أصدر المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي ودار نشر "اوترومون" بالعاصمة الفرنسية باريس كتاب "الثقافة الاستعمارية في فرنسا منذ الثورة الفرنسية حتى اليوم" للكاتب والمؤرخ باسكال بلانش، والذي يرصد كيف جرى استعمار فرنسا من قبل إمبراطوريتها. ويتناول الكتاب عبر 755 صفحة تأثير الإيديولوجيا الاستعمارية في صياغة الواقع الوطني الفرنسي نفسه، ويسعى المؤلف من خلاله إلى ترسيخ تأثير الإيديولوجيات الاستعمارية في صياغة واقع مستعمراتها، وتتمثّل إحدى الأفكار الأساسية التي تدور حولها تحليلات الكتاب في القول إنّ مختلف الأنظمة الفرنسية التي تجد تعبيراتها في العهود الملكية أو الجمهورية أرادت أن تنشر لدى المواطنين الفرنسيين ثقافة استعمارية هدفها تبرير الغزوات والتمدّد الاستعماري. ويناقش الكتاب وفقا لما ورد بصحيفة "البيان" الإماراتية الثقافة الاستعمارية المقصودة، والتي وجدت أصداءها في السينما والمسرح والرياضة والمدرسة والأدب والصحافة والفنون والإعلان والغناء، وبالطبع الجيش واللجان الاستعمارية والمعارض، ويقف الكتاب عند هذا التمييز من خلال ثلاث مراحل شكّلت الثقافة الاستعمارية في فرنسا وتطوّرها. تغطّي المرحلة الأولى سنوات 1871 - 1931، وهي فترة ظهور الثقافة المعنية، وتتمّ هنا العودة إلى أصول الجمهورية الفرنسية الثالثة، وتحديداً إلى مطلع عقد السبعينات من القرن التاسع عشر، حيث أراد "الجمهوريون" أن يثبتوا لليمين القومي الفرنسي ولعموم الفرنسيين أنّهم قادرون على توسيع حدود فرنسا كي تشمل مناطق أخرى، وترافق آنذاك مفهوم "الفرنسي الجيد" بأن يكون "استعماريا". المرحلة الثانية تمّ تحديدها بسنوات 1931 - 1961، وقد شهدت تلك المرحلة ما تتم تسميته ب"أوج الثقافة الإمبريالية" وفي الفترة التي كان يمكن فيها أن يتولى فيها وزير المستعمرات رئاسة رابطة حقوق الإنسان دون أن يرى أحد في فرنسا بذلك تناقضا صارخا، ومن الملفت للانتباه أنّ القوانين القائمة على التمييز حيال الجزائريين وأحداث قسنطينة عام 1945 وقمع انتفاضة زنجبار عام 1947، أمور كلها جرى تقديمها في إطار المنطق "الجمهوري"، وما يتم عليه التأكيد في هذا السياق هو "وجود تباين كبير بين تاريخ جرى تلبيسه رداء الأسطورة وبين قراءة واقعية للأحداث". فيما تخص المرحلة الثالثة "الثقافة ما بعد الاستعمارية" خلال سنوات 1961 - 2006 والتي استمرت فيها الثقافة الاستعمارية بالتواجد رغم أنّ الاستعمار بمعناه التقليدي كان قد بدأ بالتلاشي وحيث كان استقلال الجزائر عام 1962 منعطفاً رئيسياً في مسيرة التحرّر الوطني من الاستعمار. وتم التركيز على فترة بداية سنوات الستينات من القرن الماضي، أي غداة استقلال الجزائر وعدد من المستعمرات الفرنسية في إفريقيا، ولقد جرى آنذاك "الانتقال" دون "مرحلة وسيطة" من حقبة "زمن المستعمرات" إلى حقبة أخرى وعالم آخر يخصّ "زمن ما بعد المستعمرات"، وشكّل ذلك الانتقال "صدمة" لم تكن مرئية في حينها بفرنسا، لكن هذا لا يمنع واقع أنّها كانت صدمة أساسية من حيث "الممرّ التاريخي" الذي مثّلته وباعتبارها كانت إعلانا عن مرحلة جديدة. ويتمّ وصيف تلك الفترة بأنها كانت "منعطفاً" في تاريخ فرنسا وتاريخ الجمهورية، فبين ليلة وضحاها كان ينبغي تغيير محتوى العديد من الكتب المدرسية خاصة في حقل التاريخ ومن الخطاب المستخدم حيال ما عُرف بمقاطعات ما وراء البحار، بل كان ينبغي تغيير طريقة التفكير بالعلاقات مع العالم الخارجي، باختصار برز "الشرخ الاستعماري" عميقا واستمر فاعلاً في التاريخ الفرنسي. كما أظهرت النقاشات التي عرفها شهر فبراير من عام 2005 حول التعديل الخاص بالبند الرابع في الدستور حول تقييم الحقبة الاستعمارية، بحيث يتم في التعديل المقترح التأكيد على "المظاهر الإيجابية" للاستعمار في الكتب المدرسية، وتتم الإشارة في هذا السياق إلى أنّ النقاشات "الحامية" التي عرفتها قبة البرلمان الفرنسي كما خاضت غماراتها كلّ وسائل الإعلام والمحافل، إنّما كانت في الوقت نفسه نقاشات حول "الهوية الوطنية" الفرنسية، لكن بنفس الوقت دفعت تلك النقاشات إلى الواجهة إيديولوجية الانتماء "الفئوي" أو الطائفي. وقدّم الكتاب مظاهر الثقافة الاستعمارية في فرنسا بكلّ دقائقها اعتبارا من عام 1870 وحتى عام 2006، ويبيّن المؤلفون كيف كان الفرنسيون باستمرار موضع اهتمام ثقافة استعمارية موجودة في كلّ ما يحيط بهم بواسطة السينما والأدب والفن بكلّ تعبيرات هذه المشارب، وطوابع البريد وألعاب الأطفال وإعلانات الدعاية.