هل هناك قوة أعظم من أن تلملم أم ثكلى شظايا الروح المبعثرة بين الدم والتراب الذي يحمل جثمان ابنها الساخن الذي ينزف دما، وقد استقرت رصاصة الغازي فيه منذ هنيهة، لتطلق زغرودة وداع تنطلق مع روح ابنها القتيل الشهيد؟ زغرودة طويلة عميقة الوزن مدوية الرنين، تخلط حسابات المستعمر وتتركه مشدوها حائرا خائر الروح أمام هذه الشجاعة التي لا تقهر، زغاريد في محفل الموت... نعم إنها القوة الخفية التي كانت تلهم رجال الثورة، استقبال الأم لخبر موت ابنها بالزغاريد لأنها مؤمنة بأن الشهيد مثواه النعيم ، فالأم كانت ولا تزال رمزا للإقدام والشجاعة، فلطالما شجعت الأم الجزائرية فلذة كبدها الوحيد على الالتحاق برفقاء الدرب في الجبل، فرغم إدراكها التام بأنها لن تنجب غيره وأنها ستكون أما ثكلى وأنها سترعى الأيتام أيضا، وأنه ميت فور خروجه من البيت أو الحي أو الدشرة التي يسكن بها، إلا أنها كانت تدفعه وتربت على كتفه بقراءة الأدعية وتدفعه دفعا حابسة دموعها الغزيرة في المقل حتى لا تثبط عزيمته أو تشعره بحاجتها إليه، بل تشعره بأن الجزائر الأم الكبرى هي التي تحتاجه أكثر وأنه لابد أن يكون في مستوى النداء، وأكثر من ذلك فإن المرأة عموما شاركت في الثورة بأساليب عدة، منها التحاقها بالجبل وقيامها بالتمريض أو عملها مدبرة ترقع الملابس وتخبز الخبز في زمن الفاقة، حيث كانت تحرم نفسها وأولادها من قطعة الخبز وحبيبات الزيتون وإناء اللبن لتضعه بين يدي المجاهدين ليقتاتوا به، لأنها تدرك جيدا أن حياتهم أهم بكثير، فقد كانت رمزا للتضحية المادية والمعنوية، علاوة على تلقينها روح الوطنية للابن، وهي تهدهده في المهد الخشبي أو على حجرها من خلال ترديدها لأغان شعبية مناهضة للاستعمار على غرار ''الحاج لخضر مول الشاش لصفر'' أو ''يا ربي سيدي واش أعملت أنا ووليدي'' أو ''خويا المجاهد ما تجينيش في الليل'' وغيرها من الأغاني التي تحمل مدلولات ثورية مناهضة للاستعمار ومناشدة للحرية، وربما هذا الأمر الذي يفسر غيرة الجزائري القوية على وطنه وثوابته، وهي ذات الأمهات اللائي ربين أجيالا مولوعة بحب الوطن وصنعن رجالا ونساء لايرون بديلا عن الجزائر، وما أكثرهن من جنديات ودركيات وشرطيات وطبيبات وصحفيات ومعلمات وفلاحات ورياضيات وعاملات بسيطات يواصلن ثورة التشييد إلى جانب إخوانهن الرجال لهدف واحد ووحيد وهو عزة وكرامة الجزائر... حيث تطلق في كل مناسبة الزغاريد الرمز التي كانت ولاتزال تحمل مدلولا نفسيا لا يفهم وقعه إلا الجزائري الذي يقشعر جسده للزغرودة التي يربطه بها شعور وجداني لا يفهمه إلا من يحملون دماء الثوار.