وأنت تتفحص دفاتر الأيام وتستنطق صفحات الكتب، تجدد الدرر النفسية التي مازالت تؤكد عظمة الجزائر العلمية في الفكر والأدب، ومازالت تعطينا أسماء العلماء الأجلاء الذين ذاع صيتهم وعلت مكانتهم وصلوا بعلومهم المغرب بالمشرق، ومن هؤلاء الأعلام الأقلام أبو العباس أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي. إن التعريف بهؤلاء الأعلام يعد مهمة صعبة، وتكمن هذه الصعوبة في عدم اعطاء هذا العالم حقه والإحاطة بكل سيرة حياته وما تركه من آثار علمية، خصوصا وأنه لمن الصعوبة بمكان الإلمام ولملة ما تفرق وتشتت من هذه الأخبار في الكتب هنا وهناك، إلا أن التعريف بهؤلاء أضحى من الضرورة بمكان والعولمة تزحف على الأقطار وتدخل الديار وتشوش الأفكار، ونحن في هذا المد العلمي العالمي وهذا الضخ الفكري المتنوع والمختلف اللون والرائحة، يدفعنا الى ابراز شخصيتنا الفكرية والثقافية وتحصين أنفسنا من التلاشي في ثقافة الغير، الذي ينتج عنه فراغنا الثقافي وإنتاجنا الفكري. ومن أبرز علماء الجزائر وأشهرهم طولا وعرضا، العلامة أحمد بن يحيى الونشريسي التلمساني.
مولده : ولد أحمد بن يحيى بقرية من قرى الونشريس حوالي 834 ه 1430م. وككل الجزائريين أدخل في بداية مشواره العلمي وهو لا يزال غضا طريا الكتاتيب لحفظ القرآن، حيث حفظه في قريته كما تعلم مبادئ العربية، ولما آنس فيه والده شغفه بالعلم واجتهاده في طلبه قصد به مدينة تلمسان المعمورة بالعلم والعلماء، فأخذ عن كبار علمائها ومشايخها، وممن أخذ عنهم الونشريسي العلم: الشيخ قاسم بن سعيد العقباني والقاضي محمد بن أحمد بن قاسم، ومحمد بن أحمد بن عيسى بن الجلاب، والعلامة محمد بن مرزوق الكفيف، والعلامة أبو زكريا يحيى بن موسى المازوني، وأبو عبد الله محمد بن الحسن بن مخلوف الراشدي. بعد تلقيه العلم عن هؤلاء العلماء الأفذاذ والشيوخ الاتقياء وبلغ مبلغ الرجال اربعين سنة، كان صيته قد ذاع وخبره قد شاع في المغرب العربي كله، وأصبح مرجعا علميا في الفقه وفي قول الحق. لم تكن تلمسان وقتها في استقرار وأمن، بل كانت في جو سياسي مضطرب ضاع فيه الأمن وانتشر فيه اللصوص فأصبحوا يهددون حياة الناس، حيث استفحل الظلم وعم الجور وتكاثر من يحملون السلاح ويخلّون بالنظام والقانون، بالإضافة الى التناحرات القبلية التي زادتها الأمراض والأوبئة والمجاعة مأساة على مأساة الناس... في هذه الظروف الضاغطة والصعبة، أرغم الكثير من الناس على الهجرة ومغادرة منازلهم ومزارعهم وأملاكهم، أضف الى ذلك انعدام الأمن وغياب العدل والأنصاف، مما أجبر كل شخص على الدفاع عن حقه لا بطريقة القانون، لأن القانون غاب، وإنما عن طريق قدرته وقوته الذاتية. في خضم هذه المشاكل والأحداث التي فرضت على كثير من العلماء والقضاة أن يجاهروا بالحق ويقفوا وجها لوجه أمام هذه الاضطرابات ويعملوا على تنفيذ القانون في مجتمع ضيع الكثير من اتزانه، كانت هذه الأحداث القاسية والمؤلمة، مما شكل مضايقات للعلماء والفقهاء وجعلت الكثير منهم ضحايا لهذه الأحداث، ومن جملتهم العلامة الونشريسي الذي غضب عليه السلطان أبو ثابت الزياني فأمر بنهب داره ومصادرة ممتلكاته، فخرج الونشريسي فارا بجلده ودينه وأهله إلى مدينة فاس بالمغرب الأقصى سنة874 .
الونشريسي بفاس كان صدى الونشيرسي قد سبقه قبل قدومه على فاس التي كانت حاضرة حاضنة للعلم والعلماء، فاستقبلتهالمدينة حين حلوله بها بالتكريم والحفاوة التي يستقبل بها العلماء من قبل العامة من الناس والخاصة من العلماء والفقهاء. وقد أقبل على الونشريسي عند إقامته بفاس العلماء وطلبة العلم يأخذون عنه الفقه وينهلون من بحور علمه. كما كان الونشريسي رحمه الله يحضر مجالس العلماء والفقهاء، وممن كان يحضر مجالسهم القاضي محمد بن محمد اليفرني القاضي المكناسي. والونشريسي لم يجلس بفاس لإعطاء الدروس، بل لم يفوت الفرصة لطلب العلم وأخذه عن كبار العلماء بهذه المدينة العريقة، فأخذ عن ابن غازي المكناسي الذي أجازه. الونشريسي إثر قدومه على مدينة فاس أقبل عليه الطلاب من كل حدب وصوب لأخذ العلم عنه، حيث كان يدرس الفقه، المدونة ومختصر ابن الحاجب وعلوم العربية النحو والصرف والبلاغة. وقد اشتهر الونشريسي بفصاحة اللسان والقلم حتى قيل فيه » لو حضر سيبويه لأخذ النحو من فيه«. كما اشتهر الونشريسي بالفتوى والفقه، فكان الناس يتوافدون عليه من كل مكان ويطرحون مسائلهم، كما كانت تأتيه مراسلات من العلماء والفقهاء يطلبون منه الإفتاء والرأي.
تلاميذ الونشريسي : كان الونشريسي مدرسة علمية بحق تخرج منها العديد من العلماء، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: * ولده عبد الواحد الونشريسي قاضي فاس ومفتيها، محمد بن محمد التغلبي قاضي فاس وابن قاضيها، محمد بن عبد الجبار الورتدغيري، ابن هارون المطغري... هذه العمر الزاخرة بالعلم والتعليم والافتاء والتي عبر بها الونشريسي أكثر من 80 حجة سخرها كلها للعلم والكلام الحق، تعد عمرا زاخرا بالعبادة والإفادة ومجاهدة الباطل والظلم وتحمل الصعاب، لو كانت هذه السيرة لهذا العالم الكبير في غير الجزائر لصورت لها المسلسلات وأقيمت لها الندوات والملتقيات العلمية، لكن هذه تذكرة لمن شاء الذكرى. وقد رحل الونشريسي إلى رحمة ربه في شهر صفر العشرين منه سنة 914 من الهجرة النبوية الشريفة تاركا آثارا علمية عظيمة منها: * إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، المعيار المعرب عن فتاوى إفريقية والمغرب، "القواعد" في الفقه المالكي، الفائق في الأحكام والوثائق.