أمريكا يحكمها المتطرفون من رجال الدين، ذلك ما نستنتجه من تصريحات أهل السياسة ومن بعض الذين لهم باع في شؤون الفن والأدب والسينما. وكلهم ذو صلة بهذه الفرقة من الدين المسيحي أوتلك. ولعل أظهر الجوانب الفنية التي تمثلهم هي بعض الأفلام التي تصور حياتهم خلال القرن التاسع عشر، وخاصة في أثناء مغامراتهم صوب الغرب القصي. (المورمون) و(الميتوديست) و(الكاثوليك) و(الكويكرز) و(البروتستانت) و(الإنجيليون) ومن لف لفهم هم الذين مازالوا يسيطرون على دواليب الحكم في أمريكا مع استخدام القدرات المالية. أذكر أنه كان في أعالي حينا بالجزائر عام 1961، قسيس أمريكي متشدد. ويحدث له مرة أومرتين في الأسبوع أن يهبط صوب حي باب الوادي لقضاء حاجاته. يحكم شد نظاراته على أرنبة أنفه الشديد الاحمرار، ويركب دراجته النارية منزلقا عبر أزقة حينا في هدوء. وكان من الطبيعي أن تتوثق الصلة بيننا وبينه. لست أدري لأي سبب استوطن الجزائر في أخريات العهد الاستعماري، ولست أدري أيضا إلى أية فرقة مسيحية كان ينتمي، المهم هو أنه كان مسيحيا متشددا. وقد لمست ذلك ذات يوم عندما دخلت معه في حوار حول الأدب الأمريكي، وحول الروائي (جون شتاينبك) الحائز على جائزة نوبل للآداب، ومؤلف روايات (شرقي عدن) و(عناقيد الغضب) و(رحلة مع تشارلي) وغيرها من الكتب الأخرى. لم يعجبه حديثي عن شتاينبك، وكنت يومها حديث عهد بالأدب الأمريكي، وبالروائيين الذين ذاع صيتهم خلال النصف الأول من القرن العشرين. تأفف وقال: إنه كاتب ملحد! ومعنى ذلك أنه كاتب شيوعي، أومناصر للأفكار الشيوعية، ولا يؤمن بالدين، أي دين. لم يحاول إقناعي لأنه كان ماضيا في ما يؤمن به، بل، ولعله جاء إلى الجزائر بعد أن شعر بأنها على وشك أن تنال حريتها. بل، ولعل الجماعة الدينية التي ينتمي إليها هي التي أرسلته على سبيل التقصي مثلما حاول الصهاينة أن يضعوا أقدامهم في بلادنا في الفترة التي سبقت استقلالها، وفي مطلع عام 1962 على وجه التحديد. ومضى الزمن، وأثبتت الأيام أن شتاينبك لا يقل تطرفا عن ذلك القسيس الذي وصفه بالشيوعية والإلحاد. ففي عام 1966، تخلى عن أفكاره التي دافع عنها في كتاباته طيلة أكثر من ثلاثة عقود، ووقف مؤازرا للغزو الأمريكي لجنوب الفيتنام، تماما مثلما فعله غيره من الروائيين الذين ادعوا التقدمية في وقت من الأوقات، ثم انسلخوا عنها بسبب من أن تكوينهم الأول هو تكوين متطرف، أي يأخذ بأسباب كل ماهو متزمت في المسيحية. ولذلك أمكن القول إن أمريكا تعرف كيف تستخدم أبناءها. وقد أثبت الرئيس جورج بوش الإبن أنه لا يقل تطرفا عن بني قومه حين جاهر بعدائه للإسلام والمسلمين، وحين أمر بغزو العراق عام 2003. ولهذا السبب أيضا وقف المسلمون نفس الوقفة المعادية لكل ما هو أمريكي. ولم يبق في الأرض العربية الإسلامية إلا من له ضلع في أرض الخيانة.