محمد الأخضر السائحي، صوت قويّ في المدوّنة الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة، وهي منزلة بلغها بفضل ذلك النسيج الشعري المتميّز والمتفرّد، ومن خلال التراكيب اللغوية والإيقاعية والبلاغية والأسلوبية...وهي ألوان تشكّل اللوحة الجمالية لتلك القصائد، وليس من العسير نقديا أن نكتشف الاتجاه العام للسائحي من خلال شعره، لكن بشرط وحيد وهو الإطّلاع الشامل على مختلف الكيانات القصيدية التي جادت بها قريحته وضمّنها تجربته في الأطر المنفردة أو ضمن الجماعة وخلال ظروف مختلفة. كما أنّ المطلّع على قصائد السائحي سيقف بلا شك على سمات فنية تميّز شعره، وهي ميزات اجتمعت أو تفرّقت لدى شعراء العربية منذ الجاهلية إلى اليوم مع نوع من التفرّد والتجديد من شاعر إلى آخر وفق سياقات فنية متفاوتة، مستجيبة في أغلب الأحيان لظروف العصر أو لروحه أو بما يعرف تجاوزا بالتجربتين الشعرية والشعورية. أردت أن أدلي بهذه الخواطر بعد مشاركتي في الملتقى الدولي الثاني للشاعر محمد الأخضر السائحي الذي نظمته مديرية الثقافة بولاية ورقلة أيام: 25، 26 و27نوفمبر2008 واحتضن فعاليته المركز الثقافي "مفدي زكريا" بعاصمة الولاية، وقد ركّزت النسبة الغالبة من المحاضرات والتدخّلات على سيرة الشاعر وحياته من مختلف الجوانب: النشأة، التعليم، الرحلات، النضال...إذا استثنينا دراستين تناولتا شعر الأطفال لديه، وهي جوانب وإن كانت تسلّط الضوء على المراحل التاريخية لسيرته، قد تنفع المهتمّين بالتواريخ والسير...والذي كنت أودُّه وغيري من الدارسين والباحثين هو تناول الموروث الأدبي للسائحي بشقّيه الشعري والنثري، تماشيا مع الدراسات الجامعية والأكاديمية الحديثة وضمن الحقول النقدية المعاصرة، وهو أمل يبقى قائما إلى غاية تنظيم الملتقيات القادمة حول الشاعر نفسه. من خلال قراءاتي المتكرّرة للدواوين السائحية السبعة أو لتلك القصائد التي لم تتضمّنها تلك الدواوين تبيّن لي أنّ السائحي جمع بين خاصيتين يرضاهما النقد الحديث وهي الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وأقصد بالمعاصرة الحفاظ على نمط الموروث التراثي شكلا ومضمونا والذي يشكّل التاريخ والرصيد المعرفيين للأمة الشاعرة (العرب) كمّا يشكّل صمام الأمان الذي يحفظ من الزوال والفناء أو الذوبان في الغير. أمّا المعاصرة فأردت بها مسايرة التطوّر المعرفي والفكري اللذين يعرفها الإنسان المعاصر (العولمي) بعدما أصبح من السهل تخطي تلك الحواجز والخطوط (الحمراء)، لكن دون الذوبان المطلق الذي يخفي معالمنا الشخصية، ويتناقض أو يتعارض وقيمنا ومبادئنا...قد يخالفني البعض في هذا المنحى،لكنه خلاف لا يفقد للودّ قضية...لقد أفضت بي تلك القراءات الدراسية للقصيدة السائحية إلى الوقوف على سمات فنية تميّز قصيدته، وأبرز هذه السمات تمثلت فيما يلي: فنيّةُ اللغة: تمثّل اللغة لأيّ شاعر المدار الذي يسبح فيه من خلال نظم شعره، واللغة كائن ساكن يوقظه الشاعر أو يحرّكه متى وكيفما شاء، ولا يعني ذلك أنّها سهلة طيّعة بل العكس من ذلك فما زالت تراوده ومازال هو يراودها حتى يخضع أحدهما للآخر..فإن تمكّن هو منها تفجّرت ينابيع الجمال والإبداع بكيفيات أو صنائع مختلفة، فتجدها تسترسل مائية سلسة أو ربما استعصت عليه فتجيء جامدة متحجّرة وهكذا. والسائحي من الجانب اللغوي متمكّن من ناصيتها معجما ونحوا وصرفا، وتبعا لخبرة ما، أتقن حياكة اللباس الجمالي (البلاغي) لها فانتقل بها من المعنى المعجمي إلى الدلالة المجازية في مختلف صورها: تشبيها أو استعارة أو كناية أو تراسلا...كما تميّزت لغته بظواهر أسلوبية كالتكرار والترادف، وقد أديا وظائف لغوية مباشرة أو دلالية أو نحوية أو صوتية داخل الحيّز الشعري. أمّا مصادرها لديه فقد تنوّعت بين مصادر دينية: قرآن كريم، حديث شريف،أو مصادر أدبية: شعر، نثرلا أو مصادر الحركة الوطنية الجزائرية: لغة الخطاب الإصلاحي، لغة الخطاب السياسي... قل ليوليو هنا نفمبر باق خلّد النصر مجده تخليدا كما تنوّعت معاجمها الفنية تبعا لتنوّع موضوعات شعره، فنجد لديه معاجم الألفاظ: الدينية والوطنية والقومية والإنسانية،كما نجد ألفاظ الحالة النفسية وألفاظ الطبيعة وهكذا. ولى الوجوه جميعا شطر قبلته وقبلة العرب مازالت فلسطينا وقوله: لا عنصري بإفريقيا ولامستبد يسوس الجموع
فنيّة الصورة: الصورة الفنية داخل النص الأدبي، مسألة شغلت النقاد والدارسين كثيرا فخصّصوا لها حيّزا كبيرا من مصنفاتهم، كما أنّهم أخضعوا الكثير من الأعمال الشعرية لهذه المسألة النقدية فتوصّلوا إلى نتائج كثيرا ما ارتاح لها الدرس النقدي... لقد أبدع السائحي في تصميم صوره الشعرية، فيخيّل إليك أنّك حاضر أو مشاهد لتلك اللقطات التي ينقلها بأمان، خاصة عندما يكون العاقل (الإنسان) طرفا أساسا ضمن الكلية العامة للصورة، مثل قصائده التي يصف فيها الطائرة أو تلك التي تحدّث فيها عن زلزال الأصنام (الشلف) أو ذلك المشهد المأسوي الذي تصنعه العمياء (زوجته)...كلّها مشاهد نبعث على الإثارة والتكثيف والانفعال النفسي. والصورة عنده أيضا إما جزئية: تشبيه أو استعارة أو كناية أو تراسل، أو كلية: مجموعة من الجزئيات المركّبة المتشابكة. تكاد من روعة اللقيا تكذبني عيني،وترتاب في الأصوات أذاني كما أنّ صورته لا تصنعها التشكيلات البيانية فحسب فقد تصنعها اللفظة مفردة فيها من التموّجات الحركية والهلامية الكثير... فنية التناص: التناص الذي وضعت مصطلحه ومفهومه جوليا كريستيفا، أثبت أنّ النصوص تتداخل فيما بينها، فالمتلقي وهو يتجوّل داخل نص ما تعترضه أثار له سابق عهد بها، يمكنه أن يحدّد موقعها بفطنته وذكائه..والتناص عند السائحي، لبنة أساسية في بناء قصيدته، فلا تخلو واحدة منها، من إشارة أو تلميح أو تضمين أو اقتباس. إنّ مصادر التناص في القصيدة السائحية متنوع بين التناص الديني: القرآن الكريم، الحديث الشريف: فلو كان ما يجري بلبنان حولنا لقلنا لصهيون ادخلوا الباب سجّدا وقوله: عطرته دماء مليون شهيد حر فهو كالمسك من دم الشهداء والتناص الأدبي:شعر أو حكمة أو مثل... بغثهم يستنسر اليوم فوقنا وحول بزاة في مرابعنا شهب فنية الرمز: الرمز في العمل الشعري يزيد من كثافته ويحمل المتلقي على التأويل الذي يستجيب لرغبته هو مهما كانت تلك الرغبة تخالف وجهة صاحب النص..والبناء الرمزي تنوّع عنده أيضا فهو يستدعي الحادثة التاريخية ويستدعي في المقابل الشخصيات التي ارتبط اسمها بحادثة كان لها الأثر في تغيير التاريخ،كما وظّف الأساطير والتراث الشعبي، فكلّ هذه التوظيفات والاستدعاءات أدّت الدور التكثيفي داخل الإطار النصي أو الخارج نصي، وكتب لها الخلود والاستمرار على يديه لتحفظها الأجيال وتستسقي ماهيتها... هي القيادات إن كانت موفّقة تغدو المعارك يرموكا وحطينا تجتث كلّ خبيث في مسيرتها وليس ينقذ "فورد" ثمَّ "رابينا" فنية الإيقاع: الإيقاع في الشعر يتمظهر في شكلين أساسين: إيقاع داخلي وآخر خارجي، فأمّا الداخلي فتمثّل في التصريع والجناس والتوازي الصوتي والتصدير، والخارجي تمثّل في البناء العروضي (موسيقى الشعر) من وحدة البحور ووحدة القافية وحرف الروي. فالجانب الإيقاعي لدى السائحي كان ثريا إذ نجده قد صرّع معظم قصائده وأثراها بالجناس المختلف ،والتوازيات الإفرادية أو التركيبية..أمّا العروض فقد نظّم قصائده على أكثر البحور، من مختلف الدوائر والتزم القافية بأنواعها والروي الذي ميّزته الحروف نفسها التي شاعت عند الشاعر العربي قديما وحديثا وسيرا على نمط القصيدة العربية الأصيلة... فنية قالب الشعر: لم يقف السائحي عند القصيدة العمودية بمفهومها التقليدي بل تجاوزه إلى البناء القصصي الحكائي (قصة ثائر)، وإلى البناء المسرحي الحواري (قصيدة الراعي)، كما نظّم الأوبيرا (حكاية ثورة) والأوبيرات (أنا الجزائر) والأناشيد والأرجاز والتشطير (تشطير البردة)،كما نجد له محاولات محتشمة في الشعر التفعيلي (الحرّ)، وهذا التنويع في القالب الشعري من شأنه أن يبعد الملل والضجر عن المتلقي،كما يبيّن قدرة السائحي على الإبداع والابتكار... هذه بعض السمات الفنية في القصيدة السائحية والتي أوردتها من باب الإشارة والتذكير، فهي في الواقع جديرة بالتفصيل والعرض، قد أعود أو ربما يأتي غيري ليتناول جانبا منها بنوع من الإثراء والتوسّع..هذه خواطر سريعة جالت في ذهني وأنا أتابع فعاليات الملتقى السابق الذكر، وفي اعتقادي أنّه مهما قيل عن السائحي فلن يفيه ذلك حقّه، فالرجل أعطى للجزائر وللشعر جهده ووقته، فعليها أن تقابل هذا الجميل بحدَثٍ يليق باسم الشاعر ومنزلته التي تعدّت حدود الوطن إلى الوجود الإنساني الأرحب... الأستاذ:جعفر زروالي (قسم الماجستير،جامعة الجزائر)