محطات كثيرة في حياة الكاتب محمد بلحي في الكتابة والصحافة، وفي تخصصه علم الاجتماع، حاولت "المساء"، أن تتوقف عندها وتستخرج أبرز ما جاء فيها في هذا الحوار الذي أجرته معه. ❊ تحدثت في ندوات ثقافية عن سرقة فرنسا لأرشيفنا، حتى أنك ذكرت بأنه لا يمكن الحد من الفيضانات بالعاصمة، لأننا لا نملك أرشيف المجاري، هل من تفاصيل أوفر حول الموضوع؟ ❊❊ سرقت فرنسا الاستعمارية منا حلينا وأرشيفنا، خاصة الذي له علاقة بشجرة العائلة وتسيير الأمور الاقتصادية، مثل طريقة توزيع الماء بالتساوي، فتركونا كالعميان لا نحسن سلك طريقنا، هذا الأمر لم يفعلوه مع المغرب وتونس اللتين احتلوهما بعد احتلال الجزائر العاصمة وبجاية ووهران. استعمار الجزائر كان حلما لفرنسا منذ القرن 17. في الحقيقة، لم يكن استعمارا، بل استيطانا ليس مثلما حدث على مستوى تونس والمغرب، حيث كان الحاكم المحلي يحكم البلد على المستوى الداخلي، بيد أن فرنسا سعت لأن تكون الجزائر مقاطعة فرنسية، وأرادت إقصاء هوية الشعب الجزائرية، بل ونزعها من جذورها. لكن لأول مرة، ينهزم استعمار استيطاني، وهو لم يحدث في إفريقيا الجنوبية والولايات المتحدةالأمريكية، رغم مكوث 132 سنة على أرض الجزائر، لكن بفعل مقاومة الشعب الجزائري، استطاع استرداد حريته. لقد سرق المستعمر الفرنسي ارشيفنا، وأراد مسح ذاكرتنا، حتى منظمتهم العسكرية أحرقت المكتبة الوطنية، ليضيع الأرشيف الذي كان مخزونا هناك، لقد أراد أن يجعلنا بدون ماض حتى نتحطم وننكسر، ليأتي ماكرون ويقول، إن ليس لدينا تاريخ، ويقول أيضا إننا كنا مستعمرين من طرف العثمانيين، وأرد عليه بأن العثمانيين لم ينهبوا ثروات الجزائر، ولم يرتكبوا مجازر، لقد كانت الجزائر محميتهم، ثم في عام 1710، أصبح للجزائر كيان مستقل، يعني في شكل نظام اقطاعي، مثلما كان سائرا في تلك الأيام، وكانت هناك قبائل تدفع الضرائب وأخرى لا تدفع. ❊ لننطلق في مسيرتك الكتابية والبداية ب"يوميات الجحيم، الجزائر 1990-1995"، لماذا كان أول إصدارك تحديدا، حول الأحداث التي شهدتها الجزائر في بداية التسعينيات؟ ❊❊ لأنني كنت أريد أن أترك أثرا في حال تعرضي للاغتيال من طرف الإرهابيين، واخترت هذه الفترة تحديدا، لأنها شكلت بداية الحركة المنحلة المسماة بالجبهة الإسلامية للإنقاذ، إلى غاية حكم الرئيس زروال. ❊ أعقب هذا الكتاب الصادر عام 1997، ثاني كتاب عن "رهبان تبحرين"، إلى ماذا يعود اهتمامك بهؤلاء الرهبان؟ ❊❊ نعم، اعتمدت في كتابي هذا على وثائق، واكتشفت أن من بين هؤلاء الرهبان؛ جنود، كان الجنرال بيجو قد تعرف عليهم حينما التقى بهم في اسطاوالي، وفي عام 1905، حدثت ثورة في فرنسا ضد الكنيسة، لكن فرنسا لم تحارب رهبانها في الجزائر، باعتبارهم حلفاء المستعمر، وقد انتشروا في عدة مناطق، مثل تمزقيدة، في الحقيقة أردت من خلال كتابي هذا، دراسة تاريخ الكنيسة في الجزائر. ❊ لكن لماذا لم تنتشر المسيحية في الجزائر، وحتى في الدول المجاورة بالشكل الذي انتشرت فيه في دول الشرق الأوسط؟ ❊❊ سؤال مهم، لأن المرابطين وبعدهم الموحدون، وحدوا إفريقيا الشمالية، وأعلوا فيها راية الإسلام، ولأول مرة توحدت تلك المنطقة، فلم يعد فيها من يتدين باليهودية أو المسيحية، حتى في وقت القديس أوغسطين، كان من الصعب إيجاد أسقف. ❊ انتقلت في كتابك الثالث إلى عالم مختلف، يتمثل في الرواية، علما أنها الرواية الوحيدة التي صدرت لك إلى اللحظة، حدثنا عنها؟ ❊❊ "موت المتخصص في علم الحشرات" رواية سوداء، لم أتناول فيها فترة الإرهاب التي عرفتها الجزائر، لكنني وظفت فيها بداية انتشار الإسلاميين ومعارضتهم للإبداع، فأنا أحب الكتابة عن الثقافة والتراث، وأن أكتب بكل حرية، وهو ما لا يمكن أن يحدث لو نشرت كتبي في فرنسا، حيث يُطلب منك احتقار اللغة العربية والدين الإسلامي، لنشر عملك مثلما هو الحال مع الكاتب بوعلام صنصال، وأنا أرفض هذا وأكتب بكل حرية. ❊ ذكرت حبك للتراث، بماذا ترد على الذين يرفضون تراثنا الموجود قبل الفتح الإسلامي؟ ❊❊ أعتقد أننا نعاني من مشكل هوية في الجزائر، لأننا نفتقد لمعالم تاريخية وأبعاد يمكننا الاستناد عليها، فقد ركزنا في دراسة تاريخنا على فترة احتلال فرنسا لبلدنا، ومن بعدها فترة حكم الحزب الواحد، ولم نسمع بالأمازيغية إلا في ثمانينيات القرن الماضي، وهناك من لا يعترف بالإسلام، وآخر لا يعترف بالأمازيغية، وثالث لا يعترف بالفترة الرومانية التي تقدر بستة قرون كاملة، كلهم مخطئون، وأرى أن هذا الأمر كانت له غاية سياسية وإيديولوجية، فقد كنا نتحدث فقط عن القومية العربية، ولم نتحدث أبدا عن القديس أوغسطين إلا عام 2000 مع الرئيس بوتفليقة. نعم قبل الفتوحات الإسلامية في الجزائر، كان هناك جزائريون، لماذا لا نتحدث عن أوغسطين وعن تكفاريناس؟ وحتى الفتوحات الإسلامية قد وجدت مقاومة من طرف كسيلة والكاهنة، ثم دخل الجزائريون دين الإسلام ونشروه حتى في الأندلس. لذا أؤكد أنه بدون معلم لا يمكن للإنسان أن يكون له وجود، فالجزائري هو كل هذا، وفي هذا السياق، أؤكد أنه لا يوجد عرق خالص لشعب ما، إلا في مناطق منعزلة من العالم، مثل الأمازون، حتى الملوك في أوروبا كانوا يتزوجون من نبيلات من دول أخرى. ❊ صدر لك كتابان عن بسكرة، هل شعرت بالحاجة للكتابة عن بسكرة، لأن أصولك تعود إلى تلك المنطقة؟ ❊❊ لست مجبرا على الكتابة عن بسكرة، لأن أصولي تعود إلى هذه المنطقة، فبسكرة كانت في القديم وجهة موضة للإنجليز، ثم أصبحت قبلة عالمية منذ عام 1881، فقد كان لها حمام يلجأ إليه من يبتغي الشفاء من داء التهاب المفاصل، أي تحولت إلى محطة شتوية، فكان كل الفنانين والتشكيليين والموسيقيين يذهبون إلى بسكرة، لاكتشاف تراث آخر وألوان أخرى، أنا لا أفتخر بالفترة الكولونيالية في الجزائر، لكن بسكرة كانت مشهورة، فقد تحدث عنها ابن خلدون وكذا مستشار الأمير بن مزني، وكانت تشكل طريق الحفصيين والمرينيين، فكانت تقع في خط النخيل، حيث يمر عليه الحجاج القادمون من المغرب وتلمسان. في المقابل، تم رسم لوحتين مهمتين حول بسكرة، الأولى بعنوان "عار، أزرق، ذكريات من بسكرة" لماتيس، رسمها بعد أن زار بسكرة عام 1805، وقد تأثر بيكاسو بهذا العمل ورسم لوحة "أوانس دافينيون". ❊ هل تعود كتابتك لمؤلف حول ثورة الزعاطشة، رغبة في تسليط الضوء على ثورة شعبية غير معروفة بشكل كبير؟ ❊❊ أكيد، فقد لاحظت أن العديد من الأقلام والأفواه تناولت زعماء المقاومات الشعبية، إلا الشيخ بوزيان زعيم معركة الزعاطشة، التي تعتبر أول معركة وجد فيها الجيش المحتل نفسه في قلب حرب الواحات، فلم تكن حربا وجها لوجه، بل كان البساكرة ينتقلون بخفة إلى الواحات، وقد عُرفت تلك الفترة، وبالضبط عام قبل المعركة، أي في 1848، اندلاع ثورات في أوروبا ضد الممالك، ومن بينها ثورة ضد فيليب ملك فرنسا، وقد وصلت هذه المعلومة إلى آذان الجزائريين، كما شهدت تلك الفترة جفافا في تلك المناطق وارتفعت الضرائب أمام رفض سكان المنطقة دفعها، وسمع الشيخ بوزيان الذي كان في القصبة وقرر الانتفاضة، فحدثت معركة الزعاطشة، وتفاجأ المستعمر من قوة المحاربين، خاصة بعد أن أخبرهم بن قانة بضعف بوزيان، لكنهم لم يستطيعوا القبض عليه، فحاصروا المنطقة بأكثر من 7000 جندي ولمدة 51 يوما، وفي 26 نوفمبر، حدثت مجزرة حقيقية واستشهد أكثر من 2000 من أبناء المنطقة، وأخذت فرنسا جماجم بعضهم، وهي التي أعيدت لنا مؤخرا. وقد كنت من بين الذين طالبوا بإعادتها، إلا أنه لم تكن هناك إرادة سياسية في البداية، حتى أن أويحي قال؛ لتظل الجماجم في فرنسا، لكن الأمر اختلف بعدها. نعم يجب أن تكون هناك إرادة لاستعادة أرشيفنا الذي تتحكم فيه بعض القوانين، حيث أن هناك أرشيفا لا يمكن فتحه إلا بعد سنوات معينة. لهذا أعيد وأطالب بأهمية استعادة الأرشيف، لأن من دونه سنواصل سيرنا في طريق مبهم، لقد خلق جنرالات فرنسا الجهوية في الجزائر، لكن أعتقد أنه منذ 1980، تقدمنا خطوات بالحديث أولا عن الأمازيغية، وأصبح الناس فيما بعد يفرقون بين الخطاب الديني والخطاب الإرهابي، وأصبح للمرأة قيمة في المجتمع، حيث نجدها في كل مناصب الشغل. ❊ كتابك "منارات الجزائر"، هل هو رد على افتخار فرنسا ببناء منارات في الجزائر؟ ❊❊ نعم، لقد قام المعهد الفرنسي بالجزائر بإصدار كتاب حول المنارات التي بنتها فرنسا خلال احتلالها للجزائر، لكنني اكتشفت أن أولى المنارات في الجزائر لا تعود إلى تلك الفترة، بل تعود إلى فترة حكم الموحدين في القرن 14، وحتى في فترة الفينقيين كان سكان شرشال يتواصلون فيما بينهم بواسطتها. نعم علاقة الجزائر بالبحر لم تكن وليدة فترة استعمار فرنسا للجزائر، صحيح أن فرنسا بنت منارات في الواجهة الغربية للبحر، لأن تلك المنطقة عرفت بزوغ المقاومات الشعبية، لكي تجلب السلاح بسرعة، وكمثال عن ذلك، منارة رشقون بعين تيموشنت، ثم بنوا منارات في الجهة الشرقية بدواع اقتصادية لتصدير القمح والخمر عبر البحر. وفي هذا السياق، أطالب بالحفاظ على جميع المنارات في الجزائر، لأنها تراث قيم. ❊ تحدثت في ندوات سابقة عن مصدر طريق الذهب، وقلت إنه جزائري، وليس مغربيا مثلما يدعي المغاربة؟ ❊❊أول من استعمل طريق الذهب، أي انتقال السلع من شمال إفريقيا إلى بلاد السودان، من طمبكتو وكوت ديفوار والسنغال وغيرها، كانوا الرستميون الذين كانت عاصمتهم تيارت، وكان هذا الطريق أيضا وسيلة لنشر دين الإسلام إلى تلك المناطق البعيدة. أيضا أسس الأخوة مقري من تلمسان، شركة متعددة الجنسيات، من تلمسان إلى بلاد السودان، وكانوا حتى يبيعون ويشترون العبيد، وفي تلك الطريق، خصصت أماكن للاستراحة، فكل هذا أسس علاقات بين منطقتين مختلفتين يربط بينهما الاقتصاد والدين. في المقابل، يمكن ملاحظة قلة أو عدم استعمال الطوارق للذهب واستعمالهم للفضة، والإجابة أن الطوارق مثلا، كانوا يراقبون طريق الذهب، وكانوا يعتقدون أن الذهب يستعمل للسحر ويهتم به اليهود، كما أنه ثمين لا يمكن شراؤه بسهولة، في حين أن التلمسانيين مثلا، يستعملون الذهب لثرائهم. نعم هناك أكثر من طريق للذهب، لكن الأول انطلق من تيارت. ❊ لا تعرف الجزائر بأهرامها، عكس مصر، لكنها موجودة فعلا، وهو ما تناولته في كتابك عنها؟ ❊❊لقد كان النوميديون مسيحا ولم يكونوا يسكنون الأهرامات، كما أن أكثر الأهرامات ليست موجودة في مصر، بل في السودان، وهناك في تيارت 12 هرما منها ما هو محطم، صحيح أنها لا تشبه أهرامات مصر في حجمها الكبير، لكنها مبنية على طراز التراث الإغريقي، لهذا يجب أيضا تثمين أهرامات الجزائر. ❊ ننتقل الآن إلى كتاباتك حول الحكم العثماني في الجزائر، والبداية بكتابك حول الداي حسين الذي عكس ما يقال، لم يفر من الجزائر بعد الاحتلال الفرنسي؟ ❊❊لا يمكن أن نمحي تاريخ ثلاث قرون من الحكم العثماني للجزائر، ما أردت معرفته، هو لماذا استعمرت الجزائر من طرف فرنسا في تلك الفترة؟ كتبت أيضا كتابا عن حكم الداي محمد بن عثمان الذي استمر 25 سنة، وهو ما كان بالأمر الغريب، حيث أن هناك من حكم الجزائر لأيام وفقط، ثم تعرض للاغتيال. أردت من خلال كتبي حول الحكم العثماني للجزائر، أن أؤكد عراقة التاريخ الجزائري، وأنه لا يمكن إقصاء أي فترة منه. فلا يمكن أن يقول أحدهم، إنه لا يعترف بالحكم البيزنطي في الجزائر، ولا بحكم الوندال والرومان، فإذا أقصينا كل هذه الفترات، ماذا سيبقى لنا؟ يجب أن تكون لدينا علامات نتكئ عليها، لم نكن متوحشين، بل كانت لدينا حضارة. في المقابل، يجب قراءة كتاب حمدان خوجة وهو كورغلي (أي نصفه جزائري ونصفه تركي)، وقد كان مستشار الداي حسين، لمعرفة أسباب سقوط الجزائر، إضافة إلى وجود فرق شاسع بين التطور التكنولوجي بين المسلمين والغرب في تلك الفترة، وهو ما أرجح كفة فرنسا عن الجزائر. أما عن محمد بن عثمان، فقد حكم لمدة 25 سنة، لأنه كان صادقا ونزيها مثل الداي حسين، علما أن العثمانيين هم من وحدوا الجزائر التي انقسمت بعد سقوط الدولة الموحدية إلى زيانيين في تلمسان وشلف، وحماديين في بجاية، وثعالبة في الجزائر العاصمة، التي لم تصبح عاصمة إلا بعد قدوم العثمانيين، علاوة على وجود المرينيين في المغرب والحفصيين في تونس، فجاء العثمانيون وأرجعوا حدود الجزائر إلى ما كانت عليه في وقت ماسينيسا، وجعلوا من البهجة عاصمة لهم، وحينما استعمرت فرنساالجزائر، حافظت على نفس الحدود. علما أنه في القرن 15، حطمت كل من البرتغال وإسبانيا طريق الذهب، أي التبادل التجاري الذي كان موجودا بين الجزائر ودول إفريقيا التي كان يطلق عليها اسم بلاد السودان. كما حطمت فرنسا الكثير من معالمنا وسرقت أرشيفنا، وزاد الطين بلة، أقاويل المغرب بأنهم كانوا مملكة منذ القدم، وأن الجزائر لم تكن موجودة وهذا خطأ فظيع، فكل الدلائل تؤكد على وجود الجزائر منذ غابر العصور، علما أن المرابطين جاؤوا من الصحراء الغربية وليس من جنوب المغرب، كما يدعون، حتى أننا حينما نقول "وجه البخس" فإننا نعني بذلك "بوخوس" حاكم المغرب الذي غدر بيوغرطة لصالح الرومان، كل هذه الكتب التي كتبتها وكتب كتبها آخرون، تعطي لنا معالم نتكئ عليها. ❊ صدر لك كتاب "بلاد سيفاكس، سلطان نوميديا"، لماذا كتاب عن سيفاكس من دون غيره من حكام الجزائر العظماء؟ ❊❊ لأنه مهمش، فقد تناول التاريخ بطولات ماسينيسا وتجاهل سيفاكس الذي كان حليف الروم وماسينيسا حليف قرطاج، ثم انعكست الآية. لهذا ففرنسا المستعمرة شجعت الحديث عن ماسينيسا، لأنه كان حليف روما. ❊ كيف يستقي بلحي المعلومات عند كتابته لأعماله التاريخية؟ أنا لست مؤرخا، لكن لدي قاعدة أكاديمية تتمثل في علم الاجتماع، ثم الصحافة، كما أن كل كتاب تاريخي يجب أن يرتكز على وثائق، المشكل هو أن أجدادنا لم يكونوا يكتبون، ففي عهد الكاهنة مثلا، لا توجد كتب، كما أن المؤرخ الروماني سالوست هو من كتب عن يوغرطة وقد تكلم برؤية المستعمر، حتى الوثائق المهمة عن الحكم العثماني أغلبها في اسطنبول ومكتوبة بالعسملي، أي اللغة العثمانية ولغات أخرى، علاوة على وجود أرشيفنا الآخر في فرنسا، ومع ذلك فقد استعنت كثيرا بالأنترنت والتراث الثقافي غير المادي، مثل الغناء، بالإضافة إلى وثائق كتبها قناصلة، مثل الدبلوماسي فانتور دوبارادي الذي قدم معلومات ذات مصداقية، وأخرى خطها علماء وجغرافيون، أي أنني قمت بعمل النملة لإنجاز كتب تترك علامات نستدل بها للمضي قدما. ❊ ماذا علمتك التحقيقات الميدانية التي قمت بها في مسيرتك الصحفية؟ ❊❊ أعتقد أن العمل الصحفي يجب أن يكون مرتبطا بالميدان، وإلا فلا معنى له. في الميدان تعلمت الكثير من الأمور، وأصبحت لدي علاقات مع ساسة وصحفيين وأشخاص آخرين. واليوم أشعر بنوع من الإحباط حينما أرى نفسي محاطا بوسائل تكنولوجيا، تساهم في إيصال المعلومة بشكل رهيب، في حين أنه في زمني، لم يكن باستطاعتي إرسال المعلومة في يومها. أذكر مراسل القناة الأمريكية "سي.أن.أن"، الذي كان فقط من يرسل المعلومة بشكل سريع بالاستعانة بهوائي مقعر. الحمد لله أنني كنت مراسلا لمجلة، بالتالي لم أكن مرتبطا بالأحداث اليومية، ومع ذلك كنت أشعر بنوع من الضيق. كنت أبيت في المخيمات وأنتقل من منطقة غير مستقرة إلى أخرى، كنت أجد نفسي أمام أهوال لا يمكن التعبير عنها بكلمات، فالأحداث الرهيبة تتجاوزك. لم تكن تهمني الإثارة، فمثلا حينما أغطي الحرب على العراق، يهمني أن أذكر ما يحدث فعليا في ذلك البلد والآثار المدمرة للحرب على الشعوب، في حين كان مراسل بلد غربي يهتم مثلا، بالبحث عن مصنع لصنع الأسلحة الكيميائية وغيرها، وكأنه تخلى عن مهامه كصحفي وارتدى رداء المحقق. في المقابل، لاحظت في الفترة الأخيرة، أن الصحفي في الجزائر يكتب لمدة ثلاثة أشهر، ثم يقدم آراءه في أعمدة، بيد أنه يجب أن يكون الصحفي صاحب خبرة طويلة ونضج كبير، أي أن يكون له رصيد، حتى يقدم رأيه في عمود صحفي. كما يجب أن يتحلى الصحفي بالإنسانية ويشعر بالآخرين ويبتعد عن الإثارة. لقد تعلمت أيضا من خلال التحقيقات الميدانية، اليقظة، وهو ما استفدت منه كثيرا في مرحلة الإرهاب التي عرفتها الجزائر، فمثلا كنت أتجنب مناطق في بغداد، لكن القدر أقوى من كل حذر، في المقابل كان الصحفي الذي يأتي من دولة غربية، يُزود بالمعلومات الأمنية، بيد أنني كنت أذهب إلى المناطق الوعرة من دون أي ضمان ولا حتى قناع ولا معلومات. في سبعينيات من القرن الماضي، كانت الصحافة الجزائرية ذات قيمة كبيرة، وكان الصحفي يغطي الأحداث في كل مناطق البلد، فيصبح ملما بمشاكل كل جزء من تراب الوطن. أما اليوم ورغم أن هناك بعض الصحف التي تملك ميزانية ضخمة، إلا أتها لا تهتم بتكوين صحافييها، فأصبح الصحفي غير متخصص، فيوم يكتب عن البطاطا ويوم يكتب عن موضوع آخر. أما الصفحة الثقافية، فحدث ولا حرج، فهي مهملة في أغلب الجرائد، بيد أنه في سنوات السبعينات، كان كلما تُعرض مسرحية جديدة أو يُصدر كتاب جديد، يُّكلف ثلاثة صحفيين للكتابة عن ذلك، حقا بلد بدون ثقافة لا روح له. وأعيد وأكرر أن الصحافة هي الميدان، كما لا يمكن أن نكتب عن كتاب بدون مطالعته مثلا، لقد تكونت رفقة زملائي بشكل جيد للغاية، ولم نقم بما يقوم به بعض الصحفيين من قص ولصق. في المقابل، نعيش اليوم عهدا جديدا للصحافة مع وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبح أيا كان وبمحض الصدفة يمكن أن يكون شاهدا على حدث ما، ونقله إلى العالم، إلا أنه ليس بصحفي، فالصحفي هو ذاك الذي يقوم أيضا بتحقيقات عن أمور مميزة في بلدهو مثل تراث الفوقارة، علما أيضا أن كبار الكُتاب كانوا في الأصل صحفيين، مثل محمد ديب وغابريال غارسيا ماركاز، فقد فهموا تعقيدات الحياة وكتبوا عنها في بعد، أي كتبوا عن خبرة. ❊ ساعدتك التحقيقات الميدانية في الكتابة عن الإرهاب، في بعض المناطق الأكثر تضررا، وهي بوفاريك وبن طلحة والأربعاء، أليس كذلك؟ ❊❊ أنا خريج تخصص علم اجتماع، ولم أدرس الصحافة، لهذا كان همي أن أفهم لماذا عرفت الجزائر الإرهاب، لم يكن يهمني عدد القتلى في انفجار ما، بل أردت الإجابة عن تساؤلي هذا، خاصة أن هناك مناطق فقيرة لم تنتج إرهابا، وجوابي أن هناك مناطق مثل الشطية بالشلف التي عانى سكانها من مخلفات الزلزال، فتم نقلهم إلى شاليهات، حيث الحياة الصعبة، ومن ثمة تحول العديد منهم إلى إرهابيين. ❊ كيف يمكن لصحفي اليوم أن يفصل بين المعلومة والإشاعة في زمن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي؟ ❊❊ نحن نعيش زمن الإثارة، أيا كان يمكن له جلب المعلومة، لكن في ظل كل هذا، الكثير من المعلومات الخاطئة تدور في وسائل التواصل الاجتماعي. حتى أن بعض القنوات زعزعت بلدانا بأكملها بفعل بثها لمعلومات خاطئة، لذلك من الصعب لصحفي اليوم، أن يواجه الحرب السيبيرالية، بل على الدولة - مثلما هو الأمر في الجزائر- أن تدافع عن نفسها، في جو يشبه مثلما حدث في القرن 18، وأعني به الرهانات الجيوسياسية المهمة. ❊ تركت الصحافة في الفترة الممتدة من 1994 إلى 1996، هل نشرت فيها شيئا؟ ❊❊ عشت بطالة في تلك الفترة، وغبت عن الساحة الإعلامية، أردت أن أشعر بنوع من الراحة في وقت كنا نحن الصحفيون معنيون كثيرا بالاغتيالات، صحيح أن ظروف المعيشة لم تكن سهلة، فأنا رب أسرة، إلا أنني اجتزت تلك المرحلة بسلام وهدوء، وبفعل خبرتي في العمل كمراسل حرب، كنت أفكر مثل الإرهابي، أي أنني كنت أذهب إلى أماكن خالية، لأنني أعلم أن الإرهابي لن يلجأ إليها، لأنه يبحث عن الأماكن الغامرة بالناس لكي يقتل أكبر عدد منهم. ❊ اهتممت بفن الراي، لكن بمنظور متخصص في الاجتماع، حدثنا عن ذلك؟ ❊❊ نعم أردت إبراز أن فن الراي ظاهرة اجتماعية بامتياز، وليس موسيقى عيب أن يسمعها الفرد أو شيء من هذا القبيل، فلأول مرة أصبح هناك فن يُسمع في كل مكان، ليس مثل المالوف مثلا، لهذا أصبح للراي مكان في الحياة اليومية للناس. أذكر أن جراحا كان لا يستطيع أن يؤدي عمله إلا بسماع أغاني الراي، فالراي إذن مثل البلوز، ليس مجرد موسيقى وأغان عاطفية فحسب، بل هو أيضا كلمات صريحة عن الحياة اليومية للجميع. ❊ أي أن الراي فن يستنكر اعوجاج الحياة ويندد بعيوب المجتمع، مثلما كان عليه الأمر بالنسبة للفرقتين الفرنسيتين "كارت سيجور" و"زبدة" اللتين كتبت عنهما أيضا؟ ❊❊ فرقتا "كارت سيجور" و"زبدة" نددتا بالمشاكل التي كانت تعاني منها الضواحي في باريس، والتي لم يكن لها وجود في الأغاني الفرنسية، ولا حضور في القنوات التلفزيونية والإذاعات في ذلك البلد، إلى أن اكتشف المهاجر بفرنسا أن هناك موسيقى تعنيه، مثل الراب، وحتى الراي يمكنه أن يجد شيئا من حياته فيها، علاوة على الموسيقى التي تتميز عن الموسيقى التي كان يسمعها آنفا. ❊ حاورت المفكر أركون بعد الحادثة الشهيرة التي وقعت له أثناء مناظرته مع الإمام الغزالي، حدثنا عن أهم ما جاء حوارك؟ ❊❊ كان حوارا عاديا، أردت أن أقترب من الرجل بعد أن كنت حاضرا في تلك المناظرة، كان أركون مصدوما بما حدث له، كما أنه لم يشعر بتبجيل الدولة له، لأنه لم يساند الثورة التحريرية. كان ذلك عام 1986، بداية ظهور الإسلاميين في الجزائر، حضر الندوة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والداعية القرضاوي، وفي آخر الصفوف حضر الإسلاميون الذين كانوا يرددون دعاء "الله أكبر" وكانوا يودون الإجهاز على أركون الذي اعتقد أن سوء فهم حدث بينه وبين الغزالي، فهو كان يهتم بتفسير القرآن من جانب الاجتهاد، أما الغزالي فكان يقرأ القرآن بالشكل التراثي المتعارف عليه، وهكذا بدأت الندوة التي أسميتها ب"حوار القرن"، وقال فيها أركون في أول جملة، إن القرآن مبني على خرافة، وكان يقصد بالمفهوم الحداثي والتحليل النفسي العالمي لهذه الكلمة، ولكن الغزالي قاطعه وأدمعت عيناه ورفض ما قاله أركون، لكن أركون قال له، إنه لا يمكن أن تستمر المناظرة بهذا الشكل، فأكمل حديثه حول إسلام الأنوار، لكن الحضور كان ضده وخرج من القاعة مصدوما، فقد كان هشا غير مرتاح في بلده، خاصة أنه لم يؤازر الثورة التحريرية. ❊ تلقيت عدة دعوات من البنك العالمي، ما فحواها؟ ❊❊ ليس للبنك العالمي وصندوق النقد الدولي صيت جميل بين العامة، فهما وبالأخص "الأفامي"، ضد كل ما يحمل طابعا اجتماعيا، لهذا فقد قام البنك العالمي ولأول مرة، بدعوة صحفيين من دول إفريقيا الشمالية، حتى يتغلغلوا داخل الصندوق ويكتشفوا سياسة تسييره. أذكر أننا كنا في تلك الفترة، نعاني من الإرهاب، ومع ذلك أخبرنا خبير من "الأفامي"، أن الجزائر لها مستقبل زاهر اقتصاديا.