدرة الفلسفة، حل الكثير من المعضلات، من بينها قضايا الجهوية والتعصب، من خلال تشجيع التقرب إلى الآخر والتساهل أمام أفكار الغير، بل حتى قبولها بدون تعصب وعنف، حتى ولو كان ذلك يحد من حريتنا، لتضيف أنه "أكيد عندما أقبل رأيك، أضع حاجزا بالنسبة للآراء التي أدافع عنها، لكن مع هذا لا بد أن أستمع إليك، لا بد أن آخذ بفكرتك، لعلنا نجد معا حلولا لإشكالات مطروحة". ❊ لطيفة داريب