تمكنت الحكومة التركية من تسجيل نقاط أخرى على حساب قيادة الجيش بعد أن أرغمت، بطريقة غير مباشرة، قائد هيئة الأركان وعدد من قادة مختلف الجيوش على تقديم استقالتهم في عملية شد وجذب على خلفية صلاحيات ما انفك الرئيس عبد الله غول يعمل على استعادتها لصالحه بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة. ولم تكن قضية الخلاف حول رفض الرئيس التركي ترقية ضباط رهن الحبس بتهمة التآمر على حكومته ضد رغبة قائد هيئة الأركان الجنرال اسيك كوسانير سوى الجزء الظاهر في قبضة حديدية متواصلة بين مؤسستي الرئاسة والجيش منذ أول توتر شابها سنة 2007 وخرج منها غول منتصرا. وقد اطمأن الرئيس التركي لتداعيات هذه القبضة وقلل من أهميتها على تجانس المؤسسة العسكرية وأكد في أول رد فعل له بعد الاستقالة الجماعية لضباط سامين في أعلى هرم السلطة العسكرية أن الأمور ''تسير بشكل طبيعي ولا فراغ في سلسلة القيادة''. وأشار إلى أن المجلس العسكري الأعلى سيلتئم وفقا لما كان مقررا يوم غد الإثنين وسيواصل مناقشة المواضيع المطروحة على جدول أعماله بينها ترقية بعض القادة العسكريين. ولم يتأخر الرئيس عبد الله غول لإعادة ترتيب بيت المؤسسة العسكرية في تعيين الجنرال نجدت اوزال قائدا جديدا للقوات البرية تمهيدا لتوليته منصب قيادة القوات المسلحة. ويبدو من خلال تطورات هذه القضية أن قائد هيئة الأركان في الجيش التركي وقادة القوات البرية والجوية والبحرية الذين استقالوا في قرار جماعي غير مسبوق أرادوا أن يضعوا الحكومة التركية أمام أزمة سياسية بخلفية عسكرية ولكن الخطة فشلت بدليل أن الرئيس غول نجح في احتواء الأزمة في مهدها ولم يترك لها أي مجال لتداعيات أكبر قد تهدد تجانس العلاقة بين أهم مؤسستين دستوريتين في البلاد. والمفارقة أن قيادة الجيش التركي استغلت قضية خاسرة منذ البداية بعد أن دخلت في صراع حول ترقية ضباط هم أصلا رهن الحبس وبتهمة خطيرة تخص التآمر وتدبير الانقلاب على الحكومة مما يعني أن كفة التجاذب ستميل حتما إلى جانب الحكومة التي اعتبرت ذلك بغير المنطقي ما داموا في قفص الاتهام وينتظرون الرد على فعلتهم أمام العدالة. ويتأكد من خلال حلقات مسلسل الصراع المتواتر بين الجانبين أن السلطات المدنية بدأت تستعيد المبادرة من جيش استحوذ ولعدة سنوات على الحياة السياسية التركية وأصبح الآمر الناهي في الكثير من القضايا وصلت حد الإطاحة بحكومات منتخبة بتهمة المساس بمبادئ العلمانية المقدسة لدى الجيش والمجتمع المدني التركي. ولكن معطيات الواقع السياسي في تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في أنقرة والروح الجديدة التي نفخها الثنائي غول واردوغان في حياة سياسية كانت حكرا على العلمانيين مكنت لهذا الثنائي اللعب في معسكر الجيش بعد أن تمكن من تنفيذ أهم مواد دستور البلاد التي تقر بإخضاع قيادة الجيش لسلطة رئيس البلاد. وتكرست هذه المعادلة منذ سنة 2007 وبكيفية تمكنت الرئاسة التركية بفضلها من بسط مقاربتها في إدارة الشأن العام دون أن تمس بمبادئ العلمانية التي وضع مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك مبادئها عشرينيات القرن الماضي وحتى لا تضع المجتمع المدني القوي في تركيا والذي مازال متمسكا بهذه المبادئ في مواجهة مفتوحة معها. والظاهر أن الحكومة التركية انتهجت سياسية الخطوة خطوة في تعاملها مع الجيش لكسب معركتها معه مستغلة في ذلك السياق الدولي الذي جعل مكانة جنرالات الجيش التركي تتراجع بالتدريج ضمن خطة لإدخال العسكر إلى الثكنات.