يسعى الباحث بن مدور لإيجاد قراءة جديدة لتاريخنا الوطني؛ من خلال تخليص الذاكرة الوطنية من الشوائب الاستعمارية والغوص أكثر في مناحٍ خفية من هذا التاريخ؛ قصد التوصل إلى هوية وطنية صافية وجزائرية مائة بالمائة. وعن أبحاثه وكتاباته وارتباطه بالقصبة تحدثت معه «المساء» وكان هذا اللقاء. المساء: أصبحت متخصصا في تاريخ مدينة الجزائر، فمن أين استقيت هذا التراث الزاخر؟ الأستاذ محمد بن مدور: لديّ مخطوطات ومذكرات لبعض المؤرخين منذ عهد الزيريين ومن ابن خلدون، وكذا عدة كتب ومجلدات تتحدث عن تاريخ مدينة الجزائر، كما تجولت في العديد من البلدان منها رحلتي إلى أكس أبروفنس بفرنسا، وهناك قمت بدراسات وأبحاث معمقة فيما يتعلق بالفترة العثمانية بالجزائر، خاصة ما يتعلق بالبحرية الجزائرية، وهكذا تخصصت في المعالم الأثرية والتراث الجزائري خاصة بمدينة القصبة. ما جمعته من معلومات ومن دراسات جعل الكثير من المؤسسات والمعاهد والجامعات، تدعوني باستمرار لإلقاء محاضرات بها، على غرار الأميرالية وبعض الوزارات والمدارس العليا والجيش، وكُرمت بجوائز شرفية داخل وخارج الوطن، كما ألّفت الكثير من الكتب التاريخية، وغالبا ما أعرض تاريخ مدينة الجزائر من 1516 إلى غاية 1830.
يعرفك الجمهور الجزائري من خلال وسائل الإعلام، حدثنا عن هذه التجربة؟ تجربة مهمة جدا؛ لأنها ستضيف جمهورا عاديا وواسعا وليس له علاقة عملية بالتاريخ، لكنه شغوف بمعرفة تاريخ بلاده، وهذا ما أحاول تقديمه بطرق مبسَّطة وجذابة وحفيفة وبلغة دارجة مهذّبة، لذلك يهتم بهذه الحصص الجميع خاصة الشباب، وهذا أمر يُسعدني. أشارك في حصص قنوات إذاعية وفي التلفزة، وصار جمهوري يكبر يوما بعد يوم عبر مختلف مناطق الوطن.
غالبا ما رُبط تاريخ مدينة الجزائر بالعهد العثماني، إلى درجة بدت فيها الجزائر مدينة تركية، فما السر؟ تبدأ الفترة العثمانية باستدعاء الأخوين عروج (1516) إلى الجزائر، وطول فترة الحكم العثماني لم تفقد الجزائر هويتها الجزائرية، فالجزائر وُجدت قبل هذا الدخول العثماني بقرون طويلة، وكان آخر حكام الجزائر قبل دخول الأتراك هم الثعالبة، الذين ظهر في عهدهم الولي الصالح سيدي عبد الرحمان الثعالبي ذو النسب العربي الشريف (جعفري)، والذي برز في المغرب والمشرق بأعماله وأبحاثه (99 مجلدا). آخر سلالة الثعالبة هو حاكم الجزائر سليم التومي، الذي استدعى الأخوين عروج، وبمجرد دخولهما قتلوه. في هذه الفترة كانت هناك ثكنات عسكرية إسبانية بالأميرالية، وما تبقّى منها الآن برج الفنّار. حين دخول الأتراك كان بالمدينة بابان؛ هما باب الواد وباب عزون، ممتدان أفقيا حتى مسجد سيدي رمضان (عاصمة بني مزغنة)، إلا أن الأتراك وسّعوا فيها أفقيا وبنوا قلعة الجزائر ومدوا في الأسوار، لتوسَّع المدينة ب 420 مترا. كما بُنيت في هذه المنطقة العليا دويرات بهندسة وزخرفة جزائرية مستمَدة من القصبة السفلى، وبالتالي لم يأت الأتراك بعمارتهم بل حافظوا على الطابع المحلي لذلك، مثلا لا نجد النمط المعماري العثماني الموجود مثلا في سوريا أو تركيا أو مصر أو غيرها.
في رأيك، كيف يقدَّم تاريخ مدينة الجزائر اليوم خاصة إذا كان من مصادر أجنبية؟ وجدت الكثير من الكتابات المنشورة عن تاريخنا على الإنترنت وعبر الكتب، ووقفت على التحريف، خاصة من الجانب الفرنسي، فتاريخنا إما مشوَّه أو مخفي، وكان من واجبي الرد وبعلمية من خلال الوثائق والقرائن والقراءة التحليلية، فأصدرت مجموعة من الكتب منها «اكتشاف البهجة 1516 - 1830» و«الجزائر عبر الزمن» و«الفترة العربية الإسلامية بالجزائر»، وكتب أخرى عن «التقاليد والعادات في الفترة العربية الإسلامية بالجزائر» و«التراث غير المادي للجزائر» و«تقاليد الجنوب الصحراوي» وغيرها.
أنت مقتنع بأن الجزائر مر عليها العديد من المحتلين كان منهم الأتراك، فلماذا تصف الدولة العثمانية بالمحتلة؟ دعيني أوضح أنني لم أجد فرقا بين المحتلين للجزائر، وبالتالي لم أرَ فرقا مثلا بين الاحتلال العثماني والاحتلال الفرنسي، فالأتراك هدّموا مثلا بعض الزوايا والمنازل، منها كما توضحه الوثائق هدم زاوية سيدي بوعنان ليبنوا مكانها المسجد الجديد، وهدّموا زاوية سيدي بن عبد الله ليبنوا عليها قصر خداوج العمياء، وهدّموا بين زقاق مؤدٍّ إلى الدار الحمراء، زاوية سيدي صاحب الطريق، كما حوّلوا مساجد إلى ثكنات للجيش الانكشاري، واحتلوا ساحات عمومية كان يتفسح فيها الجزائريون أو يقيمون فيها أسواقهم، ليبنوا فيها ما شاءوا، فلقد هدّموا مثلا الحي القديم (حي البحرية) بزنقة الحواتين الممتدة من الجامع الكبير حتى قصر الرياس. بُنيت قلعة الجزائر على إقامات جزائرية، ولاتزال وثائق المحكمة موجودة إلى اليوم بالأرشيف. كما تواصل الهدم أكثر مع مجيئ الفرنسيين، الذين حوّلوا جزءا من هذه المدينة إلى معالم عمرانية أوربية ليحيطوا بها القصبة ويخنقوها ويسدوا عنها الواجهة البحرية والبرية. هدّموا زاوية سيدي بلكحل ليقيموا عليها فندق السفير، وهدّموا زاوية سيدي عيسى ليقيموا سينما «دنيا زاد» والفندق المركزي، وحوّلوا زاوية سيدي بتقة إلى السكوار.
تبحث اليوم في تراث القصبة، كيف تراه مجسَّدا؟ لتراث المادي للقصبة عبارة عن معمار، علما أن الكثير من المنازل والدويرات هُدمت ماعدا القصور التي رُممت، منها مثلا قصر عزيزة، وهي تسمية فرنسية؛ إذ أن الجزائر حكمها 30 دايا لم يكن لأحدهم ابنة تدعى «عزيزة» عكس الرواية الاستعمارية، وحين اطلاعي على الأرشيف وجدت أن القصر كان تابعا لدار الأمراء؛ حيث كان يملك سليم تومي هذا القصر، ومع زلزال 1716 تَهدم طابقه الثالث ليرمّمه الأتراك. أعجب اليوم لكثرة الإقامات بفحص الجزائر ولا يتحدث عنها أحد رغم تاريخها العظيم والزاخر، منها جنان حميدو، إقامة قصب الهند، جنان لخضر، قصر الشعب (دار الخياط سابقا)، دار يوسف بكدية الصابون (السكالة حاليا)، التي وهبها الخزناجي حسن لابنته فاطمة، التي تزوجت باي قسنطينة، وأنجبت السيدة لالة نفيسة المشهورة في تاريخ المقاومة، كما وهب أختها خداوج قصرا آخر، وفيلا رايس حميدو أهداها مصطفى باشا للرايس حميدو بعد انتصاره على الأسطول الأمركي. وعلى العموم، سيصدر لي قريبا كتاب خاص بقصور الجزائر.
ماذا عن التراث غير المادي لمدينة الجزائر؟ كانت بالجزائر تجارة رائجة تنشّطها الورشات التقليدية، واشتهرت التجارة منذ العهد الفينيقي؛ حيث كانت هناك مقايضة بين الفينيقيين وأهل الجزائر. في 1491 بدأ الأندلسيون ينزلون إلى العاصمة حاملين معهم «الصنائع» والورشات، وأصبح لكل حي صناعه من الحرفيين، فظهرت زنقة النحاسين وزنقة النجارين وزنقة الخياطين وهكذا، ولكل صنعة أمين يترأسه أمين الأمناء الذي يمثل الحرفيين عند الداي مباشرة. كما حمل البحّارة الغنائم، التي كانت عبارة عن أشياء حرفية غير موجودة بالجزائر، فكان الزليج والبلور واللؤلؤ وغيرها، علما أن كل هذه الغنائم من بلدان مختلفة منها المشرق وأوروبا. أصبحت مدينة الجزائر معروفة بأسواقها وتجارتها على المستوى المتوسطي، لذلك مثلا زارتها الملكة فيكتوريا لتكتشف مقام سيدي عبد الرحمان؛ حيث رأت النساء يعبّرن عن آمالهن ويدعون الله ففعلت مثلهن، وأهدت المقام نجفة من البلّور الفاخر، لاتزال موجودة إلى اليوم. عُرفت الجزائر بحلوياتها، منها قلب اللوز، وهي حلوى جلبها صانع إيراني إلى الجزائر، وعندما نسي مقدار اللوز قال هل الصناع معه: «انقلب اللوز». يوجد مثلا «تشاراك»، وهي حلوى تركية، تعكس رمز الدولة الهلال، وعندما انتقلت إلى جنوة أضيف لها السكر. كانت حلويات الجزائر توضع في «الفنيق»، ولم تكن محددة الشكل. لما دخل الفرنسيون أعطوها طابعا منوعا، فسُميت حلوى «الطابع»، وكانت الطمينة والقنيدلات المعمولة بسكر قنديل والقرفة. أما فيما يتعلق باللباس فكانت هناك الجبة منعدمة الزخرفة بها ألوان فقط، ثم تحولت إلى الجليلة، ثم الڤندورة، ثم سروال مدور، ثم أضاف لها الأتراك الشلقة (الشلخة) والغربال والتستيفة، وظهر الحايك الذي يوضع فوق الڤندورة ترفعه المرأة على رأسها، ليضاف له بعدها الحرير والحواشي، ليظهر بعدها حايك المرمة. أضيف للسروال الجليلية، ليتحول اللباس إلى قويّط وبدرون، وعندما حل الأندلسيون حملوا معهم الزخرفة كالمجبود والفتلة والعقاش. الموسيقى كانت موسيقى أندلسية ذات الموشح، عرفت تطورا وصولا إلى الشيخ العفريت، ثم العنقى. أشياء كثيرة عن تراثنا غير المادي تبدو بسيطة لكنها من عمق تاريخنا وهويتنا الوطنية.
ماهي طموحاتك؟ أن أساهم في الحفاظ على هذه الذاكرة، أنا حاليا مكلَّف بمهام ترميم قصبة الجزائر، وهو شرف لي، متيقن أنني أؤدي واجبي بإحساس وضمير؛ لأني ابن القصبة، أحفظ تراثها منذ نعومة أظافري، كما أنني منخرط في عدة جمعيات ثقافية، وأتكامل في عملي مع باحثين وعلماء في تخصصات شتى، كما أسعى لتحقيق ما يوجد من مادة أرشيفية سواء داخل أو خارج الوطن للوصول إلى الحقيقة التاريخية. مكتبي مكتظ يوميا بالوافدين طالبي المعرفة، كان منهم، على سبيل المثال، ضباط تقدموا لطلب معلومات عن مدفع بابا مرزوق وأعطيتهم المعلومات اللازمة من باب الحث على استرجاعه. كتبت مثلا قصة فريديريك الثاني ملك السويد، ودُعيت إحدى المرات لمقابلة السفير السويديبالجزائر، بدا له الأمر عاديا لكنني سألته: «هل رأيت أسد متحف ڤريب ستون بستوكهولم»، فأجاب: «نعم»، فقلت له: «إن ذلك أسد جزائري أهداه الداي عام 1730 لملك السويد، الذي بعث باخرة هدايا للجزائر، وعندما وصل الأسد إلى ستوكهولم فزع الملك لكنه فرح بعدها، ليحزن عليه بعد أن مات، فحنّطه وتركه في متحف، وأصبح من رموز المملكة السويدية إلى اليوم». لي أصدقاء في عدة دول، وأتنقل بإمكاناتي للحصول على المعلومة. زرت المغرب العربي ومصر وسوريا عدة مرات والعراق وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا والسويد والنرويج وفنلدا وطبعا فرنسا، ولاأزال طالب علم من أجل استرجاع ذاكرتنا وهويتنا التي لم تكن أبدا نتاج إبداع المحتلين.