يعد الراحل محي الدين بشطارزي أحد أهم الشخصيات المرجعية التي صنعت الثقافة الجزائرية في القرن العشرين وأهم شاهد على الأحداث السياسية والاجتماعية التي أنتجها المجتمع المدني الجزائري بنضاله عبر كافة الوسائل لضرب الهيمنة الاستعمارية خاصة الثقافية منها. بشطارزي شهد له الباحثون الأجانب بأنه ظاهرة ثقافية جزائرية لا تقبل التكرار. نظمت مؤسسة فنون وثقافة بالتعاون مع المركز الوطني في الانثرو بولو جيا الإجتماعية والثقافية أول أمس، يوما دراسيا حول "محي الدين بشطارزي: مسار وخطابات" شارك فيه مجموعة من الباحثين والمؤلفين والفنانين الذين وقفوا جميعا وقفة عرفان لهذا الهرم الذي خدم الثقافة الجزائرية وأفنى فيها عمره. في مداخلته تحدث الصحفي المتقاعد كمال بن ديمراد عن "أميرال المسرح الجزائري" وتناول جوانب مهمة من حياته الفنية منها إقحامه للمرأة الجزائرية في العمل المسرحي وفي الغناء كما فعل مع سيدة الشاشة الفضية كلثوم، واكتشافه لمريم فكاي وفضيلة الدزيرية اللتان إلتحقتا للعمل معه في المسرح. تحدث أيضا عن جولات بشطارزي في أوربا وفي الوطن العربي وتعاونه مع بعض الفنانين العرب منهم "المحب" اللبناني الذي عمل معه في المسرح الوطني (الأوبرا سابقا). اهتمامه أيضا بالبرامج الإذاعية التي تكتشف المواهب ليضمها بدوره الى فرقته كما حدث مع الصغيرة فريدة صابونجي التي اكتشفها من حصة إذاعية صبيانية كان ينشطها رضا فلكي في الأربعينيات وقد أعطى لهذه الفنانة القديرة لقب "الانجليزية". أما الدكتور ملياني الحاج من جامعة مستغانم فاعتبر باشطارزي ذاكرة الجزائر الثقافية والفنية على امتداد قرن من الزمن، هذا العملاق الذي عمل وانتج وأبدع في ظروف الحرب الثقافية التي تبنتها فرنسا ضد شعبه، كما أثار المحاضر علاقاته مع جمعية العلماء مثلا، ومع الشاعر مفدي زكريا، وغيرها من العلاقات بين المثقفين والسياسيين الوطنيين وحتى الأجانب. أشار الدكتور ملياني الى تجربة بشطارزي الرائدة في إعادة بناء الموسيقى الكلاسيكية الجزائرية، ودوره في الانتاج ومدافعا عن حقوق الملكية الفكرية للفنانين حيث كان أول من نادي الى حماية حقوق الفنانين، إضافة الى تجربته في التسيير (مانا جمنت) للفرق المسرحية خاصة في سنوات الأربعينيات والخمسينيات والتي كانت رائدة ومتقدمة على ما يحصل الآن من فوضى وعشوائية في التسيير، علما أن 48 فرقة مسرحية كانت تنشط في سنة 1954 وحدها وتجوب قرى ومدن ومداشر الجزائر وتعرض في أي مكان كان حتى ولو كان مزرعة، وكانت تنسق مع جمعيات المجتمع المدني كالزوايا، والأحزاب والكشافة وغيرها. الكثير من الفنانين الذين تعاون معهم بشطارزي أوتبناهم فنيا التحقوا نتيجة إلتزام الفن بالنضال في تلك الفترة بالعمل الثوري واستشهد بعضهم في الثورة التحريرية. ألف بشطارزي العديدمن الأغاني ذات المعاني السياسية المناهضة لفرنسا منها مجموعة ب 17 أغنية تعرض على إثرها للمحاكمة. كما ألف بشطارزي 14 أغنية سياسية أخرى في مسرحية »على النيف« سنة 1937 منها أغاني أخرى ألفها رشيد القسنطيني وهي تهاجم السلطات الفرنسية في الجزائر، وقد تحايل بشطارزي على الرقابة بتحريف نصوص الأغاني عند ترجمتها من العربية الى الفرنسية. المحاضر فند الصورة التي يرسمها البعض عن بشطارزي بأنه كان برجوازيا بل أكد أنه كان مؤمنا بمطالب اليسار التي تقف الى جانب العمال والمدحورين. ومن أغاني الحب التي ألفها بشطارزي »العاشقة«، »حبيب ماجانيشي«، »ليلى« وغيرها وكلها باللهجة العاصمية الأصيلة، لتبقى أغنيته »صوت الجزائر« أحسن ماغنى لوطنه. كتب بشطارزي عن مجتمعه وصوره أحسن من أية وثيقة تارخيية أوصورة فوتوغرافية، إلا أن القراءات الخاصة بتراثه تبقى رديئة ومنغلقة ولم يتم ربطها بالسياق التاريخي والاجتماعي للثقافة الوطنية. عاد الصحفي المعروف (متقاعد) والباحث، عبد الحكيم مزياني، إلى تاريخ بشطارزي وجذوره الضاربة في القصبة، معرجا على الحراك السياسي والثقافي الذي ظهر في بداية القرن العشرين خاصة مع ظهور الأمير خالد، الذي شجع النضال السياسي والثقافي ضد فرنسا طارحا مشروعه الوطني والذي أكد المحاضر انه لم يكن نتاجا لليسارالفرنسي أولنقابة عمالية فرنسية. من جهة أخرى، أكد الأستاذ مزياني انه أشرف على صدور مذكرات بشطارزي في جزئها الثاني والثالث والتي لا تؤرخ فقط لحياة شخصية بشطارزي بل أنها تؤرخ لتاريخ الجزائر الثقافي والسياسي في القرن ال 20، وعلى الرغم من هذا الحضور إلا أنه لم يسلم من هجوم البعض الذين تناسوا دوره الوطني في تحضير الأجواء والذهنية الوطنية الشعبية في النهضة والاتجاه نحو الثورة. توالت بعدها المحاضرات والشهادات التي أجمعت على هذا التراث الوطني الهام الذي لا يقبل التهيمش أوالنسيان.