كانت مسؤولية الإنفاق فيما مضى تقع على عاتق رب الأسرة على اعتبار أنه من يعمل ومن يحسن توزيع النفقات، غير أن التطور الذي عرفه المجتمع الجزائري وخروج المرأة للعمل جعل مهمة التحكم بالميزانية والتصرف فيها يخرج عن إدارته ليستقر بيد المرأة من منطلق أن هذه الأخيرة تحسن التحكم بالميزانية، وتتمكن من تحقيق معادلة الادخار، الأمر الذي جعل بعض الأزواج يتخلون عن هذه الوظيفة. على الرغم من بقاء بعض أرباب الأسر يتحكمون في الميزانية من منطلق أنهم أدرى وأقدر على التحكم في نفقات البيت، ولأنهم أكثر حرصا على إكمال الشهر حتى لا يقعوا ضحايا الاقتراض أو الاستدانة، أو لأنهم متمسكون بعقلية مفادها أن الرجل هو من يملك صلاحية الإنفاق وهو ما تبين لنا ونحن نقوم باستطلاعنا، إذ تجلى أن الجيل القديم كان متمسكا بقاعدة أن رب الأسرة هو الذي يعمل وهو المكلف بالانفاق وأن الزوجة تتولى إدارة شؤون البيت، وإذا احتاجت لشيء ما عليها طلبه من زوجها الذي يتكفل باقتنائه، أو يقدم لها ثمنه لتشتريه بنفسها. وقد انتقلت هذه العقلية إلى بعض الشباب من الجيل الجديد، حيث جاء على لسان مواطن في مقتبل العمر متزوج أن فكرة إسناد الميزانية العائلية للزوجة غير واردة لأن المتعارف عليه أن الرجل هو من يتولى الإنفاق وهو من يحسن إدارة الشؤون المالية للعائلة، ويضيف بأن المرأة عادة لا تحسن التحكم في المال إذ نجد أنها في كثير من الأحيان تقتني بعض الأمور التي يمكنها الاستغناء عنها وهو ما يسهم في إهدار المال . ويوافقه السيد علي في العقد الخامس من عمره، الذي قال بصريح العبارة أن ما ينبغي أن يخصص للمرأة هو جزء بسيط من الميزانية لتقتني ما تحتاجه من حاجياتها الشخصية، بينما ما تبقى من الميزانية لا يخرج من جيب الزوج، لأن المرأة ببساطة لا تعرف ما الذي ينبغي لها أن تشتريه، وبالتالي فهي تشتري كل شيء، ما يجعل الميزانية تدخل في خبر كان''. .... ما يغيب عند الرجال هو التدبير المنزلي إذا كانت الفكرة الرائجة عند الجيل القديم وبعض الشباب من الجيل الجديد بأن المرأة لا تحسن إدارة الميزانية العائلية، فإن احتكاكنا ببعض السيدات من الجيل الجديد كشف عن الجانب الآخر من شخصية رجال اليوم الذين يدفعهم الشعور بالخوف من عدم القدرة على إتمام الشهر وعدم القدرة على التحكم في ميزانيتهم، من خلال الإسراف واقتناء ما يصطلح على تسميته ''بالسقايط'' دفع بهم إلى التخلي عن هذه المهمة ووضع كل الدخل بيد الزوجة التي يعتبرونها أهلا لإدارة الميزانية والتحكم في النفقات العائلية، فهذه السيدة زبيدة، متزوجة وأم لطفلين، قالت أنها على الرغم من كونها عاملة هي وزوجها، إلا أنها تتحكم أفضل في راتبها بالمقارنة مع راتب زوجها، فتتساءل أين يذهب مال زوجها الذي ينفقه في الأسابيع الأولى من قبض الراتب. وتضيف ''أعتقد أن ما يفتقده الرجل هو حسن التدبير وهي الميزة التي تجعل المرأة تحسن إدارة نفقات العائلة''. من جهتها، قالت السيدة نوال أن المرأة تنفق أحسن من الرجل، ببساطة لأنها تعرف ما ينبغي شرائه للمنزل وما ينبغي الاستغناء عنه، على خلاف الرجال الذين تدفعهم كثرة السيولة المالية بأيديهم إلى إنفاقها كاملة حتى ولو كانت في سبيل شراء بعض المقتنيات غير الضرورية. وتصف السيدة نوال إسراف زوجها في الإنفاق بالقول أن يده ''مثقوبة'' كناية عما يأخذه من مال لا يعود منه شيء، لذا ترى أن مهمة الإنفاق خرجت مؤخرا من يد الرجال لأنهم لا يعرفون كيف يتحكمون بالميزانية. وقد ثبت لنا أيضا من خلال استطلاعنا أن عددا معتبرا من الرجال من الجيل القديم استقالوا من مهمة إدارة الميزانية العائلية بعد ما أتعبتهم وألقوا بها على عاتق زوجاتهم اللواتي قالوا عنهن أنهن يملكن القدرة على التحمل ومواصلة المشوار أكثر منهم. وما العينات التي وقفنا عندها إلا دليلا على ذلك، إذ تقول السيدة يمينة، البالغة من العمر 50 سنة، أن زوجها فقد القدرة على التحكم في الميزانية وبات لا يعرف ما الذي ينبغي شراؤه وما يجب التخلي عنه، بل أصبح يجد صعوبة في الإنفاق، ومن أجل هذا، تنازل عن هذه المهمة وحملني المسؤولية، وعلى الرغم من أنني لم أقم بهذا الدور مطلقا، إلا أني نجحت في التكفل بالميزانية العائلية، ومثيلات السيدة يمينة كثيرات من اللائي وقفت عندهن ''المساء''. ......وشهد شاهد من أهلها لا حاجة لنا للسؤال عن من يحسن إدارة الميزانية العائلية بعد ما اتضح لنا ونحن نجري استطلاعنا، لأن بعض الرجال اعترفوا بأن زوجاتهم أحسن منهم في ترشيد السياسة الانفاقية بالعائلة، فهذا الشاب حكيم سائق سارة متزوج وأب لطفلين قال ''أنه يقف عاجزا أمام قدرة زوجته على التحكم في الميزانية، في الوقت الذي يفشل هو في إدارة النفقات العائلية، ويضيف ''بمجرد ما أمسك راتبي، آخذ منه ما أحتاجه من مصروف جيب وأسلم زوجتي كل الراتب، لأن ما يهمني في النهاية هو التمكن من إتمام الشهر دون اقتراض، وهو الأمر الذي تتمكن من تحقيقه هي''، الرأي الذي يشاطره سعيد، موظف بمؤسسة عمومية، جاء على لسانه أن درجة الخوف لديه من عدم القدرة على إتمام الشهر يدفعه إلى التخلي عن المسؤولية الانفاقية حتى لا تلومه الزوجة في آخر الشهر عن تبذيره للراتب، الأمر الذي يدفعه إلى تقديم راتبه لزوجته وتحميلها المسؤولية في حال ما إذا عجزت عن التحكم في زمام الأمور، وقال أيضا أن المرأة أدرى بما يحتاجه المنزل من حاجيات قد تغيب عن ذهن الزوج، لذا من المستحسن إسناد مهمة الإنفاق للزوجة. وحدثنا مواطن آخر عن السبب الذي دفعه إلى التخلي عن هذا الدور، على الرغم من أنه يعتبره من الالتزامات الرئيسية للرجل، كونه رب الأسرة، حيث قال ''رغبتي في التنصل من بعض المسؤوليات كمسؤولية إدارة الميزانية العائلية خاصة وأنني شخص مبذر دفعني إلى التخلي عن لعب هذا الدور، فعلى الأقل أتجنب لوم الزوجة الدائم لي عما أنفقه من مال في اليوم، من أجل هذا أقدم لها كل الراتب وأقتطع منه ما أحتاجه كمصروف. ويضيف ''ولا أعتبر هذا انتقاصا في رجولتي وإنما أراه منفذا للراحة، كما أن النساء بطبعهن يمتلكن الرغبة في إظهار قدراتهن على التحكم في زمام الأمور، وهو ما أحققه لزوجتي التي تشعر بالرضا''. ويرى بعض علماء الاجتماع أن إدارة ميزانية المنزل لا يُشترط أن تكون بيد الرجل أو المرأة؛ لأنهما مكملان لبعضهما، لذا بات من الضروري وجود إدارة للصرف والترشيد؛ لأن الترشيد أمر ضروري في وقتنا هذا، إذ ينبغي على رب الأسرة تنويع الدخل وعدم الاكتفاء بالمرتب الشهري، ومحاولة العيش بالدخل الإضافي، ويحاول أن يضع دخلاً ثابتاً، بحيث يكون هذا الدخل خاصاً بالأزمات. أمّا دور الأم فهو ضروريّ في توعية الأبناء وفي تحديد الأولويّات، فهناك ما يجب شراؤه وهناك ما يمكن الاستغناء عنه وهناك أيضاً ما لا حاجة إليه.