يتحدّث الكاتب الأمريكي جوناتان ليونز في كتابه ''بيت الحكمة'' الذي ترجم إلى العربية، عما حقّقه العلماء العرب في العصور الوسطى من إنجازات متقدّمة في العلم والفلسفة، كما يتناول قصة الأوروبيين ''الجوالين'' الذين نقلوا هذه المعرفة إلى الغرب. ورأى جوناتان ليونز أنّ الغربيين الذين أفادوا كثيرا من العلم والفكر العربيين، اتّجهوا إلى التغطية على ذلك معلنين أنّهم عادوا إلى الفكر اليوناني للانطلاق في نهضتهم، مهملين عن عمد ذكر الأثر العربي في نهوضهم، وركّز على عدد من هؤلاء الأوروبيين الجوالين وبشكل خاص الإنكليزي اديلارد اوف باث، أهمّ اسم بين هؤلاء قيمة ودورا فعّالا، وقال الكاتب ''لقد أعادت قوة العلم العربي التي كان اديلارد اوف باث بطلها، تكوين المشهد الثقافي الأوروبي وبقي أثرها إلى القرن السادس عشر وما بعده، وهي التي شكّلت العمل الأصيل لكوبرنيكوس وغاليليو.. "وقد جعل هذا أوروبا المسيحية تقف وجها لوجه أمام حقيقة أنّ الشمس - لا السكن الدنيوي لهذا المخلوق الذي هو الإنسان - هي مركز الكون، وقد شرح ابن رشد القاضي الفيلسوف من الأندلس للغرب الفلسفة الكلاسيكية، وكان أوّل من أدخل إليه التفكير العقلاني، أمّا القانون في الطب لابن سينا فظلّ مرجعا بأوروبا حتى القرن السادس عشر ككتب عربية أخرى في البصريات والكيمياء والجغرافيا''. وأضاف يقول ''بدأ تناسي الغرب المتعمّد إرث العرب منذ قرون عندما بدأت الدعاية السياسية المعادية للإسلام التي صنعت في ظلّ الحملات الصليبية تطمس أيّ اعتراف بالدور العميق للثقافة العربية في تطوّر العلم الحديث''. حمل الكتاب عنوانا أساسيا هو ''بيت الحكمة'' اتبع بعنوان آخر إيضاحي هو ''كيف أسّس العرب لحضارة الغرب؟''، و''بيت الحكمة'' هو تلك المؤسسة الثقافية الشهيرة، خاصة في مجال الترجمة، والتي أسّسها الخليفة المأمون في بغداد وكلّف إسحاق بن حنين بإدارتها يساعده مثقفون سريان آخرون. وقد جاء الكتاب في 287 صفحة كبيرة القطع وصدر عن ''الدار العربية للعلوم'' في بيروت و''مركز البابطين للترجمة'' في الكويت، وقد قام مازن جندلي بترجمة الكتاب من الإنكليزية إلى العربية. والباحث جوناتان ليونز عمل محرّرا ومراسلا صحافيا لوكالة رويتر لأكثر من عشرين سنة، خاصة في العالم الإسلامي، وهو يقوم بالتدريس في جامعة ميزون، وفي بداية الكتاب وتحت عنوان ''ملاحظة للقارئ''، تحدّث المؤلف فقال ''نادرا ما يأتي مع الأعمال الموجّهة إلى القارئ العام، تعريف للمصطلحات والمفاهيم بالغا ما بلغ مستوى جدية أو ثقل الموضوع، وقد تعمّدت الإبقاء على هذه التعريفات في الحدّ الأدنى، وبالرغم من ذلك أجد من المناسب التحدّث قليلا في البداية عن اختياري مصطلح (العلم العربي) أو ما أشبه ذلك من عبارة بدلا من (العلم الإسلامي) للتعبير عن الوسط الثقافي الرفيع الذي ساد العالم الإسلامي في العصور الوسطى''. وأضاف ''كما يعلم كثير من القراء فإنّ كثيرا من الازدهار في ذلك الزمان والمكان لم يكن حكرا على العرب كعرب ولم يكن كذلك عمل المسلمين تماما، فالفرس بمن فيهم المجوس والنصارى واليهود والإغريق النصارى السريان والترك والكرد وغيرهم.. كلّ هؤلاء لعبوا أدوارا حاسمة في جميع فروع العلم واللاهوت والفلسفة، لكن هذا العمل كان يجري غالبا باللغة العربية وكثيرا ما كان يجري برعاية الحكام العرب ولاسيما الخلفاء الأمويين والعباسيين بدمشق أولا ثم ببغداد، وخلال شطر كبير من الفترة موضع البحث لعبت اللغة العربية دور اللغة العالمية للعلم... وكذلك كان على من يودّ من علماء الغرب في العصور الوسطى الاطلاع على آخر ما استجد في مجاله إتقان اللغة العربية أو العمل استنادا إلى الترجمات التي قام بها من تعلم هذه اللغة منهم...''. ويشير عموما إلى المعارف الدينية الدقيقة كالفقه وتفسير القرآن ودراسة الحديث وهكذا. وفي مكان آخر، تحدّث المؤلف عن اديلارد اوف باث، فقال انه لم يكن ''مهيأ البتة لما وجده في سعيه الحثيث لما دعاه (الدراسات العربية)... وعلى الفور استحوذ هذا الإنكليزي المترحل على قوّة المعرفة العربية ليرى العالم كما رآه، غادر اديلارد موطنه إنكلترا طالبا شابا متعطشا للحكمة التي لم يكن ليروي ظمأه إليها إلاّ العرب، وسيعود إليه كأوّل عالم غربي يساعد على تغيير عالمه إلى الأبد''. وتحدّث المؤلّف في أكثر من مجال عن موضوع ''قدم العالم'' وما دار من جدل بين جماعات فكرية ودينية إسلامية أبرزها جماعة ''علم الكلام'' وبشكل خاص بين المعتزلة والأشعرية.. و''أدّى وصول العلم والفلسفة العربيين - وهو ارث اديلارد الرائد ومن سارع إلى إتباعه - إلى تحويل الغرب المتخلّف إلى قوّة علمية وتكنولوجية عظمى، وحوّل العلم العربي عالم العصور الوسطى المسيحي تحويلا فاق الإدراك''. ويمضي في الحديث عن ''طمس'' الإشارة إلى أثر العرب في قيام النهضة الأوروبية فيقدّم أمثلة منها أن روجر بيكون الفيلسوف من القرن الثالث عشر وأحد أقدم أنصار المنهج العلمي في الغرب ''قدر للمسلمين إبداعاتهم الثقافية وهو موضوع كان يعرفه جيدا فقال.. ''الفلسفة مأخوذة من المسلمين''، ومع هذا فإن روجر بيكون لم يكن أقل حماسة من غيره من الغربيين لاستنكار مظاهر حياة المسلمين التي لم يكن لديه معرفة أو خبرة حقيقية بها.. فقد جزم بلا تردّد أنّ العرب ''مستغرقون في المتع الحسية لتعدّد الزوجات لديهم'' وسرعان ما حلّت هذه المفاهيم الخيالية محلّ كلّ ما عداها في المخيلة الشعبية الغربية." وأضاف أنّ هذه الآراء ازدادت انتشارا في عصر النهضة ''عندما راح الغرب يستلهم اليونان القديمة ناظرا إليها نظرة مثالية، فمن حرصهم على ادعاء تحدّرهم الفكري المباشر من أمثال ارسطو وفيتاغورث وارخميدس، تعمّد مفكّرو الغرب تهميش دور العلم العربي''. وقد نسج مؤرّخو العلوم الغربيون إلى حدّ بعيد على هذا المنوال، وصوّر كثير منهم العرب بأنهم لطفاء كرماء لكنهم كانوا عمليا ناظرين حياديين للمعرفة اليونانية ولم يفعلوا شيئا يذكر أو أيّ شيء لتطوير عمل من سبقهم''. وخلص هنا إلى القول ''تستند هذه الأوصاف إلى مفهوم ثابت يقول باسترجاع الغرب العلم الكلاسيكي مع ما يعنيه ذلك ضمنا وبشكل واضح، أن هذه المعرفة كانت بشكل ما مكسبا طبيعيا بالولادة لأوروبا المسيحية وأن الذي حصل فقط هو أنها لم تجد مكانها الصحيح في العصور الوسطى، وهي تصطبغ كذلك بشدة بإجماع غربي غالبا ما يستحضر لتفسير حالة العالم الإسلامي اليوم.. إن الإسلام معاد بطبيعته للابتكار وأنه صار كذلك ابتداء من أوائل القرن الثاني عشر."