عندما يتردد المرء حول مسألة ما، فمن المؤكد أنه سيفكر في الاستشارة... لكن استشارة من؟ ذلك هو السؤال الذي يؤرق الكثيرين ممن لا يثقون في أي كان. وعندما يتعلق الأمر بشيء مصيري تزداد الحيرة، وفي هذه الحالة بالذات يميل البعض إلى حل يعتبرونه الأنسب وهو الاستخارة. لكن هل يدرك الجميع معناها وهدفها وكيفية ممارستها، وهل هي ضرورة أم مجرد إجراء شكلي لتبرير الاختيار؟ وهل يقبل المرء نتائجها مهما كانت متعارضة مع رغباته؟ وهل تنفي الاستخارة قدرة الإنسان على اتخاذ القرار بمفرده وتحمل عواقب اختياراته؟ هي بعض الأسئلة التي رغبنا في طرحها بعد أن لاحظنا الانتشار الواسع لممارسة الاستخارة دعاء وصلاة في السنوات الأخيرة، لاسيما في القرارات المصيرية وعلى رأسها الزواج، أو اختيار الشريك، إضافة إلى مسائل أخرى تتعلق بالعمل أو مشاريع تجارية وحتى اقتناء أشياء. معنى الاستخارة لُغَةً هي: طَلَبُ الْخِيَرَةِ فِي الشَّيْءِ . يُقَالُ: اسْتَخِرْ اللَّهَ يَخِرْ لَك، وَاصْطِلاحًا: طَلَبُ الاخْتِيَارِ. أَيْ طَلَبُ صَرْفِ الْهِمَّةِ لِمَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ اللَّهِ وَالأَوْلَى، بِالصَّلاةِ، أَوْ الدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي الِاسْتِخَارَةِ. أما دينيا فإن حكمها يشير إليه إجماع الْعُلَمَاء الذين اعتبروا أن الاسْتِخَارَةَ سُنَّةٌ. بدليل قول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ''كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن''. يقول أهل العلم إن العبد في هذه الدنيا تعرض له أمور يتحير منها، فيحتاج للجوء إلى خالق السموات والأرض وخالق الناس، يسأله رافعاً يديه داعياً مستخيراً بالدعاء، راجياً الصواب في الطلب، فإنه أدعى للطمأنينة وراحة البال. فعندما يقدم على عمل ما كشراء سيارة، أو يريد الزواج أو يعمل في وظيفة معينة أو يريد سفراً فإنه يستخير له. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ''ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره''. هذه بعض التعريفات والاصطلاحات، ولسنا هنا بصدد الحديث عن الجانب الديني للاستخارة بقدر ما نود تسليط الضوء على جانبها الاجتماعي، ومدى تأثيرها على الحياة اليومية للناس، وحتى تأثيرها على ''استقلالية'' قراراتهم. طرحنا هذه الأسئلة على بعض الأشخاص، فلاحظنا ان هناك اهتماما كبيرا بالاستخارة، حتى وان لم يتم استخدامها في كل الأحوال، ويتفاوت الأمر بين الاكتفاء بالدعاء، وأداء الصلاة مع الدعاء حسب الحالات، لكن الملاحظ ان الاستخارة أصبحت بالنسبة للبعض ''عادة'' تمارس في كل وقت وأحيانا لاتخاذ قرارات بسيطة، وكأننا بهؤلاء قد فقدوا الثقة في قدرتهم على معرفة الصح من الغلط: أو الخير من الشر. الاستخارة سبب لإتمام أو إبطال الزواج تقول السيدة حميدة وهي أم لبنت إنها لم تتردد أبدا في اللجوء الى صلاة الاستخارة عندما جاء احدهم لخطبتها، وتوضح ''كنت ارفض فكرة التعرف على شاب وإقامة علاقة معه، لذا تمنيت ان يكون زواجي عن طريق العائلة وفعلا ذلك ماتم، إذ تقدم لي شريكي وفيه كل المقاييس التي تمنيتها، مع ذلك لجأت للاستخارة للتأكد من صواب قراري ورغبتي في الارتباط به، وماحدث بعدها انني أحسست براحة تجاهه وهذا مازاد من ثقتي في المضي قدما بهذا الزواج... صليت الاستخارة مرات عدة، وأتذكر انه بعد عشرة أيام تم الارتباط''. لكن الأخير لم يستمر كثيرا وهو ما دفعنا الى سؤال محدثتنا عن تحليلها لما حدث وعلاقته بالاستخارة، وهل يعني ذلك أنها لم تعرف قراءة نتائج الاستخارة بطريقة صحيحة؟ تجيب بالنفي مشيرة الى أنها عكس ذلك مقتنعة جدا بأن خير ما فعلته هو الاستخارة وتقول ''لا أعتبر أنني اخطات، والدليل انني رزقت ببنت رائعة هي اليوم تزين حياتي بالفرحة والسعادة، وللعلم فإن مساعي حثيثة تبذلها أسرة زوجي السابق لإصلاح ذات البين لكنني أواصل الاستخارة وفي كل مرة يتضح ان أمر الرجوع لايحمل خيرا لي، كما انني أستخير الله في أمور أخرى لعل أهمها اقتناء سيارتي عن طريق قرض بنكي ودخول ابنتي للروضة... وقد لاحظت ان الإجابة عن استخارتي جاءت على شكل تسهيلات سواء في عملية اقتناء السيارة أو عند تسجيل ابنتي للدراسة في الروضة... وبالتالي لا أحمل أبدا الاستخارة أي فشل''. أما سعيد فكانت تجربته مع الاستخارة مختلفة، إذ يروي أنه عندما رغب في الزواج، طلب من أمه اختيار شريكة له، وذلك ما سعت إليه والدته التي أعجبت بإحداهن، فجلبت له صورتها، فأعجب بدوره بها، ثم تمت الخطبة، ومع اقتراب موعد العرس قرر سعيد أداء صلاة الاستخارة للتأكد من اختياره، لاسيما وأن محادثاته عبر الهاتف مع خطيبته بدأت تظهر أشياء كانت خافية، ويضيف سعيد قائلا ''قررت أن أستخير، وبالفعل قمت بذلك وبعدها بأيام رأيت مناما كنت فيه داخل سيارة فتوقفت، حاولت أن أعيد تشغيلها لكنها أبت أن تسير مجددا، فتركتها وأخذت معطفي وخرجت وذهبت بعيدا، في حقيقة الأمر بمجرد أن صحوت فسرت الحلم بضرورة التراجع عن هذا الزواج وقد وافقت أمي على هذا التفسير، وبالفعل تم فك الخطبة من جانبي، وأنا مقتنع جدا بصواب قراري، ولم أندم عليه أبدا''. من جانبها تشير إيناس إلى أنها تلجأ إلى الاستخارة كلما عرض عليها الزواج من أحدهم، أو كلما تعرفت على شاب وهي تفعل ذلك عن طريق الدعاء خصوصا وليس الصلاة، ولاتتردد في تفويض أمرها لله في كل أمر يخصها، لاسيما علاقاتها مع الطرف الآخر، من باب اقتناعها الراسخ بأن بواطن النفس لايدركها إلا الله سبحانه وتعالى وأنه ما خاب من استخار. ومن تجربتها الشخصية تعبر عن رضاها التام بنتائج دعائها المستمر، التي كشفت في كل مرة حقيقة الآخرين مما مكنها من تجنب ''كوارث إنسانية''.
الأغلبية لاتعرف الاستخارة والمتعلمات أكثر لجوءا إليها لكن انتشار استخدام الاستخارة، لايعني أنها أمر معمم، وذلك ما تؤكده الدراسة التي أعدتها الدكتورة صباح عياشي مومني المختصة في علم الاجتماع، والتي أدرجت الاستخارة ضمن المقاييس التي اعتمدتها في أطروحة الدكتوراه حول التكافؤ الأسري والتكامل بين الزوجين والتي تعرضت فيها لكيفية اختيار الشريك عبر دراسة ميدانية شملت أسرا في 14 ولاية شمالا وجنوبا. تشير الدكتورة في تصريح للمساء بأن إدراجها لفصل حول الاستخارة قبل الزواج جاء بعد دراسة استطلاعية أولية أدركت فيها أن الاستخارة انتشرت كثيرا بين أوساط المقبلين على الزواج، لكنها تساءلت في نفس الوقت ''هل ذلك نابع من ثقافة دينية؟''. وترى محدثتنا ان اللجوء الى الاستخارة قبل اتخاذ قرار الارتباط نابع من أهمية الاختيار في هذه المسألة باعتباره أمرا حاسما، إذ تقول''إذا أخذنا موضوع حدود العلاقة بين الجنسين والاختيار للزواج الذي يعتبر من أهم مشاريع الحياة وأخطرها، نجد أن حسن الاختيار بمثابة التأشيرة التي تمكن المرء من بناء أكبر مشروع حياتي وهو تكوين أسرة وتوسيع علاقات النسق القرابي وبالتالي نسج شبكة للرباط الاجتماعي. وسوء الاختيار ينعكس سلبا على العلاقة بين الزوجين وعلى تربية الأبناء، وهذا سيؤدي الى فساد الأسرة الذي بدوره يؤدي الى فساد المجتمع''. وبرأي السيدة صباح فإن التعارف الذي يتم حاليا بين الفتيان والفتيات قبل الزواج ''إنما حكم ظاهري''، لأنه مهما كان مستوى أي طرف التعليمي أو الديني أو الفكري، فإنه لايستطيع التعرف على الشخصية الحقيقية للآخر عبر هذا النوع من التعارف، والأخطر من ذلك أنه لايمكنه التعرف على ''نواياه العميقة'' بمجرد الرؤية أو اللقاء أو الحديث معه''. ولذا تشير الى ان الدين الإسلامي ''وقف موقفا وسطا في مسألة الاختيار، فلا يذهب الى درجة الجمود بمنع رؤية كل طرف للآخر والموافقة عليه، ولا يغالي فيجعل من التعارف أو الخطبة مرحلة للمهاترات واللقاءات المتكررة بحجة التعرف العميق على الطرف الآخر، ولذا رسم سبيلين للاختيار هما الاستخارة والاستشارة''. ومن خلال نتائج الدراسة الميدانية التي قامت بها على عينة البحث وصلت محدثتنا الى ان هناك ثلاثة أنواع من الفئات، الصنف الأول يعرفون الدعاء فقط بنسة 2,8 بالمائة، وصنف ثان يعرفون الدعاء والصلاة معا بنسبة 3,13 بالمائة وصنف أخير يقر بأنه يعرف الاستخارة ولايستخدمها بنسبة 7,7 بالمائة. ''الصنف الأخير يبرر عدم لجوئه الى الاستخارة رغم معرفته بها لكون اختياره توافق واختيار والديه أو لكون المعني أو المعنية أرغم على الزواج، وهنا لامجال له للاختيار أصلا '' كما تشير الدكتورة. وعلى عكس مايعتقد فإن أغلبية المبحوثين قالوا إنهم لايعرفون الاستخارة أصلا وبلغت نسبة هؤلاء 7,70 بالمائة مع العلم أن العينة المبحوثة شملت كل فئات المجتمع من مختلف الأوساط والمستويات التعليمية. كما تشير النتائج كذلك الى ان النساء المتعلمات يلجأن أكثر من غيرهن الى الاستخارة بنوعيها وذلك بنسبة تقارب ال36 بالمائة، بالرغم من ان 56 بالمائة من نفس الفئة أشرن إلى أنهن لايعرفن الاستخارة أساسا، كما تشير النتائج الى ان استخدامها متساو بين النساء والرجال تقريبا باختلاف طفيف، إذ تبلغ نسبة 28 بالمائة لدى النساء و21 بالمائة لدى الرجال. وتفسر السيدة صباح عدم معرفة الأغلبية بالاستخارة ''لحداثتها في الثقافة الدينية بالجزائر''، كما أنها تستعرض أسبابا أخرى تتعلق بالزواج خصوصا، أهمها - حسب الدراسة - أن الأسر بصفة عامة في مختلف المناطق تعطي الأولوية للظروف الاجتماعية والى الانتماء لنفس المنطقة أو كون احد الطرفين من عائلة معروفة، فلايحتاجون للاستخارة لان قراراتهم تتخذ على أسس شخصية، كما أنها تلفت الانتباه الى أن الأهل يركزون أكثر على ''الاستشارة''. وتقول ''يكون الدعاء بطريقة روتينية وعادية للتوفيق في الزواج هو الأساس، لأنهم يجهلون حيثيات ومفهوم الاستخارة كمفهوم متداول''. كما أن الزواج في الجزائر مازال ''مشروعا اسريا'' يضبط من طرف الوالدين في إطار ماتصف ب ''الإستراتيجية القرابية''. فما يهم هو سمعة العائلة ووضعها الاجتماعي وليس المقاييس الشخصية التي يريدها المعني أو المعنية بالأمر..والكثيرون - كما تشير - يكتفون برضا الوالدين ويتحدثون عن ''المكتوب''، وعند انتفاء الاختيار تنتفي الحاجة إلى الاستخارة أساسا. سألنا الدكتورة عن مدى رضا المستجوبين الذين استخدموا الاستخارة - حسب الدراسة - فأشارت الى ان اغلبهم عبر عن رضاه بنتائجها التي ظهرت في استقرار عائلاتهم، موضحة أن أهم علامات الاستخارة التي بنوا عليها قرار القبول أو الرفض هي مدى الارتياح للطرف الآخر، رضا الأهل، الشعور بالسعادة، رؤية منام، إضافة الى مؤشرات ذاتية قد تظهر في الطرف الآخر، كزلة لسان، أو كلمات، اكتشاف حقيقة أو كذبة... الخ وترى المتحدثة ان استخدام الاستخارة له هدفان ساميان هما ''المحافظة على العلاقة بمحدوديتها'' و''الحفاظ على كرامة المرأة بتجنب العلاقات الغرامية التي قد تسبب مشاكل عدة للمرأة خصوصا''، كما ان لها هدفا اجتماعيا ساميا وهي الابتعاد عن الاختيار المبني على أساس مادي مثلما هو شائع في السنوات الأخيرة. وتحب الدكتورة ميموني تشبيه الحديث عن الاستخارة بالحديث عن ''الهدية'' وتوضح ''الهدية جميلة فهي مغلفة بطريقة رائعة، أما ما بداخلها فلا يمكن معرفته إلا إذا فتحنا الهدية... هكذا هو الإنسان مغلف بأشياء جميلة لكن ما بداخله من صفات أو متناقضات لايمكن للطرف الآخر أن يتعرف عليها، لأن هناك أشياء غيبية يصعب الوصول إلى فهمها، وهذا راجع لمحدودية قدرة الإنسان على قراءة الآخر بشكل صحيح وفهمه كما يجب، ومعرفة نواياه الحقيقية بالخصوص، لذا فإن الاستعانة بالاستخارة هي بمثابة تفويض للأمر إلى الخالق الذي يعرف وحده كوامن الأمور''.